الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادي والعشرون
في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المَقْضي
قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، فصدَّر سبحانه الآية بتفرّده بالملك كله، وأنه هو سبحانه الذي يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، لا غيره، فالأول تفرده بالمُلْك
(1)
، والثاني تفرده بالتصرف فيه، وأنه سبحانه هو الذي يعزّ من يشاء بما شاء من أنواع العز، ويذلّ من يشاء بسلب ذلك العز عنه، وأن الخير كله بيده، ليس لأحد معه منه شيء، ثم ختمها بقوله:{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فتناولت الآية ملكه وحده وتصرفه وعموم قدرته، وتضمنت أن هذه التصرفات كلها بيده، وأنها كلها خير، فسلْبه المُلْك عمن يشاء وإذلاله من يشاء خير، وإن كان شرًّا بالنسبة إلى المسلوب الذليل؛ فإن هذا التصرف دائر بين العدل والفضل، والحكمة والمصلحة، لا يخرج عن ذلك، وهذا كله خير يُحْمد عليه الربّ، ويُثْنى عليه به، كما يُحمد ويُثنى عليه بتنزيهه عن الشر، وأنه ليس إليه، كما ثبت في «صحيح مسلم» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يثني على ربِّه بذلك في دعاء الاستفتاح في قوله:«لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت»
(2)
.
(1)
«د» «م» : «بالمملكة» ، والمثبت من «ج» مناسب للجملة التالية له.
(2)
تقدم تخريجه في (1/ 382).
فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه، بل كل ما نُسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرًّا لانقطاع نسبته وإضافته إليه، وإلا فلو أضيف إليه لم يكن شرًّا، كما سيأتي بيانه.
وهو سبحانه خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله.
ولهذا تنزَّه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وَضْع الشيء في غير موضعه كما تقدم، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كله، والشر وَضْع الشيء في غير محله، فإذا وُضِع في محله لم يكن شرًّا، فعُلِم أن الشر ليس إليه.
وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك، فإن منها: القدوس، السلام، العزيز، الجبار، المتكبر.
فالقدوس: المنزَّه عن كل شر ونقص وعيب، كما قال أهل التفسير: هو الطاهر من كل عيب، المنزَّه عما لا يليق به، وهذا قول أهل اللغة.
وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة، ومنه بيت المقدس؛ لأنه مكان يُتَطَهَّر فيه من الذنوب، ومَن أَمَّهُ لا يريد إلا الصلاة فيه رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه
(1)
.
ومنه سمّيت الجنة: «حظيرة القدس» ؛ لطهارتها من آفات الدنيا.
ومنه سمّي جبريل: «روح القدس» ؛ لأنه طاهر من كل عيب.
(1)
وهذه الفضيلة لبيت المقدس أخرجها أحمد (6644)، والنسائي (693)، وابن ماجه (1408) من حديث عبد الله بن عمرو، وقد تقدم تخريجه (1/ 24).
ومنه قول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، فقيل: المعنى: ونقدس أنفسنا لك. فعُدِّي باللام، وهذا ليس بشيء.
والصواب أن المعنى: نقدّسك وننزّهك عما لا يليق بك.
هذا قول جمهور أهل التفسير.
قال ابن جرير: «{وَنُقَدِّسُ لَكَ} ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
قال: وقال بعضهم: نعظمك ونمجدك، قاله أبو صالح.
وقال مجاهد: نعظمك ونكبرك»
(1)
. انتهى.
وقال بعضهم: ننزّهك عن السوء، فلا ننسبه إليك. واللام فيه على حدّها
(2)
في قوله: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، لأن المعنى تنزيه الله لا تنزيه نفوسهم لأجله
(3)
.
قلت: ولهذا قرن هذا اللفظ بقولهم: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} ؛ فإن التسبيح تنزيه الله سبحانه عن كل سوء.
قال ميمون بن مهران: «سبحان الله: كلمة يُعظّم بها الربّ، ويُحاشى بها من السوء»
(4)
.
(1)
«جامع البيان» (1/ 505 - 506).
(2)
تحرفت في «د» إلى: «ضدها» .
(3)
قائل ذلك هو أبو علي في «الحجة» (2/ 151).
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (344).
وقال ابن عباس: «هي تنزيه الله من كل سوء»
(1)
.
وأصل اللفظة من المباعدة، من قولهم: سَبَحْت في الأرض؛ إذا تباعدْت فيها، ومنه:{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].
فمن أثنى على الله ونزَّهه عن السوء فقد سبَّحه، ويقال: سبَّح الله وسبَّحَ له، وقدَّسه وقدَّس له
(2)
.
وكذلك اسمه «السلام» ، فإنه الذي سلم من العيوب والنقائص، ووصْفه بالسلام أبلغ في ذلك من وصْفه بالسالم.
ومن موجبات وصفه بذلك سلامة خَلْقه من ظلمه لهم، فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر، ومن التسمية به، ومن فعله، ومن نسبته إليه، فهو السلام من صفات النقص، وأفعال النقص، وأسماء النقص، المسلم لخلقه من الظلم.
ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام، والجنة بأنها دار السلام، وتحية أهلها السلام، وأثنى على أوليائه بالقول السلام، كل ذلك السالم من العيوب.
وكذلك «الكبير» من أسمائه، و «المتكبر» .
قال قتادة وغيره: «هو الذي تكبر عن السوء»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (343)، والطبراني في «الدعاء» (1757).
(2)
انظر: «البسيط» (2/ 329).
(3)
أسنده عبد الرزاق في «التفسير» (3/ 285)، والطبري (22/ 555).
وقال أيضًا: «الذي تكبر عن السيئات»
(1)
.
وقال مقاتل: «المتعظم عن كل سوء»
(2)
.
وقال أبو إسحاق: «الذي تكبر عن ظلم عباده»
(3)
.
وكذلك اسمه «العزيز» الذي له العزة التامة، ومن تمام عزته براءته عن كل سوء وشر وعيب، فإن ذلك ينافي العزة التامة.
وكذلك اسمه «العلي» الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص، ومن كمال علوه أن لا يكون فوقه شيء، بل يكون فوق كل شيء.
وكذلك اسمه «الحميد» وهو الذي له الحمد كله، فكمال حمده يوجب أن لا يُنسب إليه شر ولا سوء ولا نقص، لا في أسمائه، ولا في أفعاله، ولا في صفاته.
فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه، مع أنه سبحانه الخالق لكل شيء، فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم.
والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء، والربُّ تعالى هو الذي جعله فاعلًا لذلك، وهذا الجعْل منه عدل وحكمة وصواب، فجعْله فاعلًا خير، والمفعول شر وقبيح.
فهو سبحانه بهذا الجعْل قد وضع الشيء موضعه، لما له في ذلك من
(1)
نسبه إليه الماوردي في «النكت والعيون» (5/ 514).
(2)
انظر: «تفسير مقاتل» (4/ 286)، «البسيط» (21/ 399).
(3)
«معاني القرآن» (5/ 151).
الحكمة البالغة التي يُحمد عليها، فهو خير وحكمة ومصلحة، وإن كان وقوعه من العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا.
وهذا أمر معقول في الشاهد؛ فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء، والحجر المكسور، واللبنة الناقصة، فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه= كان ذلك منه عدلًا وصوابًا يُمدح به، وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يُذم به المحل.
ومن وَضَع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلًا وصوابًا. وإنما السّفَه والظلم أن يضعها في غير موضعها، فمن وضع العمامة على الرأس، والنعل في الرجل، والكحل في العين، والزُّبالة في الكُنَاسة، فقد وضع الشيء موضعه، ولم يظلم النعل والزُّبالة إذ هذا محلهما.
ومن أسمائه سبحانه «العدل» و «الحكيم» الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم الحَكَم العدل في كل ما خلقه، وفي كل ما وضعه في محله وهيَّأه له.
وهو سبحانه له الخلق والأمر، فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين، ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا تعارض أمران رجّح أحسنهما وأصلحهما، وليس في الشريعة أمر يُفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه، ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده.
فإن قلت: فإذا كان وجوده خيرًا من عدمه، فكيف لا يشاء وجوده؟ وإذا كان عدمه خيرًا من وجوده، فكيف يشاء وجوده؟ فالمشيئة العامة تنقض عليك هذه القاعدة الكلية.
قلت: لا تنقضها؛ لأن وجوده وإن كان خيرًا من عدمه فقد يستلزم وجوده
(1)
فوات محبوب له هو أحب إليه من وقوع هذا المأمور من هذا المعنى، وعدم المنهي وإن كان خيرًا من وجوده فقد يكون وجوده وسيلة وسببًا إلى ما هو أحب إليه من عدمه، وسيأتي تمام تقرير ذلك في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما، إن شاء الله
(2)
.
والربّ سبحانه إذا أمر بشيء فقد أحبه ورضيه، وأراده إرادة دينية، وهو لا يحب شيئًا إلا ووجوده خير من عدمه، وما نهى عنه فقد أبغضه وكرهه، وهو لا يبغض شيئًا إلا وعدمه خير من وجوده، هذا بالنظر إلى ذات هذا وهذا، وأما باعتبار إفضائه إلى ما يحب ويكره فله حكم آخر.
ولهذا أمر سبحانه عباده أن يأخذوا بأحسن ما أُنزِل إليهم، فالأحسن هو المأمور به، وهو خير من المنهي عنه.
وإذا كانت هذه سنته في أمره وشرعه فهكذا سنته في خلقه وقضائه وقدره، فما أراد أن يخلقه أو يفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرًا من أن لا يخلقه ولا يفعله، وبالعكس، وما كان عدمه خيرًا من وجوده فوجوده شر، وهو لا يفعله، بل هو منزّه عنه، والشر ليس إليه.
فإن قلت: فلِمَ خَلَقه وهو شر؟
قلت: خَلْقه له وفِعْله خير لا شر؛ فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه، والشر يستحيل قيامه به، واتصافه به، وما كان في المخلوق من شر فلعدم
(1)
هكذا في الأصول بإعادة: «وجوده» .
(2)
وهو الباب التاسع والعشرون الآتي في (377).
إضافته ونسبته إليه، والفعل والخلق مضاف إليه؛ فكان خيرًا.
والذي يشاؤه كله خير، والذي لم يشأ وجوده بقي على العدم الأصلي وهو الشر، فإن الشرّ كله عدم، فإن سببه جهل وهو عدم العلم، أو ظلم وهو عدم العدل، وما ترتب على ذلك من الآلام فهو من عدم استعداد المحل، وقبوله لأسباب الخيرات واللذات.
فإن قلت: كثير من الناس يطلق القول بأن الخير كله من الوجود ولوازمه، والشر كله من العدم ولوازمه، والوجود خير، والشر المحض لا يكون إلا عدمًا.
قلت: هذا اللفظ فيه إجمال، فإن أريد به أنّ كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير، ووجوده خير من عدمه، وما لم يخلقه ولم يشأه فهو المعدوم الباقي على عدمه، وهو لا خير فيه، إذ لو كان فيه خير لفعله، فإنه سبحانه بيده الخير= فهذا صحيح، فالشر العدمي هو عدم الخير.
وإن أريد أن كل ما يلزم الوجود فهو خير، وكل ما يلزم العدم فهو شر= فليس بصحيح؛ فإن الوجود قد يلزمه شر مرجوح، والعدم قد يلزمه خير راجح.
مثال الأول: النار والمطر، والحر والبرد والثلج، ووجود الحيوانات، فإن هذا موجود ويلزمه شر جزئي مغمور بالنسبة إلى ما في وجود ذلك من الخير.
وكذلك
(1)
المأمور به قد يلزمه من الألم والمشقة ما هو شر جزئي
(1)
«د» : «وذلك» .
مغمور بالنسبة إلى ما فيه من الخير.
فصل
(1)
وتحقيق الأمر أن الشر نوعان: شر محض حقيقي من كل وجه، وشر نسبي إضافي من وجه دون وجه.
فالأول: لا يدخل في الوجود؛ إذ لو دخل في الوجود لم يكن شرًّا محضًا.
والثاني: هو الذي يدخل في الوجود، فالأمور التي يقال هي شرور إما أن تكون أمورًا عدمية، أو أمورًا وجودية، فإن كانت عدمية فإنها إما أن تكون عدمًا لأمور ضرورية للشيء في وجوده، أو ضرورية له في دوام وجوده وبقائه، أو ضرورية له في كماله، وإما أن تكون غير ضرورية له في وجوده ولا بقائه ولا كماله، وإن كان وجودها خيرًا من عدمها، فهذه أربعة أقسام:
فالأول: كالإحساس والحركة والتنفس للحيوان.
والثاني: كقوة الاغتذاء والنمو للحيوان المغتذي النامي.
والثالث: كصحته وسمعه وبصره وقوته.
والرابع: كالعلم بدقائق المعلومات التي العلم بها خير من الجهل، وليست ضرورية له.
وأما الأمور الوجودية فوجود كل ما يضاد الحياة والبقاء والكمال، كالأمراض وأسبابها، والآلام وأسبابها، والموانع الوجودية التي تمنع حصول الخير، ووصوله إلى المحل القابل له، المستعد لحصوله، كالمواد الرديّة
(1)
انظر: «المباحث المشرقية» (2/ 520 - 522)، «طريق الهجرتين» (1/ 334 - 340).
المانعة من وصول الغذاء إلى أعضاء البدن وانتفاعها به، وكالعقائد الباطلة، والإرادات الفاسدة المانعة لحصول أضدادها للقلب.
إذا عُرِف هذا فالشر بالذات هو عدم ما هو ضروري للشيء في وجوده أو بقائه أو كماله، ولهذا العدم لوازم هي شر أيضًا، فإن عدم العلم والعدل يلزمهما من الجهل والظلم ما هو شرور وجودية، وعدم الصحة والاعتدال يلزمهما من الألم والضرر ما هو شر وجودي.
وأما عدم الأمور المُستغنَى عنها كعدم الغنى المفرط، والعلوم التي لا يضر الجهل بها؛ فليس بشرٍّ في الحقيقة، ولا وجودها سببًا للشر؛ فإن العلم من حيث هو علم، والغنى من حيث هو غنى؛ لم يوضع سببًا للشر، وإنما يترتب الشر من عدم صفة تقتضي الخير، كعدم العفة والصبر والعدل في حق الغني، فيحصل الشر له في غناه بعدم هذه الصفات، وكذلك عدم الحكمة ووضع الشيء موضعه، وعدم إرادة الخير في حق صاحب العلم، يوجب ترتب الشر له على ذلك في علمه.
فظهر أن الشر لم يترتب إلا على عدم، وإلا فالموجود من حيث وجوده لا يكون شرًّا ولا سببًا للشر، فالأمور الوجودية ليست شرورًا بالذات، بل بالعَرَض من حيث إنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة
(1)
، فإنك لا تجد شيئًا من الأفعال التي هي شر إلا وهو كمال بالنسبة إلى الفاعل، وجهة الشر فيه بالنسبة إلى أمور أُخر.
مثال ذلك: أن الظلم يصدر عن قوة تطلب الغلبة والقهر، وهي القوة
(1)
«د» «م» : «مانعة» مهملة، والمثبت من «ج» هو الصواب.
الغضبية، التي كمالها بالغلبة، ولهذا خُلِقت، فليس في ترتب أثرها عليها شر من حيث وجوده، بل الشر عدم ترتب أثرها عليها البتّة، فتكون ضعيفة عاجزة مقهورة، وإنما الشر الوجودي الحاصل شر إضافي بالنسبة إلى المظلوم لفوات ماله أو نفسه أو تصرفه، وبالنسبة إلى الظالم لا من حيث الغلبة والاستيلاء، ولكن من حيث وضع الغلبة والقهر والاستيلاء في غير موضعه، فعدل به عن محله إلى غير محله.
فلو استعمل
(1)
قوة الغضب في قهر المؤذي الباغي من الحيوانات الناطقة والبهيمة لكان ذلك خيرًا، ولكن عدل به إلى غير محله، فوضَعَ القهر والغلبة موضع العدل والنصفة، ووَضَع الغلظة موضع الرحمة.
فلم يكن الشر في وجود هذه القوة، ولا في ترتب أثرها عليها من حيث هما كذلك، بل في إجرائها في غير مجراها.
ومثال ذلك: ماء جار في نهر إلى أرض يسقيها وينفعها، فكماله في جريانه حتى يصل إليها، فإذا عدل به عن مجراه وطريقه إلى أرض يضرها ويخرب دورها؛ كان الشر في العدول به عما أُعدّ له، وعدم وصوله إليه.
فهكذا الإرادة والغضب؛ أُعِين بهما العبد ليتوصل بهما إلى حصول ما ينفعه، وقهر ما يؤذيه ويهلكه، فإذا استُعمِلا في ذلك فهو كمالهما وهو خير، وإذا صُرِفا عن ذلك إلى استعمال هذه القوة في غير محلها، وهذه في غير محلها؛ صار ذلك شرًّا إضافيًا نسبيًا.
وكذلك النار كمالها في إحراقها، فإذا أحرقت ما ينبغي إحراقه فهو خير،
(1)
«د» «م» : «نفد» ، والمثبت من «ج» أليق.
وإن صادفت ما لا ينبغي إحراقه فأفسدته فهو شر إضافي بالنسبة إلى المحل المعيّن.
وكذلك القتل مثلًا، هو استعمال الآلة القطّاعة في تفريق اتصال البدن، فقوة الإنسان على استعمال الآلة خير، وكون الآلة قابلة للتأثير خير، وكون المحل قابلًا لذلك خير، وإنما الشر نسبي إضافي، وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه، والعدول به عن المحل المؤذي إلى غيره، هذا بالنسبة إلى الفاعل، وأما بالنسبة إلى المقتول
(1)
فهو شر إضافي أيضًا، وهو ما حصل له من التألم، وفاته من الحياة، وقد يكون ذلك خيرًا له من جهة أخرى، وخيرًا لغيره.
وكذلك الوطء؛ فإن قوة الفاعل وقبول المحل كمال، ولكن الشر في العدول به عن المحل الذي يليق به إلى محل لا يحسن ولا يليق.
وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلها جارية هذا المجرى.
فظهر أن دخول الشر في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة، لا أنها من حيث وجودها وذواتها شر.
وكذلك السجود ليس هو شرًّا من حيث ذاته ووجوده، فإذا أضيف إلى غير الله كان شرًّا بهذه النسبة والإضافة.
وكذلك كل ما وجوده كفر وشرك إنما كان شرًّا بإضافته إلى ما جعله كذلك، كتعظيم الأصنام، فالتعظيم من حيث هو تعظيم لا يُمدح ولا يُذم إلا باعتبار متعلقه، فإذا كان تعظيمًا لله وكتابه ودينه ورسوله كان خيرًا محضًا،
(1)
«ج» : «المفعول» .
وإن كان تعظيمًا للصنم وللشيطان فإضافته إلى هذا المحل جعلته شرًّا، كما أن إضافة السجود إلى غير الله جعلته كذلك.
فصل
ومما ينبغي أن يُعلم أن الأشياء المكوَّنة من موادها شيئًا فشيئًا كالنبات والحيوان، إما أن يعرض لها النقص الذي هو شر في ابتدائها، أو بعد تكوّنها.
فالأول: هو بأن يعرض لمادتها من الأسباب ما يجعلها رديَّة المزاج، ناقصة الاستعداد، فيقع الشر فيها، والنقص في خلقتها بذلك السبب، وليس ذلك بأن الفاعل حرَمه وأذهب عنه أمرًا وجوديًا به كماله، بل لأن المُنفعِل لم يقبل الكمال والتمام، وعدم قبوله أمر عدمي ليس بالفاعل، وإنما الذي بالفاعل هو الخير الوجودي الذي يقبل به كماله وتمامه، فنقصه والشر الذي حصل فيه هو من عدم إمداده بسبب الكمال، فبقي على العدم الأصلي.
وبهذا يُفهم سرّ قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، فإن ما خَلَقه فهو أمر وجودي به كمال المخلوق وتمامه، وأما عيبه ونقصه فمن عدم قبوله، وعدم القبول ليس أمرًا مخلوقًا يتعلق بفعل الفاعل، فالخلق الوجودي ليس فيه تفاوت، والتفاوت إنما حصل بسبب فَقْد هذا الخلق، فإن الخالق سبحانه لم يخلق له استعدادًا، فحصل التفاوت فيه من عدم الخلق لا من نفس الخلق، فتأمله.
والذي إلى الرب سبحانه هو الخلق، وأما العدم فليس هو بفاعل، فإذا لم تكمل مادةُ الجنين في الرحم بما يقتضي كماله وسلامة أعضائه واعتدالها حصل فيه التفاوت، وكذلك النبات.
فصل
وأما الثاني وهو الشر الحاصل بعد تكوّنه وإيجاده، فهو نوعان أيضًا:
أحدهما: أن يقطع عنه الإمداد الذي به كماله بعد وجوده، كما يقطع عن النبات إمداده بالسقي، وعن الحيوان إمداده بالغذاء، فهذا شر مضاف إلى العدم أيضًا، وهو عدم ما يكمل به.
الثاني: حصول مضادٍّ منافٍ، وهو نوعان:
أحدهما: قيام مانع في المحل يمنع تأثير الأسباب الصالحة فيه، كما تقوم بالبدن أخلاط رديّة تمنع تأثير الغذاء فيه وانتفاعه به، وكما تقوم بالقلب إرادات واعتقادات فاسدة تمنع انتفاعه بالهدى والعلم، فهذا الشر وإن كان وجوديًا، وأسبابه وجودية فهو أيضًا من عدم القوة أو الإرادة التي يدفع بها ذلك المانع، فلو وُجِدت قوة وإرادة تدفعه لم يتأثر المحل به.
مثال ذلك: أن غلبة الأخلاط واستيلاءها من عدم القوة المنضجة لها، أو القوة الدافعة لما
(1)
يحتاج إلى خروج، وكذلك استيلاء الإرادات الفاسدة هو لضعف قوة العفة والشجاعة والصبر، واستيلاء الاعتقادات الباطلة لعدم العلم المطابق لمعلومه.
فكل شر ونقص فإنما حصل بعدم سبب ضده، وعدم سبب ضده ليس فاعلًا له، بل يكفي فيه بقاؤه على العدم الأصلي.
الثاني: مانع من خارج، كالبرد الشديد والحريق والغرق ونحو ذلك مما
(1)
«د» : «والقوة الدافعة لها» .
يصيب الحيوان والنبات، فيحدث فيه الفساد، فهذا لا ريب أنه شر وجودي مستند إلى سبب وجودي، ولكنه شر نسبي إضافي، وهو خير من وجه آخر، فإن وجود ذلك الحر والبرد والماء يترتب عليه مصالح وخيرات كُلّية، هذا الشر بالنسبة إليها جزئي. فتعطيل تلك الأسباب لتفويت هذا الشر الجزئي يتضمن شرًّا أكبر منه، وهو فوات تلك الخيرات الحاصلة بها.
فإن ما يحصل بالشمس والريح والمطر والثلج والحر والبرد من مصالح الخلق أضعاف أضعاف ما يحصل بذلك من مفاسد جزئية، هي في جنب تلك المصالح كقطرة في بحر.
هذا لو كان شرها حقيقيًّا، فكيف وهي خير من وجه، وشر من وجه، وإن لم يَعلم جهة الخير فيها كثيرٌ من الناس، فما قدّرها الربّ تعالى سدى، ولا خلقها باطلًا.
وعند هذا فيقال: الوجود إما أن يكون خيرًا من كل وجه، أو شرًّا من كل وجه، أو خيرًا من وجه شرًّا من وجه، وهذا على ثلاثة أقسام: قسم خيره راجح على شره، وعكسه، وقسم مستوٍ خيره وشره، وإما أن لا يكون فيه خير ولا شر، فهذه ستة أقسام
(1)
لا مزيد عليها، فبعضها واقع وبعضها غير واقع.
فأما القسم الأول وهو الخير المحض من كل وجه الذي لا شر فيه بوجه ما، فهو أشرف الوجودات
(2)
على الإطلاق، وأكملها وأجلها، وكل خير
(1)
باعتبار أن قوله: «أو خيرًا من وجه شرًّا من وجه» مذكورٌ لبيان الأقسام التالية له، لا قسيمًا.
(2)
«د» «ج» : «الموجودات» .
وكمال فيها فهو مستفاد من خيره، وكماله في نفسه، وهي تستمد منه وهو لا يستمد منها، وهي فقيرة إليه وهو غني عنها، كلٌّ منها يسأله كماله.
فالملائكة تسأله ما لا حياة لها إلا به، من إعانته على ذكره وشكره وحسن عبادته، وتنفيذ أوامره، والقيام بما جعل إليهم من مصالح العالم العلوي والسفلي، وتسأله أن يغفر لبني آدم.
والرسل تسأله أن يعينهم على أداء رسالاته وتبليغها، وأن ينصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من مصالحهم في معاشهم ومعادهم.
وبنو آدم كلهم يسألونه مصالحهم على تنوعها واختلافها.
والحيوان كله يسأله رزقه وغذاءه وقوته وما يقيمه، ويسأله الدفع عنه، والشجر والنبات يسأله غذاءه وما يكمل به، والكون كله يسأله إمداده بقاله وحاله:{(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن: 29].
فأَكُفّ جميع العالم ممتدة إليه بالطلب والسؤال، ويده مبسوطة لهم بالعطاء والنوال، يمينه مَلْأى لا يَغيضُها نفقةٌ، سَحّاء الليل والنهار، وعطاؤه وخيره مبذول للأبرار والفجّار، له كل كمال، ومنه كل خير، له الحمد كله، وله الملك كلّه، وله الثناء كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، تبارك اسمه، وتباركت أوصافه، وتباركت أفعاله، وتباركت ذاته، فالبركة كلها له ومنه، لا يتعاظمه خير سُئِله، ولا تنقص خزائنه على كثرة عطائه وبذْلِه، فلو صُوِّر كلُّ كمال في العالم صورةً واحدة ثم كان العالم كله على تلك الصورة لكان نسبة ذلك إلى كماله وجلاله وجماله دون نسبة سراج ضعيف
(1)
إلى عين الشمس.
(1)
«ضعيف» من «ج» .
فصل
وأما الأقسام الخمسة الباقية فلا يدخل منها في الوجود إلا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة، والأقسام الأربعة لا تدخل في الوجود، أما الشر المحض الذي لا خير فيه، فذاك ليس له حقيقة، بل هو العدم المحض.
فإن قيل: إبليس شر محض، والكفر والشرك كذلك، وقد دخل في الوجود، فأي خير في إبليس، وفي وجود الكفر؟
قيل: في خلق إبليس من الحِكَم والمصالح والخيرات التي ترتبت على وجوده ما لا يعلمه إلا الله، كما سننبه على بعضه، فالله سبحانه لم يخلقه عبثًا، ولا قصد بخلقه إضرار عباده وهلاكهم، فكم لله في خلقه من حكمة باهرة، وحجة قاهرة، وآية ظاهرة، ونعمة سابغة، وهو وإن كان للأديان والإيمان كالسموم للأبدان؛ ففي إيجاد السموم من المصالح والحِكَم ما هو خير من تفويتها.
وأما الذي لا خير فيه ولا شر فلا يدخل أيضًا في الوجود؛ فإنه عبث يتعالى الله عنه، وإذا امتنع دخول هذا القسم في الوجود فدخول ما الشر في إيجاده أغلب من الخير أولى بالامتناع.
ومن تأمل هذا الوجود علم أن الخير فيه غالب؛ فإن الأمراض ــ وإن كثرت ــ فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها ــ وإن كثرت ــ فالسلامة أكثر.
ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيره غالب لأجل ما يعرض فيه من الشر
لفات الخير الغالب، وفوات الخير الغالب شر غالب، ومثال ذلك: النار، فإن في وجودها منافع كثيرة، وفيها مفاسد، ولكن إذا قابلنا بين مصالحها ومفاسدها لم تكن لمفاسدها نسبة إلى مصالحها، وكذلك المطر والرياح والحر والبرد.
وبالجملة فعناصر هذا العالم السفلي خيرها ممتزج بشرها، ولكن خيرها غالب، وأما العالم العلوي فبريء من ذلك.
فإن قيل: فهلّا خَلَقَ الخلّاق الحكيم هذه خالية من الشر، بحيث تكون خيرات محضة؟
فإن قلتم: اقتضت الحكمة خلق هذا العالم ممتزجًا فيه اللذة بالألم، والخير بالشر، فقد كان يمكن خلقه على حالة لا يكون فيه شرًّا كالعالم العلوي.
سلّمْنا أن وجود ما الخير فيه أغلب من الشر أولى من عدمه، فأي خير ومصلحة في وجود رأس الشر كله ومنبعه وقدوة أهله فيه: إبليس، وأي خير في إبقائه إلى آخر الدهر؟
وأي خير يغلب في نشأة يكون منها تسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة؟
وأي خير غالب حصل بإخراج الأبوين من الجنة، حتى جرى على الأولاد ما جرى، ولو داما في الجنة لارتفع الشر بالكلية؟
وإذا كان قد خلقهم لعبادته فكيف اقتضت حكمته أنْ صرف أكثرهم عنها، ووفّق لها الأقل من الناس؟
وأي خير يغلب في خلق الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي؟
وأي خير في إيلام غير المكلفين، كالأطفال والمجانين؟
فإن قلتم: فائدته التعويض؛ انتقض عليكم بإيلام البهائم.
ثم
(1)
وأيّ خير في خلق الدجال، وتمكينه من الظهور والافتتان به؟ وإذ قد اقتضت الحكمة ذلك فأي خير حصل في تمكينه من إظهار تلك الخوارق والعجائب؟
وأي خير في السحر وما يترتب عليه من المفاسد والمضار؟
وأي خير في إلباس الخلق شِيَعًا، وإذاقة بعضهم بأس بعض؟
وأي خير في خلق السموم وذوات السموم، والحيوانات العادِيَة المؤذية بطبعها؟
وأي خير في خراب هذه البِنْية بعد خلقها في أحسن تقويم، وردّها إلى أرذل العمر بعد استقامتها وصلاحها؟
وكذلك خراب هذه الدار ومحو أثرها.
فإن كان وجود ذلك خيرًا غالبًا فإبطاله إبطال للخير الغالب.
دع هذا كله، فأي خير راجح أو مرجوح في النار، وهي دار الشر الأعظم والبلاء الأكبر؟
ولا خلاص لكم عن هذه الأسئلة إلا بسدّ باب الحكمة والتعليل،
(1)
«ثم» من «ج» .
وإسناد الكون إلى محض المشيئة، أو القول بالإيجاب الذاتي، وأن الربّ لا يفعل باختياره ومشيئته.
وهذه الأسئلة إنما ترد على مَن يقول بالفاعل المختار، فلهذا لجأ القائلون به إلى إنكار التعليل جملة، فاختاروا أحد المذهبين، وتحيّزوا إلى إحدى الفئتين، وإلا فكيف تجمعون بين القول بالحكمة والتعليل وبين هذه الأمور؟!
فالجواب بعد أن نقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بل في تحقيق هذه الكلمات الجواب الشافي.
{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191]، {(37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا} [الدخان: 38 - 39]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، {(11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، و {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [السجدة: 7].
فما في خلقه سبحانه من تفاوت، بل هو في غاية التناسب، واقع على
أكمل الوجوه، وأقربها إلى حصول الغايات المحمودة والحِكَم المطلوبة، فلم تكن تحصل تلك الحِكَم والغايات التي انفرد الله سبحانه بعلمها على التفصيل، وأطلع من شاء من عباده على أيسر اليسير منها، إلا بهذه الأسباب والبدايات
(1)
.
وقد سأله الملائكة المقربون عن جنس هذه الأسئلة وأصلها فقال: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، فأقرّوا له بكمال العلم والحكمة، وأنه في جميع أفعاله على صراط مستقيم، وقالوا:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، ولما ظهر لهم بعض حكمته فيما سألوا عنه، وأنهم لم يكونوا يعلمون قال:{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].
فصل
ونحن نذكر أصولًا مهمة يتبين بها جواب هذه الأسئلة، وقد اعترف كثير من المتكلمين ــ ممن له نظر في الفلسفة والكلام ــ أنه لا يمكن الجواب عنها إلا بالتزام القول بالموجِب بالذات، أو القول بإبطال الحكمة والتعليل، وأنه سبحانه لا يفعل شيئًا لشيء، ولا يأمر بشيء لحكمة، ولا جعل شيئًا من الأشياء سببًا لغيره، وما ثَمّ إلا مشيئة محضة، وقدرة ترجّح مِثْلًا على مِثْل بلا سبب ولا علّة، وأنه لا يقال في فِعْله: لِمَ ولا كيف، ولا لأي سبب وحكمة، ولا هو مُعلَّل بالمصالح.
(1)
«د» : «والهدايات» .
قال الرازي في «مباحثه» : «فإن قيل: فلِمَ لمْ يخلق الخالق هذه الأشياء عَرِيّة عن كل الشرور؟
فنقول: لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول، وذلك مما فُرِغ عنه
(1)
».
يعني: كان ذلك هو القسم الذي هو خير محض لا شر فيه.
قال: «وبقي في العقل
(2)
قسم آخر، وهو الذي يكون خيره غالبًا على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجودًا.
قال: وهذا الجواب لا يعجبني؛ لأن لقائل أن يقول: إن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله تعالى وإرادته، فالاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجَبًا عن النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار
(3)
باختيار الله وإرادته، فكان يمكنه أن يختار خلق الإحراق عند ما يكون خيرًا، ولا يختار خلقه عند ما يكون شرًّا.
ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه سبحانه فاعلًا بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القِدَم
(1)
كذا في «د» و «م» و «المباحث المشرقية» (2/ 522)، ووقع في «ج»:«خرج عنه» ، وفي «طريق الهجرتين» (1/ 339):«فرغ منه» ، وهذا موافق للمشهور في تعدية «فرغ» بـ «من» ، وقد قُرِئ:«حتى إذا فُرِّغَ عن قلوبهم» ، انظر:«تاج العروس» (22/ 549).
(2)
«ج» : «الفعل» ، تحريف.
(3)
جملة: «وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار» ساقطة من «م» .
والحدوث»
(1)
.
فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله، ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار، ما شاء كان بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته، وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتّة.
فأقرَّ على نفسه أنه لا خلاص له عن تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل، القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام، ولا أوجد العالم بعد عدمه، ولا يُفنيه بعد إيجاده، وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته، فلم يكن مختارًا مريدًا للعالم.
وليس عنده إلا هذا القول، أو قول الجبرية منكري الأسباب والحِكَم والتعليل، أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل، وأوجبوا رعاية مصالح شبّهوا فيها الخالق بالمخلوق، وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها، وحرّموا، وحجروا عليه.
فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره، وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة، والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال؛ لمنافاتها للعقل والنقل والفطرة.
والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام، أضلّ الله عنه أهل
(1)
«المباحث المشرقية» (2/ 522 - 523)، ونقله المؤلف في «طريق الهجرتين» (1/ 339).