الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو سبحانه إنما أنزل الكتاب بحمده، وأرسل الرسل بحمده، وأمات خلقه بحمده، ويحييهم بحمده، ولهذا حمد نفسه على ربوبيته الشاملة لذلك كله فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وحمد نفسه على إنزال كتابه فـ {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ} [الكهف: 1]، وحمد نفسه على خلق السماوات والأرض {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، وحمد نفسه على كمال ملكه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهْوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
فحَمْدُهُ ملأ الزمان والمكان والأعيان، وعَمَّ الأحوال
(1)
كلها {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18].
وكيف لا يُحمد على خلقه كله وهو {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [السجدة: 7]، وعلى صُنْعه وقد أتقنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وعلى أمره وكلُّه حكمة ورحمة وعدل ومصلحة، وعلى نهيه وكلُّ ما نهى عنه شرٌّ وفساد، وعلى ثوابه وكلُّه رحمة وإحسان، وعلى عقابه وكلُّه عدل وحق، فلله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله.
والمقصود أنه كلما كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم حمدًا، وإذا عَدِم الحكمة ولم يقصدها بفعله وأمره عَدِم الحمد.
الوجه السادس عشر:
أنه سبحانه يحب أن يُشكر، ويجب أن يُشكر عقلًا
(1)
«د» : «الأقوال» .
وشرعًا وفطرةً، فوجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب.
وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره والخضوع له والتحدّث بنعمه والإقرار بها بجميع طرق الوجوب!
فالشكر أحب شيء إليه وأعظم ثوابًا، وله خَلَق الخلق، وأَنزَل الكتب، وشَرَع الشرائع.
وذلك يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل، ومن جملتها أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم، فإذا رأى المعافى المُبْتَلَى، والغنيُّ الفقيرَ، والمؤمنُ الكافرَ= عظم شكرُه لله، وعرف قدر نعمته عليه، وما خصَّه به وفضَّله به على غيره؛ فازداد شكرًا وخضوعًا واعترافًا بالنعمة.
وفي أثرٍ ذَكَره الإمام أحمد في «الزهد» أن موسى عليه السلام قال: «يا ربّ، هلّا سوّيتَ بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أُشْكر»
(1)
.
فإن قيل: فقد كان في المُمْكِن أن يسوّي بينهم في النعم، ويسوّي بينهم في الشكر، كما فعل بالملائكة!
قيل: لو فعل ذلك لكان الحاصل من الشكر نوع آخر، غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه، والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره.
(1)
تقدم الكلام عليه (2/ 178).
ولهذا كان شُكْرُ الملائكة وخضوعُهُم وذلُّهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له، ومن هاروت وماروت ما شاهدوه= أعلى وأكمل مما كان قبله، وهذه حكمة الربّ تعالى.
وكذلك شُكْر الأنبياء عليهم السلام وأتباعِهِم كان بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم، وانتقام الرب منهم، وما أنزل بهم من بأسه.
وكذلك شُكْر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله، المشركين به في ذلك العذاب العظيم، فلا ريب أن شكرهم حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قَدّر اشتراكَ جميعِ الخلق في النعيم، فالمحبة الحاصلة من أوليائه له، والرضا والشكر وهم يشاهدون بني جنسهم في ضد ذلك من كل وجه= أكمل وأتم.
فالضدُّ يُظهر حُسْنَهُ الضّدُّ
(1)
وبضدِّها تتبيَّن الأشياءُ
(2)
ولولا خَلْقُ القبيح لما عُرِفت فضيلةُ الجمال والحُسْن، ولولا خَلْقُ
(1)
عجز بيت من قصيدة شهيرة عُرِفت باليتيمة (30)، وقد اختلفت العلماء في نسبتها على أقوال، ورجح المنجد في مقدمة تحقيقه للقصيدة (14) جهالة قائلها، وصدر البيت:
ضِدّان لما استجمعا حَسُنا
(2)
عجز بيت للمتنبي، قيل: إنه مأخوذ من البيت السابق، كما في «الديوان بشرح الواحدي» (197)، وصدره:
ونذمّهم وبهم عرفنا فضله