الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما أمر رسوله أن يستعيذ به من الشيطان في غير موضع من كتابه، وبذلك يظهر تمام نعمته على عبده إذا أعاذه وأجاره من عدوه، فلم تكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين.
والله تعالى يحب أن يكمل نعمه على عباده المؤمنين، ويريهم نصره لهم على عدوهم، وحمايتهم منه، وظفرهم بهم، فيا لها من نعمةٍ كمُل بها سرورهم ونعيمهم، وعدْلٍ أظهره في أعدائه وخصمائه.
وما منهما إلا له فيه حكمة
…
يقصر عن إدراكها كل باحثِ
(1)
الوجه السادس والعشرون:
قوله: «أي حكمة في إبقاء إبليس إلى آخر الدهر وإماتة الرسل؟» .
فكم لله في ذلك من حكمة تضيق بها
(2)
الأوهام، فمنها: أنه سبحانه لمّا جعله مِحَكًّا ومحنة يُخْرِج به الخبيثَ من الطيب، ووليَّهُ من عدوه= اقتضت حكمته إبقاءه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه، ولو أماته لفات ذلك الغرض، كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر، ولو أهلكهم البتّة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم، فكما اقتضت حكمته امتحان أبي البشر به اقتضت امتحان أولاده من بعده به، فتحصل السعادةُ لمن خالفه وعاداه، وينحاز إليه من وافقه ووالاه.
ومنها: أنه لمّا سبق في حُكْمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة، وقد سبق له طاعة وعبادة جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر،
(1)
لم أقف عليه.
(2)
«م» : «لها» .
فإنه سبحانه لا يظلم أحدًا حسنة عملها، فأما المؤمن فيجزيه بحسناته في الدنيا وفي الآخرة، وأما الكافر فيجزيه بحسنات ما عمل في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له شيء، كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ومنها: أن إبقاءه لم يكن كرامة في حقه، فإنه لو مات كان خيرًا له، وأخف لعذابه، وأقلَّ لشره، ولكن لمّا غلُظ ذنبُهُ بالإصرار على المعصية، ومخاصمة من ينبغي التسليم لحُكْمِه، والقدح في حكمته، والحلف على اقتطاع عباده وصدّهم عن عبوديته= كانت عقوبة هذا الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلّظه، فأُبْقِي في الدنيا، وأُمْلِي له ليزداد إثمًا على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشر في العقوبة، كما كان رأسهم في الشر والكفر، ولمّا
(2)
كان مادة كل شر ـ فعنه ينشأ ـ جُوزِي في النار مثل فعله، فكل عذاب ينزل بأهل النار يُبدأ به فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلًا ظاهرًا وحكمةً بالغةً.
ومنها: أنه قال في مخاصمته لربه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، وعلم سبحانه أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والرَّوْث، أبقاه له، وقال له بلسان القدر: هؤلاء أصحابك وأولياؤك، فاجلس في انتظارهم، فكلما مرَّ بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لي لمّا مكّنتك منه، فإني أتولى الصالحين، وهم الذين يصلحون لي، وأنت ولي المجرمين الذين رغبوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي، قال تعالى:
(1)
أخرجه مسلم (2808) من حديث أنس بن مالك.
(2)
«م» : «وكما» .