المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب العشرونفي ذِكْر مناظرة بين قدري وسُنّي

- ‌ أي قول التزمه الملتزم كان خيرًا من نفي الخلق

- ‌سر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده

- ‌الباب الحادي والعشرونفي تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المَقْضي

- ‌الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه

- ‌الأصل الثاني: أنه سبحانه حيّ حقيقة

- ‌الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا

- ‌الباب الثاني والعشرونفي إثبات حكمة الربِّ تعالى في خَلْقه وأَمْره، وذِكْر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها

- ‌الباب الثالث والعشرونفي استيفاء شُبَه النافين للحكمة والتعليل، وذِكْر الأجوبة عنها

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌ الجواب الخامس:

- ‌ الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌ الجواب الحادي عشر:

- ‌الجواب الثاني عشر:

- ‌الجواب الثالث عشر:

- ‌الجواب الرابع عشر:

- ‌الجواب الخامس عشر:

- ‌الجواب السادس عشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌ الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌ الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الوجه الثاني عشر:

- ‌ الوجه الثالث عشر:

- ‌ الوجه الرابع عشر:

- ‌ الوجه الخامس عشر:

- ‌الوجه السادس عشر:

- ‌ الوجه السابع عشر:

- ‌ الوجه الثامن عشر:

- ‌ الوجه التاسع عشر:

- ‌ الوجه العشرون:

- ‌ الوجه الحادي والعشرون:

- ‌ الوجه الثاني والعشرون:

- ‌الوجه الثالث والعشرون:

- ‌ الوجه الخامس والعشرون:

- ‌الوجه السادس والعشرون:

- ‌الوجه السابع والعشرون:

- ‌الوجه الثامن والعشرون:

- ‌ الوجه التاسع والعشرون:

- ‌ الوجه الثلاثون:

- ‌الوجه الحادي والثلاثون:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون:

- ‌الوجه الثالث والثلاثون:

- ‌ الوجه الرابع والثلاثون:

- ‌ الوجه الخامس والثلاثون:

- ‌الوجه السادس والثلاثون:

- ‌فصلالوجه السابع والثلاثون:

- ‌الوجه الثامن والثلاثون:

- ‌الوجه التاسع والثلاثون:

- ‌الوجه الأربعون:

- ‌الباب الرابع والعشرونفي معنى قول السلف: «من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه»

- ‌ما الفرق بين كون القدر خيرًا وشرًّا، وكونه حلوًا ومرًّا

- ‌الباب الخامس والعشرونفي امتناع إطلاق القول نفيًا وإثباتًا: «إن الربّ تعالى مريد للشرّ وفاعل له»

- ‌الباب السادس والعشرونفيما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»…(1)من تحقيق القدر وإثباته، وما تضمّنه الحديث من الأسرار العظيمة

- ‌الباب السابع والعشرونفي دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك» وبيان ما في هذا الحديث من القواعد

- ‌فصلوقوله: «أسألك بكل اسم هو لك

- ‌الباب الثامن والعشرونفي أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه

- ‌كيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة

- ‌الباب التاسع والعشرونفي انقسام القضاء والحُكْم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجَعْل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والإنشاء إلى كوني متعلِّق بخلقه، وإلى ديني متعلِّق بأمره، وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال

- ‌القضاء في كتاب الله نوعان:

- ‌الباب الموفي ثلاثينفي ذِكْر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

- ‌ثبت مصادر الدراسة والتحقيق

الفصل: ‌سر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده

قال السني: عدم إرادة الله سبحانه للعبد ومشيئته أن يفعل لا يوجب كون الفعل غير مقدور له؛ فإنه سبحانه لا يريد من نفسه أن يعينه عليه مع كونه أقدره عليه، ولا يلزم من إقداره عليه وقوعه حتى توجد منه إعانة أخرى، فانتفاء تلك الإعانة لا يُخرِج الفعل عن كونه مقدورًا للعبد؛ فإنه قد يكون قادرًا على الفعل لكن يتركه كسلًا وتهاونًا وإيثارًا لفعل ضده، فلا يصرف الله عنه تلك الموانع، ولا يوجب عدم صرفها كونه عاجزًا عن الفعل؛ فإن الله سبحانه يعلم أنه قادر عليه بالقدرة التي أقدره بها، ويعلم أنه لا يريده مع كونه قادرًا عليه، فهو سبحانه يريد له ومنه الفعل، ولا يريد من نفسه إعانته وتوفيقه، وقطع هذه الإعانة والتوفيق لا يُخرِج الفعل عن كونه مقدورًا له، وإن جعلَتْه غير مراد.

و‌

‌سر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده

، فمن لم يحط معرفة بهذا الفرق لم ينكشف له حجاب المسألة.

قال الجبري: إما أن تقول: إن الله علم أن العبد لا يفعل، أو لم يعلم ذلك، والثاني محال، وإذا كان قد علم أنه لا يفعله صار الفعل ممتنعًا قطعًا؛ إذ لو فعله لانقلب العلم القديم جهلًا.

قال السني: هذه حجة باطلة من وجوه:

أحدها: أن هذا بعينه يقال فيما علم الله أنه لا يفعله وهو مقدور له؛ فإنه لا يقع البتّة مع كونه مقدورًا له، فما كان جوابك عن ذلك فهو جوابنا لك.

وثانيها: أن الله سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، فهو يعلم أنه لا يفعله لعدم إرادته له، لا لعدم قدرته عليه.

ص: 37

وثالثها: أن العلم كاشف لا موجِب، وإنما الموجِب مشيئة الربّ تعالى، والعلم يكشف حقائق المعلومات.

عدنا إلى الكلام على الآية التي احتج بها القدري، وبيان أنه لا حجة له فيها من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه قال: {مَا أَصَابَكَ} ، ولم يقل:(ما أصبت).

الثاني: أن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والمصيبة.

الثالث: أنه قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، فالإنسان هو فاعل السيئات ويستحق عليها العقاب، والله هو المنعم عليه بالحسنات عملًا وجزاء، والعادل فيه بالسيئات قضاء وجزاء، ولو كان العمل الصالح من نفس العبد كما كان السيئ من نفسه لكان الأمران كلاهما من نفسه، والله سبحانه قد فرق بين النوعين.

وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه»

(1)

.

فصل

(2)

قال الجبري: أول الآية مُحْكَم، وهو قوله:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وآخرها متشابه، وهو قوله:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].

(1)

تقدم تخريجه في (1/ 158).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 248 - 255).

ص: 38

وقال القدري: بل آخرها مُحْكَم، وأولها

(1)

متشابه.

قال السني: أخطأتما جميعًا، بل كلاهما محكم مُبِين، وإنما أُتيتما من قلة الفهم في القرآن وتدبره، فليس بين اللفظين تناقض لا في المعنى ولا في العبارة؛ فإنه سبحانه ذكر عن هؤلاء الناكلين عن الجهاد أنهم إنْ {تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يقولوا لرسوله:{هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} ، أي: بسبب ما أمرتنا به من دينك، وترْكنا ما كنّا عليه؛ أصابتنا هذه السيئات؛ لأنك أمرتنا بما أوجبها، فالسيئات ههنا هي المصائب، والأعمال التي ظنّوا أنها سبب المصائب هي التي أُمِروا بها، وقولهم في السيئة التي تصيبهم:{هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يتناول مصائب الجهاد التي حصلت لهم من الهزيمة والجِرَاح، وقتْل من قُتِل منهم، ويتناول مصائب الرزق على وجه التطيّر والتشاؤم، أي أصابنا هذا بسبب دينك.

كما قال تعالى عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، أي إذا جاءهم ما يُسرّون به ويتنعمّون به من النعم قالوا: نحن أهل ذلك ومستحقوه، وإن أصابهم ما يسوؤهم قالوا: هذا بسبب ما جاء به موسى.

وقال أهل القرية للمرسَلين: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18]، وقال قوم صالح له:{اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}

(2)

[النمل: 47]، وكانوا يقولون لِمَا ينالهم بسبب الحرب: هذا منك؛ لأنك أمرتنا بالأعمال الموجِبة له. وللمصائب

(1)

«م» : «وآخرها» سبق قلم.

(2)

«م» «د» : (إنا تطيرنا) الآية، ووقعت على الصواب في «ج» .

ص: 39

الحاصلة من غير جهة العدو: وهذا منك أيضًا؛ أي بسبب مفارقتنا لديننا ودين آبائنا والدخول في طاعتك، وهذه حال كل من جعل طاعة الرسول سببًا لشرّ أصابه من السماء أو من الأرض، وهؤلاء كثير في الناس، وهم الأقلون عند الله قدرًا، الأرذلون عنده، ومعلوم أنهم لم يقولوا:{هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} بمعنى: أنك أحدثتها.

ومن فهم هذا تبين له أن قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] لا يناقض قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، بل هذا تحقيق له؛ فإنه سبحانه بيّن أن النعم والمصائب كلها من عنده، فهو الخالق لها، المقدّر لها، المبتلي خلقه بها، فهي من عنده ليس بعضها خَلْقًا له وبعضها خَلْقًا لغيره، فكيف يضاف بعضها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضها إلى الله تعالى؟! ومعلوم أن الرسول لم يُحْدِثها، فلم يبقَ إلا ظنهم أنه سبب لحصولها، إما في الجملة كحال أهل التطيّر، وإما في الواقعة المعيّنة كحال اللائمين له في الجهاد.

فأبطل الله سبحانه ذلك الوهم الكاذب والظن الباطل، وبيّن أن ما جاء به لا يوجب شرًّا البتّة، بل الخير كله فيما جاء به، والشر بسبب أعمالهم وذنوبهم، كما قال الرسل لأهل القرية:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19].

ولا يناقض هذا قول صالح لقومه: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النمل: 47]، وقوله تعالى عن قوم فرعون:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131]، بل هاتان

(1)

النسبتان نظير هاتين

(1)

تحرفت في «م» «ج» إلى: «هذه» ، وفي «د»:«هذا» ، والسياق يقتضي المثبت.

ص: 40

النسبتين في هذه الآية، وهي نسبة السيئة إلى نفس العبد، ونسبة الحسنة والسيئة إلى أنهما من عند الله.

فتأمل اتفاق القرآن وتصديق بعضه بعضًا، فحيث جعل الطائر معهم، والسيئة من نفس العبد، فهو على جهة السبب والموجِب، أي لأن الشر والشؤم الذي أصابكم هو منكم ومعكم، فإن أسبابه قائمة بكم، كما تقول: شرُّك منك، وشؤمك فيك، وطائرك معك.

وحيث جعل ذلك كله من عنده فهو لأنه الخالق له، المجازي به عدلًا وحكمة، فالطائر يراد به العمل وجزاؤه، فالمضاف إلى العبد العمل، والمضاف إلى الربِّ الجزاء، فطائركم معكم طائر العمل، وطائركم عند الله طائر الجزاء.

فما جاءت به الرسل ليس سببًا لشيء من المصائب، ولا تكون طاعة الله ورسوله سببًا لمصيبة قط، بل طاعة الله ورسوله لا توجب إلا خيرًا في الدنيا والآخرة، ولكن قد يصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم وتقصيرهم في طاعة الله ورسوله، كما لحقهم يوم أحد ويوم حنين، وكذلك ما امتُحِنوا به من الضراء وأذى الكفار لهم، ليس هو بسبب نفس إيمانهم ولا هو موجَبه، وإنما امتُحِنوا به ليخلّص ما فيهم من الشر، فامتُحِنوا بذلك كما يُمْتَحن الذهب بالنار ليخلّص منه غشّه، والنفوس فيها ما هو من مقتضى طبيعتها، فالامتحان يمحّص المؤمن من ذلك الذي هو من موجِبات طبعه، كما قال تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، وقال:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154].

ص: 41

فطاعة الله ورسوله لا تجلب إلا خيرًا، ومعصيته لا تجلب إلا شرًّا، ولهذا قال سبحانه:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، فإنهم لو فقهوا الحديث لعلموا أنه ليس في الحديث الذي أنزله الله على رسوله ما يوجب شرًّا البتّة، ولعلموا أنه سبب كل خير، ولو فقهوا لعلموا أن العقول والفطر تشهد بأن مصالح المعاش والمعاد متعلقة بما جاء به الرسول، فلو فقهوا القرآن علموا أنه أمرهم بكل خير، ونهاهم عن كل شر.

وهذا مما يبين أن ما أمر الله به يُعلم حُسْنه بالعقل، وأنه كله مصلحة ورحمة ومنفعة وإحسان، بخلاف ما يقوله كثير من أهل الكلام الباطل: إنه سبحانه قد يأمر العباد بما لا مصلحة لهم فيه، بل يأمرهم بما فيه مضرّة لهم، وقول هؤلاء تصديق وتقرير لقول المتطيّرين بالرسل.

فصل

ومما يوضح الأمر في ذلك أنه سبحانه لما قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] عقّب ذلك بقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] وذلك يتضمن أشياء:

منها: تنبيه أمته على أن رسوله الذي شهد له بالرسالة إذا أصابه ما يكره فمن نفسه، فما الظن بغيره؟!

ومنها: أن حجة الله قد قامت عليهم بإرساله، فإذا أصابهم سبحانه بما يسوؤهم لم يكن ظالمًا لهم في ذلك؛ لأنه قد أرسل رسوله إليهم يعلمهم بما فيه مصالحهم، وما يجلبها لهم، وما فيه مضرتهم، وما يجلبها لهم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.

ص: 42

ومنها: أنه سبحانه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقًّا، فلا يضره جحد هؤلاء الجاهلين الظالمين المتطيّرين به لرسالته، وقد شهد له ربّ السماوات والأرض.

ومنها: أنهم أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتها حجة على إبطال رسالته، فشهد الله له بالرسالة، وأخبر أن شهادته كافية، فكان في ضمن ذلك إبطال قولهم أن المصائب من عند الرسول، وإثبات أنها من عند أنفسهم بطريق التنبيه والأولى.

ومنها: إبطال قول الجهمية المُجبِرة ومَن وافقهم في قولهم: إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب.

ومنها: إبطال قول القدرية الذين يقولون: إن أسباب الحسنات والسيئات ليست من الله، بل هي من العبد.

ومنها: ذم من لم يتدبر القرآن ويفقهه، وأن إعراضه عن تدبره وفقهه يوجب له من الضلال والشقاء بحسب إعراضه.

ومنها: إثبات الأسباب، وإبطال قول من ينفيها، ولا يرى لها ارتباطًا بمسبَّباتها.

ومنها: أن الخير كله من الله، والشر كله من النفس، فإن الشر هو الذنوب وعقوباتها، والذنوب من النفس وعقوباتها مترتبة عليها، والله هو الذي قدّر ذلك كله وقضاه، فكلٌّ من عنده قضاءً وقدرًا، وإن كانت نفس العبد سببه، بخلاف الخير والحسنات فإن سببها مجرد فضل الله ومنّه وتوفيقه، كما تقدم تقريره.

ص: 43

ومنها: أنه سبحانه لما ردَّ قولهم: إن الحسنة من الله والسيئة من رسوله، وأبطله بقوله:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} = دفع وهْم من توهّم أن نفسه لا تأثير لها في السيئة، ولا هي منها أصلًا بقوله:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وخاطبه بهذا تنبيهًا لغيره كما تقدم.

ومنها: أنه قال في الرد عليهم: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، ولم يقل: من الله لمّا جمع بين الحسنات والسيئات، والحسنة مضافة إلى الله من كل وجه، والسيئة إنما تضاف إليه قضاءً وقدرًا وخلقًا، وأنه خالقها كما هو خالق الحسنة، فلهذا قال:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .

وهو سبحانه إنما خلقها لحكمة، فلا تضاف إليه من جهة كونها سيئة، بل من جهة ما تضمّنته من الحكمة والعدل والحمد، وتضاف إلى النفس كونها سيئة.

ولما ذكر الحسنة مفردة عن السيئة قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، ولم يقل: من عند الله، فالخير منه، وأنه موجَب أسمائه وصفاته، والشر الذي هو بالنسبة إلى العبد شر من عنده سبحانه، فإنه مخلوق له، خلقه عدلًا منه وحكمة.

ثم قال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ، ولم يقل: من عندك؛ لأن النفس طبيعتها ومقتضاها ذلك، فهو من نفسها، والجميع من عند الله، فالسيئة من نفس الإنسان بلا ريب، والحسنة من الله بلا ريب، وكلاهما من عنده سبحانه قضاءً وقدرًا وخلقًا، ففرق بين ما من الله وبين ما من عَبْده

(1)

،

(1)

هكذا مجوّدة في «م» ، وفي «ج»:«عنده» ، وأهملت في «د» ، وكلاهما محتمل.

ص: 44

والشر لا يضاف إلى الله إرادة ولا محبَّة ولا فعلًا ولا وصفًا ولا اسمًا؛ فإنه لا يريد إلا الخير، ولا يحب إلا الخير، ولا يفعل شرًّا، ولا يوصف به، ولا يسمى باسمه، وسنذكر في باب دخول الشر في القضاء الإلهي وجه نسبته إلى قضائه وقدره إن شاء الله

(1)

.

فصل

(2)

وقد اختُلِف في كاف الخطاب في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، هل هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو هي لكل واحد من الآدميين؟

فقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه: «الحسنة: ما فتح الله عليه يوم بدر من الغنيمة والفتح، والسيئة: ما أصابه يوم أحد: أَنْ شُجّ في وجهه، وكُسِرَت رَباعيّته»

(3)

.

وقالت طائفة: بل المراد جنس ابن آدم، كقوله:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، روى

(4)

سعيد، عن قتادة:{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال: «عقوبة يا ابن آدم بذنبك»

(5)

.

(1)

وهو الباب الحادي والعشرون الآتي في (81).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 273 - 275).

(3)

تقدم تخريجه في (2/ 27).

(4)

«د» : «ثم روى» ، بإقحام حرف العطف، ولا وجه له.

(5)

أخرجه الطبري (7/ 241).

ص: 45

ورجحت طائفة والزجاج

(1)

القول الأول، واحتجوا بقوله:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} ، قالوا: وأيضًا فإنه لم يتقدم ذكر الإنسان ولا خطابه، وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما حكاه الله عنهم، فلو كانوا هم المرادين لقال:(ما أصابهم، أو ما أصابكم) على طريق الالتفات.

قالوا: وهذا من باب التنبيه؛ لأنه إذا كان سيد ولد آدم وهذا حكمه فكيف بغيره؟

ورجحت طائفة القول الآخر، واحتجت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم لا يصدر عنه ما يوجب أن تصيبه سيئة.

قالوا: والخطاب وإن كان له في الصورة فالمراد به الأمة، كقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1].

قالوا: ولما كان أول الآية خطابًا له أجرى الخطاب جميعه على وجه واحد، فأفرده في الثاني والمراد الجمع، والمعنى: وما أصابكم من سيئة فمن أنفسكم، فالأول له والثاني لأمته، ولهذا لما أفرد إصابة السيئة قال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ رَحُبَت ثُّمَّ رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 25 - 26]، فأخبر أن الهزيمة بذنوبهم

(1)

«والزجاج» انفردت به «د» ، وما في «معاني القرآن» (2/ 79) يخالفه ويوافق القول الآخر، وانظر:«البسيط» (6/ 615 - 618).

ص: 46

وإعجابهم، وأن النصر بما أنزله على رسوله وأيّده به، إذ لم يكن منه من سبب الهزيمة ما كان منهم.

وجمعت طائفة ثالثة بين القولين وقالوا: صورة الخطاب له صلوات الله وسلامه عليه والمراد العموم، كقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، ثم قال:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2]، ثم قال:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 3]، وكقوله:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65 - 66]، وقوله:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94].

قالوا: وهذا الخطاب نوعان:

نوع يختص لفظه به، لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]، ثم قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2].

ونوع يكون الخطاب له وللأمة، وأفرده بالخطاب لكونه هو المواجِه بالوحي، وهو الأصل فيه، والمبلغ للأمة، والسفير بينهم وبين الله.

وهذا معنى قول كثير من المفسرين: الخطاب له والمراد غيره، ولم يريدوا بذلك أنه لم يُخاطَب بذلك أصلًا، ولم يُرَد به البتّة، بل المراد أنه لما كان إمام الخلائق ومقدَّمهم ومتبوعهم= أُفرِد بالخطاب، وتبعته الأمة في حكمه، كما يقول السلطان لمقدَّم العساكر: اخرجْ غدًا، وانزلْ بمكان كذا، واحملْ على العدو وقت كذا.

ص: 47

قالوا: فقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، هو خطاب له، وجميع الأمة داخلون في ذلك بطريق الأولى، بخلاف قوله:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} فإن هذا له خاصة.

قالوا: وهذه الشرطية لا تستلزم الوقوع، بل تربط الجزاء بالشرط، وأما وقوع الشرط والجزاء فلا تدل عليه، فهو مقدّر في حقه، محقّق في حق غيره، والله أعلم.

قال القدري: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدّرة، والنعم والمصائب مقدّرة؛ فلِمَ فرّق سبحانه بين الحسنات التي هي النعم، والسيئات التي هي المصائب، فجعل هذه منه سبحانه، وهذه من نفس الإنسان، والجميع مقدَّر؟

(1)

.

قال السني: بينهما فروق:

الفرق الأول: أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع بلا كسب منهم أصلًا، بل الرب تعالى يُنعِم عليهم بالعافية والرزق والنصر وإرسال الرسل وإنزال الكتب وأسباب الهداية، فيفعل ذلك بمن لم يكن منه سبب يقتضيه، ويُنشِئ للجنة في الآخرة خلقًا يُسكنهم إيّاها بغير سبب منهم، ويُدخِل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة بلا عمل، وأما العقاب فلا يعاقِب أحدًا إلا بعمله.

الفرق الثاني: أن عمل الحسنات من إحسان الله ومنّه، وتفضّله عليه بالهداية والإيمان، كما قال أهل الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، فخلْقُ الربّ تعالى لهم الحياةَ

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 259 - 266).

ص: 48

والسمعَ والبصرَ والعقولَ والأفئدةَ، وإرسالَ الرسل، وتبليغَهم البلاغ الذي اهتدوا به، وإلهامَهم الإيمان، وتحبيبَه إليهم، وتزيينَه في قلوبهم، وتكريهَ ضده إليهم= كلُّ ذلك من نعمه، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8].

فجميع ما يتقلّب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب سابق يوجب ذلك لهم، ومن غير حول ولا قوة منهم إلا به، وهو خالق نفوسهم، وخالق أعمالها الصالحة، وخالق جزائها، وهذا كله منه سبحانه، بخلاف الشر؛ فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد، وذنبُهُ من نفسه.

وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله؛ فشكر ربّه على ذلك؛ فزاده من فضله عملًا صالحًا، ونعمًا يفيضها عليه، وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه استغفر ربّه وتاب، فزال عنه سبب الشر، فيكون دائمًا شاكرًا مستغفرًا، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه.

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «الحمد لله» فيشكر الله، ثم يقول:«نستعينه ونستغفره» نستعينه على طاعته، ونستغفره من معصيته، ونحمده على فضله وإحسانه، ثم قال:«ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» لمّا استغفره من الذنوب الماضية استعاذ به من الذنوب التي لم تقع بعد، ثم قال:«ومن سيئات أعمالنا» فهذه استعاذة من عقوبتها كما تقدم، ثم قال:«من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له» فهذه شهادة للربّ تعالى بأنه المتصرّف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، وأنه يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء، فإذا هدى عبدًا لم يضله أحد، وإذا أضله لم يهده أحد، وفي

ص: 49

ذلك إثبات ربوبيته وقدرته، وعلمه، وحكمته، وقضائه، وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه، وكل هذا مقدمة بين يدي قوله:«وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»

(1)

، فإن الشهادتين إنما تتحقق بحمد الله، واستعانته، واستغفاره، واللجأ إليه، والإيمان بأقداره.

والمقصود: أنه سبحانه فرّق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو اجتماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه، ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به، وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه، فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه، وهذا الشر والسيئة بذنوبكم، فاستغفروه يرفعه عنكم، وأصله من شرور أنفسكم، فاستعيذوا به يخلصكم منها، ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بأنه وحده هو الذي يهدي ويضل، وهو الإيمان بالقدر، فادخلوا عليه من بابه؛ فإن أزمّة الأمور بيديه، فإذا فعلتم ذلك صدَق منكم

(2)

شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان، فلو اقتصر لهم على الجمع دون الفرق أعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه والتوبة من ذنوبه، والاستعاذة من شرها، وقام في قلبه شاهد الاحتجاج على ربّه بالقدر، وتلك حجة داحضة تبع الأشقياء فيها إبليس، وهي لا تزيد صاحبها إلا شقاء وعذابًا، كما زادت إبليس بُعدًا وطردًا عن ربّه، وكما زادت المشركين ضلالًا وشقاء حتى قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وكما تزيد

(1)

تقدم تخريجه في (1/ 279).

(2)

«منكم» من «ج» .

ص: 50

الذي يقول يوم القيامة: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57] حسرةً وعذابًا.

ولو اقتصر لهم على الفرق دون الجمع لغابوا به عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللّجَأ إلى الله في الهداية والتوفيق، والاستعاذة به من شرّ النفس وسيئات العمل، والافتقار التام إلى إعانته وفضله، فكان في الجمع والفرق بيان حق العبودية، وسيأتي تمام الكلام على هذا الموضع العظيم القدر ــ إن شاء الله ــ في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما

(1)

.

الفرق الثالث: أن الحسنة يضاعفها الله سبحانه وينمّيها، ويكتبها للعبد بأدنى سعي، ويثيب على الهمّ بها، والسيئة لا يؤاخذ على الهمّ بها، ولا يضاعفها، ويبطلها بالتوبة، والحسنة الماحية، والمصائب المكفّرة، فكانت الحسنة أولى بالإضافة إليه، والسيئة أولى بالإضافة إلى النفس.

الفرق الرابع: أن الحسنة التي هي الطاعة والنعمة يحبها ويرضاها، فهو سبحانه يحب أن يطاع، ويحب أن يُنعِم ويُحسِن ويجود، وإنْ قدّر المعصية وأراد المنع، فالطاعة أحب إليه، والبذل والعطاء آثر عنده، فكان إضافة نوعي الحسنة إليه، وإضافة نوعي السيئة إلى النفس أولى.

ولهذا تأدّب العارفون من عباد الله بهذا الأدب، فأضافوا إليه النعم والخيرات، وأضافوا الشرور إلى محلها، كما قال إمام الحنفاء:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهْوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهْوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78 - 80]، فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه، وقال الخضر: {أَمَّا

(1)

وهو الباب التاسع والعشرون الآتي في (377).

ص: 51

السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، ثم قال:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]، وقال مؤمنو الجن:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].

الفرق الخامس: أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها من كل وجه وبكل اعتبار كما تقدم، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه، وأما السيئة فهو سبحانه إنما قدرها وقضاها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه، فإن الربّ تعالى لا يفعل سوءًا قط، كما لا يوصَف به، ولا يُسمَّى باسمه، بل فِعْله كله حُسْن وخير وحكمة ومصلحة، كما قال تعالى:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ}

(1)

[آل عمران: 26]، وقال أعرف الخلق به:«والشر ليس إليك»

(2)

، فهو لا يخلق شرًّا محضًا من كل وجه، بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة، وإن كان في بعضه شرٌّ جزئي إضافي، وأما الشرّ الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزّه عنه، وليس إليه.

الفرق السادس

(3)

: أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها فهي أمور وجودية متعلقة بمشيئة الربّ وقدرته ورحمته وحكمته، وليست أمورًا عدمية تضاف إلى غير الله، بل هي كلها أمور وجودية، وكل موجود

(1)

في جميع النسخ: «بيده الخير» .

(2)

جزء من حديث أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 277 - 281).

ص: 52

حادث فالله مُحْدِثُهُ وخالقه.

وذلك أن الحسنات إما فعْل مأمور، أو ترْك محظور، والترك أمر وجودي، فترْك الإنسان لما نُهِي عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب العذاب، وبغضه له، وكراهته له، ومنْع نفسه إذا هويته وطلبته منه= أمور وجودية، كما أن معرفته بأن الحسنات ـ كالعدل والصدق ـ حسنة، وفعله لها أمر وجودي.

والإنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على وجه الكراهة لها، والامتناع منها، وكفّ النفس عنها، قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، وقال تعالى:{(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ} [النازعات: 40]، وقال:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

وفي «الصحيحين»

(1)

عنه صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومَن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلْقى في النار» .

وقد جعل صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان، وهو أصل الترك، فقال: «مِنْ أوثق عرى الإيمان

(2)

: الحب في الله، والبغض في الله»

(3)

.

(1)

البخاري (16)، ومسلم (43) من حديث أنس.

(2)

من قوله: «وهو أصل الترك» إلى هنا ساقط من «م» .

(3)

أخرجه الطيالسي (783)، وابن أبي شيبة (31059)، وأحمد (18524) من حديث البراء، ومدار إسناده على ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وقد اضطرب في إسناده أيضًا.

وفي الباب عدة شواهد بين ضعيف ومنكر، انظر:«إتحاف الخيرة» (1/ 96)، «السلسلة الصحيحة» (998).

ص: 53

وقال: «مَنْ أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان»

(1)

.

وجعل إنكار المنكر بالقلب من مراتب الإيمان، وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه، فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض والامتناع والمنع لله.

وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبوديهم ليست تركًا محضًا، بل تركًا صادرًا عن بغض ومعاداة وكراهة، وهي أمور وجودية هي عبودية للقلب، يترتب عليها خلو الجوارح من العمل، كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة هي عبودية للقلب، تترتب عليها آثارها في الجوارح.

وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وهو إثبات تألّه القلب لله ومحبته، ونفي تألّهه لغيره وكراهته، فلا يكفي أن يعبد الله، ويحبّه، ويتوكل عليه، وينيب إليه، ويخافه، ويرجوه= حتى يترك عبادة غيره، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وخوفه، ورجاءه، ويبغض ذلك.

(1)

أخرجه أبو داود (4681)، والطبراني في «الكبير» (7613) من حديث أبي أمامة بإسناد لا بأس به، وله شاهد حسن من حديث أنس الجهني عند أحمد (15638)، والترمذي (2521).

ص: 54

فهذه كلها أمور وجودية، وهي الحسنات التي يثيب الله عليها.

وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة، ولا يكرهها بقلبه، ويكف نفسه عنها، بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه، فلا يثاب على هذا الترك، فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم، لكن قد يثاب على اعتقاده تحريمها، وإن لم يكن له إليها داعية البتّة.

فالترك ثلاثة أقسام: قسم يثاب عليه، وقسم يعاقَب عليه، وقسم لا يثاب ولا يعاقَب.

فالأول: ترك العالم بتحريمها، الكافّ نفسه عنها لله، مع قدرته عليها.

والثاني: كترك مَن يتركها لغير الله لا لله، فهذا يعاقَب على تركه لغير الله، كما يعاقَب على فعله لغير الله؛ فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب، فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة.

والثالث: كترك من لم يخطر على قلبه علمًا ولا محبة ولا كراهة، بل بمنزلة ترك النائم والطفل.

فإن قيل: كيف يعاقَب على ترك المعصية حياء من الخلق، وإبقاء على جاهه بينهم، وخوفًا منهم أن يتسلّطوا عليه، والله تعالى لا يذم على ذلك ولا يمنع منه؟

قيل: لا ريب أنه لا يعاقَب على ذلك، وإنما يعاقَب على تقرّبه إلى الناس بالترك ومراءاتهم به، وأنه قد تركها خوفًا من الله ومراقبة له، وهو في الباطن بخلاف ذلك، فالفرق بين ترْك يَتقرّب به إليهم ويرائيهم به، وترْك يكون

ص: 55

مصدره الحياء منهم وخوف أذاهم له وسقوطه من أعينهم، فهذا لا يعاقب عليه، بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض يحبه الله من حفظ مقام الدعوة إلى الله، وقبولهم منه ونحو ذلك.

وقد تنازع الناس في الترك: هل هو أمر وجودي أم عدمي؟

(1)

والأكثرون على أنه وجودي.

وقال أبو هاشم وأتباعه: هو عدمي، وإن المأمور يعاقَب على مجرد عدم الفعل، لا على ترك يقوم بقلبه.

وهؤلاء رتبوا الذم والعقاب على العدم المحض.

والأكثرون يقولون: إنما يثاب من ترك المحظور على ترك وجودي يقوم بنفسه، ويعاقَب تارك المأمور على ترك وجودي يقوم بنفسه، وهو امتناعه وكفّه نفسه عن فعل ما أُمِر به.

إذا تبين هذا؛ فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية، فهو سبحانه الذي حبّب الإيمان والطاعة إلى العبد، وزيّنه في قلبه، وكرّه إليه أضدادها.

وأما السيئات فمنشؤها من الجهل والظلم؛ فإن العبد لا يفعل القبيح إلا لعدم علمه بكونه قبيحًا، أو لهواه وشهوته مع علمه بقبحه، فالأول جهل والثاني ظلم، ولا يترك حسنة إلا لجهله بكونها حسنة، أو لرغبته في ضدها لموافقته هواه وغرضه.

وفي الحقيقة فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو كان علمه تامًّا

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 281 - 294).

ص: 56

برجحان ضررها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصّة العقل، فإنه إذا علم أن إلقاءه نفسه من مكان عالٍ يضره لم يقدم عليه، وكذلك لُبْثه تحت حائط مائل، وإلقاء نفسه في ماء مُغْرِق، وأَكْله طعامًا مسمومًا، لا يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة، بل هذه فطرة فطر الله عليها الحيوان بهيمه وناطقه، ومن لم يعلم أن ذلك يضره كالطفل والمجنون والسكران الذي انتهى سكره؛ فقد يفعل ذلك.

وأما من أقدم على ما يضره مع علمه بما فيه من الضرر، فلابد أن يقوم بقلبه أن منفعته له راجحة، فلابد من رجحان المنفعة عنده إما في الظن وإما في المظنون، ولو جزم راكب البحر بأنه يغرق ويذهب ماله لم يركبه أبدًا، بل لابد من رجحان الانتفاع في ظنه، وإن أخطأ في ذلك.

وكذلك الذنوب والمعاصي، فلو جزم السارق بأنه يُؤخذ ويُقطع لم يقدم على السرقة، بل يظن أنه يَسلم ويَظفر بالمال، وكذلك القاتل والشارب والزاني، فلو جزم طالب الذنب بأنه يحصل له الضرر الراجح لم يفعله، بل إما أن لا يكون جازمًا بتحريمه، أو لا يجزم بعقوبته، بل يرجو العفو والمغفرة، أو أن يتوب

(1)

، أو يأتي بحسنات تمحو أثره.

وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة، واستيلاء سلطانها على قلبه، بحيث غيّبته عن مطالعة مَضرّة الذنب، والغفلة من أضداد العلم، فالغفلة والشهوة أصل الشر كله، قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].

(1)

«د» : «وأن يتوبو» ، بالواو في الموضعين، والمثبت موافق لما في «مجموع الفتاوى» ، وهو الأليق بالسياق.

ص: 57

وينبغي أن يُعْلَم أن الهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل، وإلا فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولابدّ ضررًا راجحًا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع؛ فإن الله سبحانه جعل في النفس حبًّا لما ينفعها وبغضًا لما يضرها، فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررًا راجحًا، ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحِجَى والنُّهى واللُّب.

فالبلاء مُرَكَّب من تزيين الشيطان وجهل النفس، فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صورة المنافع واللذات والطيبات، ويُغفِلها عن مطالعتها لمضرتها، فيتولّد من بين هذا التزيين وهذا الإغفال والإنساء لها إرادة وشهوة، ثم يمدها بأنواع التزيين، فلا يزال يقوى حتى يصير عزمًا جازمًا يقترن به الفعل، كما زيّن للأبوين الأكل من الشجرة، وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية.

فالتزيين هو سبب إتيان

(1)

الخير والشر، كما قال تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وقال:{(7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، وقال في تزيين الخير:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، وقال في تزيين النوعين:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108]، فتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والمؤمنين، وتزيين الشر والضلال بواسطة الشياطين من الجن والإنس، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137].

(1)

«م» «ج» : «إيثار» ، والمثبت من «د» أقرب للمعنى.

ص: 58

وحقيقة الأمر أن التزيين إنما يغترّ به الجاهل؛ لأنه يُلْبِسُ له الباطلَ والضارَّ المؤذي صورةَ الحق والنافعَ الملائم.

فأصل البلاء كله من الجهل وعدم العلم، ولهذا قال الصحابة:«كل مَن عصى الله فهو جاهل» .

قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]، وقال تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّهُ فَأَنَّهُ غَفُورٌ} [الأنعام: 54].

قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقالوا: «كل من عصى الله فهو جاهل، ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب» .

وقال قتادة: «أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عُصي الله به فهو جهالة، عمدًا كان أو لم يكن، وكل مَن عصى الله فهو جاهل» .

وقال مجاهد: «من عمل ذنبًا من شيخ أو شاب فهو بجهالة» .

وقال: «من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته» .

وقال هو وعطاء: «الجهالة العمد» .

وقال مجاهد: «من عمل سوءًا خطأ أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع منه» .

ذكر هذه الآثار ابن أبي حاتم.

قال: «وروي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك: خطأ أو عمدًا» .

ص: 59

وروى عن مجاهد والضحاك: ليس من جهالته

(1)

أن لا يعلم حلالًا ولا حرامًا، ولكن من جهالته حين دخل فيه.

وقال عكرمة: الدنيا كلها جهالة

(2)

.

ومما يبين ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وكل من خشيه فأطاعه بفعل أوامره وترك مناهيه فهو عالم، كما قال تعالى:{(8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

وقال رجل للشعبي: أيها العالم، فقال:«لسنا بعلماء، إنما العالم من يخشى الله»

(3)

.

وقال ابن مسعود: «كفى بخشية الله علمًا، وبالاغترار بالله جهلًا»

(4)

.

وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يقتضي الحصر من الطرفين: أي لا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالمًا إلا مَن

(5)

يخشاه، فلا يخشاه إلا عالم، وما من عالم إلا وهو يخشاه، فإذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم.

(1)

«د» «م» : «جهالة» ، والمثبت من «ج» موافق لما في مصدر القول.

(2)

انظر: «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 897 - 898)(4/ 1301)، «جامع البيان» (6/ 507 - 510).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (36818)، والدارمي (264).

(4)

أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (46)، وابن أبي شيبة (35674).

(5)

«من» من «ج» .

ص: 60

لكن وقع الغلط في مسمى العلم الملازم للخشية، حيث يظن أنه يحصل بدونها، وهذا ممتنع؛ فإنه ليس في الطبيعة أن لا يخشى النار والأسد والعدو من هو عالم بها، مواجه لها، وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ونحو ذلك، فأمنُهُ في هذه المواطن دليل عدم علمه، وأحسن أحواله أن يكون معه ظن لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني.

فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس؛ فإنها كانت عن علم لا عن جهل.

وبقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]، وقال عن قوم فرعون:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال:{وَعَادًا وَثَمُودًا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقال موسى لفرعون:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَاؤُلَا إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وقال:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام: 20]، يعني القرآن ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وقال:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، وقال:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، والجحود إنكار الحق بعد معرفته، وهذا كثير في القرآن.

قيل: حجج الله لا تتناقض، بل كلها حق يصدّق بعضها بعضًا، فإذا كان

ص: 61

سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء وقد أقرّ به وبرسالته، وبأنه حرّم ذلك، وتوعّد عليه بالعقاب، ومع ذلك فَحَكَم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء، فكيف بمن أشرك به، وكفر بآياته، وعادى رسله، أليس ذلك أجهل الجاهلين؟!

وقد سمّى تعالى أعداءه جاهلين بعد إقامة الحجة عليهم، فقال:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة

(1)

، وعلموا أنه صادق.

وقال تعالى: {خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، فالجاهلون هنا الكفار الذين علموا أنه رسول الله.

فهذا العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل، بل يُثبِت له العلم، ويَنفي عنه في موضع واحد، كما قال تعالى عن السحرة من اليهود:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]، فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة، ونفى عنهم العلم النافع الموجِب لترك المضار.

وهذا نكتة المسألة وسرّ الجواب، فما دخل النار إلا عالم، ولا دخلها إلا جاهل.

وهذا العلم يجتمع

(2)

مع الجهل في الرجل الواحد، يوضحه: أن الهوى والغفلة والإعراض تصدّ عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على

(1)

«د» : «بعد إقامة الحجة عليهم» .

(2)

«م» : «لا يجتمع» ، وحذفها أشبه بما يليها من تقرير.

ص: 62

التفصيل، وتقيم لصاحبه شبهًا وتأويلات تعارضه، فلا يزال المقتضي يضعف والمعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن، ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كل وجه.

فلو علم إبليس أنّ تركه السجود لآدم يبلغ به ما بلغ، وأنه يوجب له أعظم العقوبة، وتيقن ذلك؛ لم يتركه، ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ليقضي أمره، وينفذ قضاءه وقدره.

ولو ظنَّ آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة خرجا من الجنة، وجرى عليهما ما جرى؛ ما قرباها.

ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما جرى عليهم، وما يصيبهم يوم القيامة وجزموا بذلك؛ لما عادوهم.

قال تعالى عن قوم لوط: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر: 36]. وقال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ: 54]. وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانًا: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]، وقال:{أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد: 14]، وقال:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]، وهو مرض الشك.

ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم لما كانوا في الدرك الأسفل من النار، بل هذا بعد قيام الحجة عليهم

(1)

وعلمهم الذي لم

(1)

من قوله: «لما كانوا في الدرك» إلى هنا ساقط من «م» .

ص: 63

ينفعهم، فالعلم يضعف قطعًا بالغفلة والإعراض واتباع الهوى وإيثار الشهوات، وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل والحكمة.

فالعلم يُراد به العلم التام المستلزم لأثره، ويراد به المقتضي، وإن لم يتم بوجود شروطه وانتفاء موانعه، فالثاني يجامع الجهل دون الأول، فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم.

وإذا كان كذلك، فعدم العلم ليس أمرًا وجوديًا، بل هو كعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة، والعدم ليس شيئًا حتى يستدعي فاعلًا مؤثرًا فيه، بل يكفي فيه عدم مشيئة ضده، وعدم السبب الموجِب لضده.

والعدم المحض لا يضاف إلى الله؛ فإنه شر، والشر ليس إليه.

فإذا انتفى هذا العلم الجازم عن العبد، ونفسه بطبعها متحركة مريدة، وذلك من لوازم نشأتها= تحركت بمقتضى الطبع والشهوة، وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة، فوقعت في أسباب الشر ولا بدّ.

فصل

(1)

والله سبحانه قد أنعم على عباده ــ من جملة إحسانه ونعمه ــ بأمرين، هما أصل السعادة:

أحدهما: أنْ خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة، فكل مولود

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 295 - 297).

ص: 64

يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشَبَّهَ ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها

(1)

.

وثبت عنه أنه قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا»

(2)

.

فإذا تُرِكت النفس وفطرتَها لم تؤثْر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئًا، ولم تشرك به، ولم تجحد كماله وربوبيته، وكان أحب شيء إليها، وأطوع شيء لها، وآثر شيء عندها، ولكن يفسدها

(3)

من يقترن بها من شياطين الجن والإنس بتزيينه وإغوائه، حتى ينغمس

(4)

موجبها وحكمها.

الأمر الثاني: أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة، ومكَّنهم من أسبابها، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه، ففي كل نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له.

وقد هدى الله كل عبد إلى أنواع من العلم يمكنه التوصّل بها إلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك، لكن قد يُعرض العبد عن طلب علم ما

(1)

تقدم تخريجه في (1/ 103).

(2)

جزء من حديث أخرجه مسلم (2865) من طريق عياض بن حمار.

(3)

«د» «ج» : «يعدها» ، والمثبت من «م» أليق، وموافق لـ «مجموع الفتاوى» (14/ 296).

(4)

كذا في الأصول، ولعلها:«ينطمس» ، والله أعلم.

ص: 65

ينفعه فلا يريده ولا يعرفه، وكونه لا يريد ذلك ولا يعرفه أمر عدمي، فلا يضاف إلى الرب لا هذا ولا هذا؛ فإنه من هذه الحيثية شرّ، والذي يُضاف إلى الرب علمُه به، وقضاؤه له بعدم مشيئته لضده، وإبقائه على العدم الأصلي، وهو من هذه الجهة خير؛ فإن العلم بالشرّ خير من الجهل به وعدم رفعه بإثبات

(1)

ضدّه، إذا كان مقتضى الحكمة كان خيرًا، وإن كان شرًّا بالنسبة إلى محله، وسيأتي تمام تقرير هذا في باب دخول الشر في القضاء الإلهي، إن شاء الله

(2)

.

فصل

(3)

وههنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية، نسبتها إلى القلب كنسبة حياة البدن إليه، فإذا أمد عبده بتلك الحياة أثمرت له من محبته، وإجلاله، وتعظيمه، والحياء منه، ومراقبته، وطاعته مثل ما تثمر حياة البدن له من التصرف والفعل، وسعادة النفس ونجاتها وفلاحها بهذه الحياة، وهي حياة دائمة سرمدية لا تنقطع.

ومتى فُقِدتْ هذه الحياة، واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية الحيوانية؛ كانت ضالة معذّبة شقية، ولم تسترح راحة الأموات، ولم تعش عيش الأحياء، كما قال تعالى:{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا} [الأعلى: 10 - 13]، فإن الجزاء من جنس

(1)

«د» : «بإتيان» .

(2)

في الباب الواحد والعشرين (81).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (14/ 296 - 298).

ص: 66

العمل، فإنه في الدنيا لمّا لم يحي الحياة النافعة الحقيقية التي خُلِق لها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتًا عديم الإحساس= كانت حياته في الآخرة كذلك.

فإن مقصود الحياة حصول ما يُنْتفع به، ويُلْتذ به، والحي لا بُدَّ له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة، كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء، فهو يختار الموت ويتمناه ولا يحصل له، فلا هو مع الأحياء ولا هو مع الأموات.

إذا عُرِف هذا، فالشر من لوازم عدم

(1)

هذه الحياة، وعدمها شر، وهو ليس بشيء حتى يكون مخلوقًا، والله خالق كل شيء، فإذا أمسك عن عبده هذه الحياة كان إمساكها خيرًا بالنسبة إليه سبحانه، وإن كان شرًّا بالإضافة إلى العبد؛ لفوات ما يلتذّ، ويتنعَّم به.

فالسيئات من طبيعة النفس، ولم

(2)

تمد بهذه الحياة التي تحول بينها وبينها، فصار الشر كله من النفس، والخير كله من الله، والجميع بقضائه وقدره وحكمته، وبالله التوفيق.

فصل

قال القدري: نحن نعترف بهذا جميعه، ونقرّ بأن الله خلق الإنسان مريدًا، ولكن جعله على خِلْقة يريد بها، فهو مريدٌ بالقوة والقبول، أي خَلَقه قابلًا لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريدًا لهذا المعنى وهذا المعنى فليس ذلك بخلْق

(1)

«عدم» ساقطة من «م» .

(2)

كذا في الأصول، وفي اتساقه مع ما قبله شيء، فلعلها:«التي لم» .

ص: 67

لله، ولكنه هو الذي أحدثه بنفسه، ليس هو من إحداث الله فيه.

قال الجبري: هذه الإرادة حادثة، فلابدّ لها من مُحْدِث، فالمُحْدِث لها إما أن يكون نفس الإنسان، أو مخلوق خارج عنها، أو ربها وفاطرها وخالقها جملة، والقسمان الأولان محالان، فتعين الثالث.

أما المقدمة الأولى فظاهرة، إذ المُحْدِث إما النفس، وإما أمر خارج عنها، والخارج عنها إما الخالق وإما المخلوق.

وأما المقدمة الثانية فبيانها أن النفس لا يصح أن تكون هي المُحْدِثة لإراداتها، فإنها إما أن تحدثها بإرادة، أو بغير إرادة، وكلاهما ممتنع؛ فإنها لو توقف إحداثها لها على إرادة أخرى فالكلام فيها كالكلام في الأولى، ويلزم التسلسل إلى غير نهاية، فلا توجد إرادة حتى تتقدّمها إرادات لا تتناهى.

وإن لم يتوقف إحداثها على إرادة منها بطل أن تكون هي المؤثّرة في إحداثها؛ إذ وقوع الحادث بلا إرادة من الفاعل المختار محال.

وإذا بطل أن تكون مُحْدِثة للإرادة بإرادة، وأن تحدثها بغير إرادة؛ تعيّن أن يكون المُحْدِث لتلك الإرادة أمرًا خارجًا عنها، فحينئذ إما أن يكون مخلوقًا، أو يكون هو الخالق سبحانه، والأول محال؛ لأن ذلك المُحْدِث إن كان غير مريد لم يمكنه جعل الإنسان مريدًا، وإن كان مريدًا فالكلام في إرادته كالكلام في إرادة الإنسان سواء، فتعين أن يكون المُحْدِث لتلك الإرادة هو الخالق لكل شيء، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

قال القدري: قد اختلفتْ طرق أصحابنا في الجواب عن هذا الإلزام.

ص: 68

فقال أبو عُثمان الجاحظ

(1)

: العبد يحدث أفعاله بغير إرادة منه، بل بمجرد قدرته وعلمه بما في الفعل من الملاءمة، فإذا علم موافقة الفعل له وهو قادر عليه أحدثه بقدرته وعلمه.

وأنكر توقفه على إرادة مُحْدَثة، وأنكر حقيقة الإرادة في الشاهد، ولم ينكر الميل والشهوة، ولكن لا يتوقف إحداث الفعل عليهما، فإن الإنسان قد يفعل ما لا يشتهيه، ولا يميل إليه.

وخالفه جميع الأصحاب، وأثبتوا الإرادة الحادثة، ثم اختلفوا في سبب حدوثها.

فقالت طائفة منهم: كون النفس مريدة أمر ذاتي لها، وما بالذات لا يُعلَّل، ولا يُطلب سبب وجوده، وطريقة التعليل تُسْلك ما لم يمنع منها مانع، واختصاص الذات بالصفة الذاتية لا يُعَلَّل، فهكذا اختصاص النفس بكونها مريدة هو أمر ذاتي لها، وبذلك كانت نفسًا، فقول القائل: لِمَ أرادت كذا؟ وما الذي أوجب لها إرادته؟ كقوله: لمَ كانت نفسًا؟ وكقوله: لمَ كانت النار مُحْرِقة أو متحركة؟ ولِمَ كان الماء مائعًا سَيّالًا؟ ولِمَ كان الهواء خفيفًا؟

فكون النفس مريدة متحركة بالإرادة هو معنى كونها نفسًا، فهو بمنزلة قول القائل: لِمَ كانت نفسًا؟ وحركتها بمنزلة حركة الفلك، فهي خُلِقت هكذا.

وقالت طائفة أخرى: بل الله سبحانه أحدث فيها الإرادة، والإرادة صالحة للضدين، فخلق فيها إرادة تصلح للخير والشر، فآثرت هي أحدهما على الآخر بشهوتها وميلها، فأعطاها قدرة صالحة للضدين وإرادة صالحة

(1)

انظر: «المنية والأمل» (175)، «الملل والنحل» (1/ 75).

ص: 69

لهما، فكانت القدرة والإرادة من إحداثه سبحانه، واختيارها أحد المقدورين المرادين من قبلها، فهي التي رجّحته.

قالوا: والقادر المختار يرجّح أحد مقدوريه على الآخر بغير مرجِّح، كالعطشان إذا قُدِّم له قدحان متساويان من كل وجه، والهارب إذا عَنَّ له طريقان كذلك؛ فإنه يرجح أحدهما بلا مرجِّح.

فالله سبحانه أحدث فيه إرادة الفعل، ولكن الإرادة لا توجب المراد، فأحدثها فيه امتحانًا له وابتلاء، وأقدره على خلافها، وأمره بمخالفتها، ولا ريب أنه قادر على مخالفتها، فلا يلزم من كونها مخلوقة لله حاصلة بإحداثه؛ وجوب الفعل عندها.

وقال أبو الحسين البصري: إنّ فعل العبد يتوقف على الداعي والقدرة، وهما من الله خَلْقًا فيه، وعندهما يجب وجود الفعل باختيار العبد وداعيه، فيكون هو المُحْدِث له بما فيه من الداعي والقدرة.

فهذه طرق أصحابنا في الجواب عما ذكرتم.

قال السني

(1)

: لم تتخلّصوا بذلك من الإلزام، ولم تبيّنوا به بطلان حجتهم المذكورة، فلا منعتم مقدماتها وبيّنتم فسادها، ولا عارضتموها بما هو أقوى منها، كما أنهم لم يتخلصوا من إلزامكم، ولم يبيّنوا بطلان دليلكم، وكان غاية ما عندكم وعندهم المعارضة، وبيان كل منكم تناقض الآخر، وهذا لا يفيد نصرة الحق وإبطال الباطل، بل يفيد بيان خطئكم وخطئهم، وعدولكم وإيّاهم عن منهج الصواب.

(1)

انظر لما سيأتي من تقرير: «منهاج السنة» (3/ 235 - 243).

ص: 70

فنقول وبالله التوفيق: مع كل منكما صواب من وجه وخطأ من وجه.

فأما صواب الجبري فمن جهة إسناد الحوادث كلها إلى مشيئة الله وخلقه وقضائه وقدره، والقدري خالف الضرورة في ذلك، فإنّ كون العبد مريدًا فاعلًا بعد أن لم يكن أمرٌ حادث، فإما أن يكون له مُحْدِث وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له مُحْدِث لزم حدوث حوادث بلا مُحْدِث، وإن كان له مُحْدِث فإما أن يكون هو العبد، أو الله سبحانه، أو غيرهما.

فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث سببها، ويلزم التسلسل، وهو باطل ههنا بالاتفاق؛ لأن العبد كائن بعد أن لم يكن، فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها.

وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد، فتعين أن يكون الله هو الخالق لإرادة العبد وقدرته وإحداثه وفعله.

وهذه مقدمات يقينية لا يمكن القدح فيها، فمن قال: إن إرادة العبد وإحداثه حصل بغير سبب اقتضى حدوث ذلك، وأن العبد أحدث ذلك، وحاله عند إحداثه كما كان قبله، بل خص أحد الوقتين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه، وأنه صار مريدًا فاعلًا مُحْدِثًا بعد أن لم يكن كذلك مِن غير مَن جعله كذلك= فقد قال ما لا يُعقَل، بل يخالف صريح العقل، وقال بحدوث حوادث بلا مُحْدِث.

وقولكم: «إن الإرادة لا تُعلَّل» كلام باطل لا حقيقة له؛ فإن الإرادة أمر حادث، فلابد له من مُحْدِث.

ونظير هذا المحال قولكم في فعل الربّ تعالى: إنه بواسطة إرادة يحدثها

ص: 71

لا في محل من غير سبب اقتضى حدوثها، يكون مريدًا بها للمخلوقات. فارتكبتم ثلاث محالات: حدوث حادث بلا إرادة من الفاعل، وحدوث حادث بلا سبب حادث، وقيام الصفة بنفسها لا في محل.

وادعيتم مع ذلك أنكم أرباب المعقول والنظر، فأي معقول أفسد من هذا، وأي نظر أعمى منه؟!

وإن شئت قلت: كون العبد مريدًا أمر ممكن، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجِّح تام، والمرجِّح التام إما من العبد، وإما من مخلوق آخر، وإما من الله سبحانه، والقسمان الأولان باطلان، فتعين الثالث كما تقدم.

فهذه الحجة لا يمكن دفعها، ولا يمكن دفع العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلى إرادتنا وقدرتنا، وأنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس، فهذه الحجة لا يمكن دفعها، والجمع بين الحجتين هو الحق.

فإن الله سبحانه خالق إرادة العبد وقدرته وجاعلهما سببًا لإحداثه الفعل، فالعبد مُحْدِث لفعله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة، والله خالق ذلك له حقيقة، وخالق السبب خالق للمسبَّب، ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله لما خلق له السبب الموجِد له.

فقال الفريقان للسني: كيف يكون الربّ تعالى مُحْدِثًا لها والعبد مُحْدِثًا لها أيضًا؟

قال السني: إحداث الله لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد، فجعل العبد فاعلًا لها بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة،

ص: 72

وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به وحدثت بإرادته وقدرته، وكل من الإحداثين مستلزم للآخر، ولكن جهة الإضافة مختلفة، فما أحدثه الربّ تعالى من ذلك فهو مباين له، قائم بالمخلوق، مفعول له لا فِعْل، وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به، يعود إليه حكمه، ويُشتق له منه اسمه.

وقد أضاف الله سبحانه كثيرًا من الحوادث إليه، وأضافها إلى بعض مخلوقاته، كقوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وقال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقال:{تَوَفَّتْهُ رُسْلُنَا} [الأنعام: 61]، وقال:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وقال:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]، وقال:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [النساء: 113]، وقال:{لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل: 102]، وقال:{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [النحل: 113]، و {أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر: 73]، وقال:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42] وهذا كثير.

فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه؛ إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه، وأضافها إلى أسبابها؛ إذ هو الذي جعلها أسبابًا لحصولها، فلا تنافي بين الإضافتين، ولا تناقض بين النسبتين

(1)

.

وإذا كان كذلك تبين أن إضافة الفعل الاختياري إلى الحيوان بطريق

(1)

«ج» : «السببين» ، وأهملها في «م» ، وجوّدها في «د» .

ص: 73

التسبيب وقيامه به ووقوعه بإرادته= لا ينافي إضافته إلى الرب تعالى خلقًا ومشيئة وقدرًا.

ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، وقال لنوح: {احْمِلْ

(1)

فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40]، فالرب تعالى هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته، ونوح حملهم بفعله ومباشرته.

فصل

وأما قول الجاحظ: «إن العبد يحدث أفعاله الاختيارية من غير إرادة منه، بل بمجرد القدرة والداعي»

(2)

، فإن أراد نفي إرادة العبد وجحد هذه الصفة عنه فمكابرة لا تُنكَر من طوائف المتكلمين، فهم أكثر الناس مكابرة وجحدًا للمعلوم بالضرورة، فلا أرخص من ذلك عندهم.

وإن أراد أن الإرادة أمر عدمي وهو كونه غير مغلوب ولا مُلجَأ، فيقال: هذا العدم من لوازم الإرادة لا أنه نفسها، وكون الإرادة أمرًا عدميًا مكابرة أخرى، وهي بمنزلة قول القائل: القدرة أمر عدمي لأنها بمعنى عدم العجز، والكلام عدمي لأنه عدم الخرس، والسمع والبصر عدمي لأنهما عدم الصمم والعمى.

وأما قوله: «إن الفعل يقع بمجرد القدرة وعلم الفاعل بما فيه من الملاءمة» فمكابرة ثالثة؛ فإن العبد يجد في نفسه قدرة على الفعل، وعلمًا

(1)

في الأصول: «فاحمل» .

(2)

تقدمت حكاية قوله قريبًا في (69) وفيه اشتراطه القدرة والعلم، لا الداعي، وسيأتي تأكيده.

ص: 74

بمصلحته، ولا يفعله لعدم إرادته له؛ لما في فعله من فوات محبوب له، أو حصول مكروه إليه، فلا توجب القدرة والعلم وقوع الفعل ما لم تقارنهما الإرادة.

فصل

وأما قول الآخر: «إن كون النفس مريدة أمر ذاتي لها فلا يُعلّل

» إلى آخره، كلام في غاية البطلان، فهب أنا لا نطلب علة كونها مريدة، فكونها كذلك هو أمرٌ مخلوق فيها أم غير مخلوق؟ وهي التي جعلت نفسها كذلك، أم فاطرها وخالقها هو الذي جعلها كذلك؟ وإذا كان سبحانه هو الذي أنشأها بجميع صفاتها وطبيعتها وهيأتها فكونها مريدة هو وصف لها، وخالقها خالق لأوصافها، فهو خالق لصفة المريديّة فيها، فإذا كانت تلك الصفة سببًا للفعل، وخالق السبب خالق للمسبَّب، فالمسبَّب واقع بقدرته ومشيئته وتكوينه، وهذا مما لا ينكره إلا مكابر معاند.

فصل

وأما قول الطائفة الأخرى: إن الله سبحانه خلق فيه إرادة صالحة للضدين، فاختار هو أحدهما على الآخر، فلا ريب أن الأمر كذلك، ولكن وقوع أحد الضدين باختياره وإيثاره له وداعيته إليه لا يخرجه عن كونه مخلوقًا للربّ تعالى، مقدورًا له، مقدّرًا على العبد، واقعًا بقضاء الربّ وقدره، وأنه لو شاء لصرف داعية العبد وإرادته عنه إلى ضده.

فهذه هي البقية التي بقيت على هذه الفرقة من إنكار القدر، فلو ضموها إلى قولهم لأصابوا كل الإصابة، ولكانوا أسعد بالحق في هذه المسألة من سائر الطوائف.

ص: 75

وتحقيق ذلك: أن الله سبحانه بعدله وحكمته أعطى العبد قدرة وإرادة يتمكن بها من جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، فأعانه بأسباب ظاهرة وباطنة، ومن جملة تلك الأسباب: القدرة والإرادة، وعَرَّفه طريق الخير والشر، ونَهَجَ له الطريق، وأعانه بإرسال رسله، وإنزال كتبه، وقرن به ملائكته، وأزال عنه كل علة يحتج بها عليه.

ثم فطرهم سبحانه على إرادة ما ينفعهم، وكراهة ما يؤذيهم ويضرهم، كما فطر على ذلك الحيوان البهيم.

ثم كان كثير مما ينفعهم لا علم لهم به على التفصيل، والذي يعلمونه من المنافع أمر مشترك بينهم وبين الحيوانات.

وثَمّ أمور عظيمة هي أنفع شيء لهم، لا صلاح لهم ولا فلاح ولا سعادة إلا بمعرفتها وطلبها وفعلها، ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بوحي منه وتعريف خاص، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، تعرّفهم ما هو الأنفع لهم، وما فيه سعادتهم وفلاحهم، فصادفتهم الرسل مشتغلين بأضدادها، قد ألفوها وساكنوها، وجرت عليها عوائدهم حتى ألفتها الطباع، فأخبرتهم الرسل أنها أضر شيء عليهم، وأنها من أعظم أسباب ألمهم، وفوات لذتهم وسرورهم.

فنهضت الإرادة طالبة للسعادة والفلاح؛ إذ الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والأسماع والأبصار إلى الاستجابة.

فقام داعي الطبع والإلف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضًا له، يَعِدُ النفس ويمنّيها ويرغّبها ويرهّبها، ويزيّن لها ما ألفته واعتادته لكونه ملائمًا لها، وهو نقد عاجل، وراحة مؤثرة، ولذة مطلوبة، ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر.

ص: 76

وداعي الفلاح يدعو إلى أمر آجل في دار غير هذه الدار، لا يُنال إلا بمفارقة ملاذها وطيباتها ومسراتها، وتجرّع مراراتها، والتعرض لآفاتها، وإيثار

(1)

الغير بمحبوباتها ومشتهياتها، وجعل يقول:

خُذْ ما تراه ودَعْ شيئًا سَمعتَ به

(2)

فقامت الإرادة بين الداعيين، تصغي إلى هذا مرة وإلى هذا مرة، فههنا معركة الحرب ومحل المحنة، فقتيل وأسير، وفائز بالظفر والغنيمة.

فإذا شاء الله عز وجل رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة، فأوحى إلى ملائكته: أن ثبتوا عبدي، واصرفوا همته وإرادته إلى مرضاتي وطاعتي، كما قال تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للمَلك بقلب ابن آدم لَمّة

(3)

، وللشيطان لَمّة: فلَمّة المَلك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد

(4)

، ولَمّة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد»، ثم قرأ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرْكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]

(5)

.

(1)

«د» «م» : «وانتشار» دون إعجام، والمثبت من «ج» .

(2)

صدر بيت للمتنبي في «الديوان بشرح الواحدي» (490)، وعجزه:

في طَلْعةِ الشمس ما يغنيك عن زحلِ

(3)

اللَّمَّة: الهَمّة والخطرة تقع في القلب، «النهاية في الغريب» (4/ 273).

(4)

هكذا في الموضعين هنا: «بالوعد» ، وكذا في أكثر كتب المؤلف، والرواية:«بالحق» .

(5)

أخرجه الترمذي (2988)، والنسائي في «الكبرى» (10985)، من حديث أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن ابن مسعود يرفعه، قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب

لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص»، وصححه ابن حبان (997)، وعطاء صدوق اختلط، وقد اختُلف عنه في رواية الحديث وقفًا ورفعًا، ورجح أبو زرعة الوقف، انظر:«العلل الكبير» للترمذي (353)، «العلل» لابن أبي حاتم (2224).

ص: 77

وإذا أراد خذلان عبد أمسك عنه تأييده وتثبيته، وخلّى بينه وبين نفسه، ولم يكن بذلك ظالمًا له؛ لأنه قد أعطاه قدرة وإرادة، وعرّفه الخير والشر، وحذّره طريق الهلاك وعرّفه بها، وحضّه على سلوك طريق النجاة وعرّفه بها، ثم تركه وما اختار لنفسه، وولّاه ما تولى، فإذا وجد شرًّا فلا يلومنّ إلا نفسه.

قال القدري: فتلك الإرادة المعيّنة المستلزِمة للفعل المعيّن إن كانت بإحداث العبد فهو قولنا، وإن كانت بإحداث الربّ فهو قول الجبرية، وإن كانت بغير مُحْدِث لزم المحال.

قال السني: لا تفتقر كل إرادة من العبد إلى مشيئة خاصة من الله توجب حدوثها، بل يكفي في ذلك المشيئة العامة لجعله مريدًا؛ فإن الإرادة هي حركة النفس، والله سبحانه شاء أن تكون متحركة، وأما أن تكون كل حركة تستدعي مشيئة مفردة فلا.

وهذا كما أنه سبحانه شاء أن يكون الحي متنفّسًا، ولا يفتقر كل نفَس من أنفاسه إلى مشيئة خاصة، وكذلك شاء أن يكون هذا الماء بجملته جاريًا، ولا تفتقر كل قطرة منه إلى مشيئة خاصة

(1)

يجري بها، وكذلك مشيئته لحركات الأفلاك، وهبوب الرياح، ونزول الغيث، وكذلك خطرات القلوب،

(1)

من قوله: «وكذلك شاء» إلى هنا ساقط من «د» .

ص: 78

ووساوس الصدور، وكذلك مشيئته أن يكون العبد متكلمًا لا يستلزم أن يفرد كل حرف بمشيئة غير مشيئة الحرف الآخر.

وإذا تبين ذلك فهو سبحانه شاء أن يكون عبده شائيًا مريدًا، وتلك الإرادة والمشيئة صالحة للضدين، فإذا شاء أن يهدي عبده صرف داعيه ومشيئته وإرادته إلى ما ينفعه في معاشه ومعاده، وإذا شاء أن يضله تركه ونفسه وتخلى عنه.

والنفس متحركة بطبعها، لابدَّ لها من مراد محبوب هو مألوفها ومألوهها ومعبودها، فإن لم يكن الله وحده هو معبودها ومرادها، وإلا كان غيره لها معبودًا ومرادًا ولابدّ، فإن حركتها ومحبتها من لوازم ذاتها، فإن لم تحب ربها وفاطرها وتعبده أحبت غيره وعبدته، وإن لم تتعلّق إرادتها بما ينفعها في معادها تعلّقت بما يضرها فيه ولابد، فلا تعطيل في طبيعتها، وهكذا خُلِقت.

فإن قلت: فأين مشيئة الله لهداها وضلالها؟

قلت: إذا شاء إضلالها تركها ودواعيها، وخلّى بينها وبين ما تختاره، وإذا شاء هداها جذب دواعيها وإرادتها إليه، وصرف عنها موانع القبول، فيمدها على القدر المشترك بينها وبين سائر النفوس بإمداد وجودي، ويصرف عنها الموانع التي خلّى بينها وبين غيرها فيها، وهذا بمشيئته وقدرته، فلم يخرج شيء من الموجودات عن مشيئته وقدرته وتكوينه البتّة، لكن يكون ما شاء بأسباب وحكم.

ولو أن الجبرية أثبتت الأسباب والحِكَم لانحلت عنها عُقَد هذه

ص: 79

المسألة، ولو أن القدرية سحبت ذيل المشيئة والقدر والخلق على جميع الكائنات مع إثبات الأسباب والحِكَم والغايات المحمودة في أفعال الرب تعالى لانحلت عنها عُقَدها، وبالله التوفيق.

* * *

ص: 80