المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الموفي ثلاثينفي ذكر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب العشرونفي ذِكْر مناظرة بين قدري وسُنّي

- ‌ أي قول التزمه الملتزم كان خيرًا من نفي الخلق

- ‌سر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده

- ‌الباب الحادي والعشرونفي تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المَقْضي

- ‌الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه

- ‌الأصل الثاني: أنه سبحانه حيّ حقيقة

- ‌الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا

- ‌الباب الثاني والعشرونفي إثبات حكمة الربِّ تعالى في خَلْقه وأَمْره، وذِكْر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها

- ‌الباب الثالث والعشرونفي استيفاء شُبَه النافين للحكمة والتعليل، وذِكْر الأجوبة عنها

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌ الجواب الخامس:

- ‌ الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌ الجواب الحادي عشر:

- ‌الجواب الثاني عشر:

- ‌الجواب الثالث عشر:

- ‌الجواب الرابع عشر:

- ‌الجواب الخامس عشر:

- ‌الجواب السادس عشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌ الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌ الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الوجه الثاني عشر:

- ‌ الوجه الثالث عشر:

- ‌ الوجه الرابع عشر:

- ‌ الوجه الخامس عشر:

- ‌الوجه السادس عشر:

- ‌ الوجه السابع عشر:

- ‌ الوجه الثامن عشر:

- ‌ الوجه التاسع عشر:

- ‌ الوجه العشرون:

- ‌ الوجه الحادي والعشرون:

- ‌ الوجه الثاني والعشرون:

- ‌الوجه الثالث والعشرون:

- ‌ الوجه الخامس والعشرون:

- ‌الوجه السادس والعشرون:

- ‌الوجه السابع والعشرون:

- ‌الوجه الثامن والعشرون:

- ‌ الوجه التاسع والعشرون:

- ‌ الوجه الثلاثون:

- ‌الوجه الحادي والثلاثون:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون:

- ‌الوجه الثالث والثلاثون:

- ‌ الوجه الرابع والثلاثون:

- ‌ الوجه الخامس والثلاثون:

- ‌الوجه السادس والثلاثون:

- ‌فصلالوجه السابع والثلاثون:

- ‌الوجه الثامن والثلاثون:

- ‌الوجه التاسع والثلاثون:

- ‌الوجه الأربعون:

- ‌الباب الرابع والعشرونفي معنى قول السلف: «من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه»

- ‌ما الفرق بين كون القدر خيرًا وشرًّا، وكونه حلوًا ومرًّا

- ‌الباب الخامس والعشرونفي امتناع إطلاق القول نفيًا وإثباتًا: «إن الربّ تعالى مريد للشرّ وفاعل له»

- ‌الباب السادس والعشرونفيما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»…(1)من تحقيق القدر وإثباته، وما تضمّنه الحديث من الأسرار العظيمة

- ‌الباب السابع والعشرونفي دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك» وبيان ما في هذا الحديث من القواعد

- ‌فصلوقوله: «أسألك بكل اسم هو لك

- ‌الباب الثامن والعشرونفي أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه

- ‌كيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة

- ‌الباب التاسع والعشرونفي انقسام القضاء والحُكْم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجَعْل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والإنشاء إلى كوني متعلِّق بخلقه، وإلى ديني متعلِّق بأمره، وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال

- ‌القضاء في كتاب الله نوعان:

- ‌الباب الموفي ثلاثينفي ذِكْر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

- ‌ثبت مصادر الدراسة والتحقيق

الفصل: ‌الباب الموفي ثلاثينفي ذكر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

‌الباب الموفي ثلاثين

في ذِكْر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31].

وفي «الصحيحين»

(1)

من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها» ، ثم قرأ أبو هريرة:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، وفي لفظ آخر:«ما من مولود إلا يولد على هذه الملة» .

وقد اختلف الناس في معنى هذه الفطرة والمراد بها.

فقال القاضي أبو يعلى: في معنى الفطرة ههنا روايتان عن أحمد

(2)

:

(1)

تقدم تخريجه في (1/ 103).

(2)

لم أقف على قول القاضي فيما بين يدي من كتابه «الروايتين» ، والمؤلف ينقل في هذا الموضع من كتاب شيخه «درء التعارض» (8/ 359) وما بعدها.

وحول كلام الإمام أحمد انظر: «السنة» (3/ 534 - 536)، «أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد» كلاهما للخلال (14 - 18).

ص: 387

إحداهما: الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم، حين مسح ظهر آدم فأخرج

(1)

من ذرّيته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].

فليس أحد إلا وهو مقرٌّ بأن له صانعًا ومدبّرًا، وإن سمَّاه بغير اسمه، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول.

قال

(2)

: وليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين:

أحدهما: أنّ معنى الفطرة ابتداء الخلقة، ومنه قوله تعالى:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 11]، أي: مبتدئهما. وإذا كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة، وجرت في فطرة المعقول

(3)

، وهو استخراجهم ذرية؛ لأن تلك حالة ابتدائهم.

ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام؛ لوجب إذا وُلِد بين أبوين كافرين أن لايرثهما ولا يرثانه ما دام طفلًا؛ لأنه مسلم، واختلاف الدين يمنع الإرث، ولوجب أن لا يصحّ استرقاقه، ولا يُحْكَم بإسلامه بإسلام أبيه؛ لأنه مسلم.

(1)

«م» : «فاجتمع» ، والمثبت من «د» موافق لمصدر النقل.

(2)

من قوله: «تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}» إلى هنا ساقط من «د» .

(3)

كذا في الأصول، وفي مصدر المؤلف، ووقعت في مصدر القاضي نفسه ــ وهو كتاب «إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث» لابن قتيبة (58) ــ:«فَطْر العقول» ، أي: ابتداءها، وهو الصواب فيما يظهر.

ص: 388

قال: وهذا تأويل ابن قتيبة، وذكره ابن بطة في «الإبانة»

(1)

.

قال: وليس كل من ثبت له المعرفة حُكِم بإسلامه، كالبالغين من الكفار؛ فإنّ المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين.

قال: وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني فقال: الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها. فقال الميموني: الفطرة: الدين؟ قال: نعم

(2)

.

قال القاضي: وأراد أحمد بالدين: المعرفة التي ذكرناها.

قال: والرواية الثانية: الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه؛ لأنّ

(3)

حَمْله على العهد الذي أخذه عليهم ــ وهو الإقرار بمعرفته ــ حَمْلٌ للفطرة على الإسلام؛ لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان، والمؤمن مسلم، ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا وُلِد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما.

قال: ولأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خَلْقًا لله، وأصول أهل السنة بخلافه.

قال: وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد ــ وقد سأله عن قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» ــ فقال: على الشقاوة والسعادة.

وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحّال: أنه سأله فقال: هي التي فُطِر الناس عليها: شقي أو سعيد.

(1)

«إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث» (57 - 58) ــ نص عليه في «درء التعارض» (8/ 360) ــ، «الإبانة الكبرى» (4/ 70).

(2)

انظر: «أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد» (16).

(3)

نهاية نسخة «م» ، وما يلي سيكون الاعتماد فيه على «د» ، وما يلزم من «ت» .

ص: 389

وكذلك نقل حنبل عنه، قال: الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة

(1)

.

قال: وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ههنا ابتداء خلقه في بطن أمه.

قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية

(2)

: أحمد لم يذكر العهد الأول، وإنما قال: الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها، وهي الدين. وقال في غير موضع: إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حُكِم بإسلامه. واستدلَّ بهذا الحديث، فدلّ على أنه فسَّرَ الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في الحديث، ولو لم تكن الفطرة عنده الإسلام لما صحّ استدلاله بالحديث.

وقوله في موضع آخر: يولد على ما فُطِر عليه من شقاوة وسعادة، لا ينافي ذلك؛ فإن الله سبحانه قدّر السعادة والشقاوة وكتبهما، وقدّر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها، كفعل الأبوين.

فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله أنه يُفْعَل بالمولود، والمولود وُلِد على الفطرة سليمًا، ووُلِد على أن هذه الفطرة السليمة يغيّرها الأبوان، كما قَدَّر سبحانه ذلك وكتبه.

كما مثّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟» ، فبيّن أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس، وذلك

(1)

انظر: «أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد» (16 - 17).

(2)

«درء التعارض» (8/ 361) وما بعدها.

ص: 390

بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليمًا، ثم يفسده أبواه، وذلك أيضًا بقضاء الله وقدره.

وإنما قال أحمد وغيره من الأئمة: على ما فُطِر عليه من شقاوة أو سعادة؛ لأنّ القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على [أن]

(1)

الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره، بل مما ابتدأ الناس إحداثه.

ولهذا قالوا لمالك بن أنس: إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث؟ فقال: احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله:«الله أعلم بما كانوا عاملين»

(2)

.

فبيَّن الإمام أحمد وغيره أنه لا حجّة فيه للقدرية؛ فإنهم لا يقولون: إن نفس الأبوين خَلَقَا تهويده وتنصيره، بل هو تَهوَّد وتَنصَّر باختياره، لكن كانا سببًا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين، فإذا أضيف إليهما بهذا الاعتبار فلأن يُضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى؛ لأنه سبحانه وإن كان خلقه مولودًا على الفطرة سليمًا فقد قَدَّر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره، وعلم ذلك.

كما في الحديث الصحيح: «إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا، ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا»

(3)

.

فقوله: «طُبِع يوم طُبِع» أي قُدِّر وقُضِي في الكتاب أنه يكفر، لا أن كفره كان موجودًا قبل أن يولد، ولا في حال ولادته؛ فإنه مولود على الفطرة

(1)

زيادة لازمة من مصدر النقل.

(2)

أسنده من هذا الوجه أبو داود (4715).

(3)

جزء من حديث أبي بن كعب في قصة موسى والخضر أخرجه بنحوه مسلم (2380).

ص: 391

السليمة، وعلى أنه بعد ذلك يتغير ويكفر.

ومن ظن أنّ الطبع على قلبه، وهو

(1)

الطبع المذكور على قلوب الكفار؛ فهو غالط؛ فإن ذلك لا يقال فيه: طُبِع يوم طُبِع؛ إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره.

وقد ثبت في «صحيح مسلم»

(2)

عن عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربّه تبارك وتعالى أنه قال:«خَلَقْتُ عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين، وحَرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» ، وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك.

وكذلك في حديث الأسود بن سَرِيع الذي رواه أحمد وغيره

(3)

قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«ما حملكم على قَتْل الذرّية؟» قالوا: يا رسول الله، أليسوا أولاد المشركين؟ قال:«أوَ ليس خياركم أولاد المشركين؟!» ، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال:«ألا إنّ كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعْرِبَ عنه لسانُهُ» .

فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين،

(1)

كذا في «د» ومصدر النقل: «وهو» ، والأليق بالسياق:«هو» دون واو.

(2)

تقدم تخريجه (2/ 65).

(3)

أحمد (15588)، ومعمر في «الجامع» (20090)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1160) من حديث الحسن عن الأسود بن سريع، والحسن لم يسمع منه، كما جزم به ابن المديني في «العلل» (55)، وانظر:«تحفة التحصيل» (71). والحديث صححه الحاكم (2566).

ص: 392

وقوله لهم: «أوَ ليس خياركم أولاد المشركين؟!» = نصٌّ أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار

(1)

، ثم الكفر طرأ بعد ذلك، ولو أراد أن المولود حين يولد يكون إما مسلمًا وإما كافرًا على ما سبق له به القدر؛ لم يكن فيما ذَكَر حجّةٌ على ما قَصَد من نهيه عن قتل أولاد المشركين.

وقد ظنّ بعضهم أن معنى قوله: «أوَ ليس خياركم أولاد المشركين؟!» أنه قد يكون سبق

(2)

في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا، فيكون النهي راجعًا إلى هذا المعنى من التجويز.

وليس هذا معنى الحديث، لكن معناه أن خياركم هم السابقون الأولون وهؤلاء من أولاد المشركين، فإن آباءهم كانوا كفارًا، ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنًا؛ فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه، وهو سبحانه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، كما يخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحيّ.

فصل

(3)

وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسِّر بعضها بعضًا، ففي «الصحيحين»

(4)

ــ واللفظ للبخاري ــ عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه

(1)

كذا في «د» ، وفي مصدر النقل: «يبين أنه أراد

».

(2)

«سبق» من «ت» ، ومصدر المؤلف.

(3)

لا يزال النقل مستمرًّا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.

(4)

تقدم تخريجه (1/ 103).

ص: 393

يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء

(1)

، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت مَن يموت صغيرًا؟ قال:«الله أعلم بما كانوا عاملين» .

وفي «الصحيح»

(2)

قال الزهري: يُصلَّى على كل مولود متوفّى وإن كان لِغَيَّةٍ

(3)

؛ من أجل أنه وُلِد على فطرة الإسلام؛ إذا استهلّ صارخًا، ولا نصلي على من لم يستهلّ؛ من أجل أنه سِقْطٌ، فإن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه، أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمة جَمْعاء، هل تحسّون فيها من جَدْعاء؟» ، ثم يقول أبو هريرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .

وفي «الصحيحين»

(4)

من رواية الأعمش: «ما من مولود

(5)

إلا وهو على الملة».

وفي رواية أبي معاوية عنه: «إلا على هذه الملة، حتى يُعْرِب عنه لسانه» .

(1)

كذا في «د» : «تنتج البهيمة جمعاء» هنا وفي الموضع الآتي، وفي مصدري النقل والرواية:«تنتج البهيمة بهمية جمعاء» .

(2)

البخاري (1358).

(3)

أي من زنا، من الغي وهو ضد الرشد، انظر:«إرشاد الساري» (2/ 449).

(4)

مسلم (2658/ 33) هذه الرواية والتي تليها، ولم أقف عليها عند البخاري، وكأن قوله:«وفي الصحيحين» سبق قلم من المؤلف؛ بدلالة عزوها إلى الصحيح وحده في مصدر النقل.

(5)

في مصدري النقل والرواية: «ما من مولود يولد» .

ص: 394

فهذا صريح أنه يولد على ملة الإسلام، كما فسَّره ابن شهاب راوي الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك.

قال ابن عبد البر

(1)

: وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة: أيجزئ الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع؟

قال: نعم، لأنه وُلد على الفطرة

(2)

.

وقال أبو عمر ــ وقد ذكر النزاع في تفسير الحديث ــ

(3)

: وقال آخرون: الفطرة ههنا الإسلام.

قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل، قد أجمعوا في تأويل قول الله عز وجل:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام.

واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث: اقرؤوا ــ إن شئتم ــ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .

وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: فطرة الله: دين الله الإسلام، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قالوا: لدين الله

(4)

.

(1)

«التمهيد» (18/ 76) وقد ساقه بإسناده.

(2)

لم أقف عليه في مصدر آخر.

(3)

«التمهيد» (18/ 72 - 77).

(4)

أسندها الطبري (18/ 493 - 496) خلا قول الحسن.

ص: 395

واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يومًا: «ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب، إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرام فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حرامًا وحلالًا

» الحديث

(1)

.

قال: وكذلك روى بكر بن مهاجر، عن ثور بن يزيد، بإسناده مثله في هذا الحديث:«حنفاء مسلمين»

(2)

.

قال أبو عمر: روى هذا الحديث قتادة، عن مُطَرِّف بن عبد الله، عن عياض، ولم يسمعه قتادة من مُطَرِّف، ولكن قال: حدثني ثلاثة: عقبة بن عبد الغافر، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، والعلاء بن زياد، كلهم يقول: حدثني مُطَرِّف، عن عياض، عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه:«وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم» ، لم يقل:«مسلمين»

(3)

.

وكذلك رواه الحسن عن مطرف

(4)

.

ورواه ابن إسحاق عمن لا يتّهم، عن قتادة بإسناده، قال فيه: «وإني

(1)

أخرجه من هذا الوجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 404)، والطبراني في «الكبير» (997).

(2)

لم أقف عليه في مصدر آخر.

(3)

أخرجه من هذا الوجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 403)، والطبراني في «الكبير» (992، 993).

(4)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (996).

ص: 396

خلقت عبادي حنفاء كلهم»

(1)

، ولم يقل:«مسلمين» .

قال: فدلّ هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه؛ لأنه ذكر «مسلمين» في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث، وأسقطه من رواية قتادة، وكذلك رواه الناس عن قتادة، قصر فيه عن قوله:«مسلمين» ، وزاده ثور بإسناده، فالله أعلم.

قال: والحنيف في كلام العرب المستقيم المُخْلِص، ولا استقامة أكثر من الإسلام.

قال: وقد روي عن الحسن: «الحنيفية حجُّ البيت»

(2)

، وهذا يدلّ أنه أراد الإسلام.

وكذلك رُوِي عن الضحاك والسُّدِّي قال

(3)

: «حنفاء: حجاجًا»

(4)

.

وعن مجاهد: «حنفاء مُتَّبِعين»

(5)

.

قال: وهذا كله يدل على أن الحنيفية الإسلام.

قال: وقال أكثر العلماء: الحنيف المُخْلِص، وقال الله عز وجل:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]،

(1)

أخرجه ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (1/ 402).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (131)، والحربي في «غريب الحديث» (1/ 292).

(3)

كذا في «د» ، تبعًا لواسطة النقل (8/ 370).

(4)

أخرجهما ابن المنذر في «التفسير» (1/ 246).

(5)

أخرجه الطبري (2/ 593)، وابن أبي حاتم (3651).

ص: 397

وقال تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا} [آل عمران: 95]، وقال:{أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي} [الحج: 78].

وقال الشاعر ــ وهو الراعي ــ:

أخليفةَ الرحمنِ إنا معشرٌ

حنفاءُ نسجد بكرةً وأصيلًا

عَربٌ نرى لله في أموالنا

حقّ الزكاة منزّلًا تنزيلًا

(1)

قال: فهذا وصف الحنيفية بالإسلام، وهو أمر واضح لا خفاء به.

قال: ومما احتج به من ذهب في هذا الحديث إلى أن الفطرة في هذا الحديث: الإسلام؛ قوله صلى الله عليه وسلم: «خمسٌ من الفطرة»

(2)

، ويُروى:«عشرٌ من الفطرة»

(3)

.

قال شيخنا

(4)

: والدلائل على ذلك كثيرة، ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام؛ لمَا سألوا عقيب ذلك:«أرأيت من يموت من أطفال المشركين؟» ؛ لأنه [لو]

(5)

لم يكن هناك ما يغيّر تلك الفطرة لما سألوه، والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغيّر.

(1)

البيتان للراعي النميري من قصيدة يخاطب فيها عبد الملك بن مروان كما في «الديوان» بشرح د. الصمد (206)، وأوّله: أوليّ أمر الله إنا معشر

، وانظر:«الزاهر» (1/ 313)، «الموشح» (207).

(2)

أخرجه البخاري (5889)، ومسلم (257) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (261) من حديث عائشة.

(4)

«درء التعارض» (8/ 371 - 377).

(5)

زيادة لازمة من مصدر القول.

ص: 398

وقوله: «فأبواه يُهَوِّدانه» بَيّن فيه أنهم يغيّرون الفطرة التي فُطِر عليها.

وأيضًا: فإنه شبّه ذلك بالبهيمة التي تولَد مُجْتَمعة الخَلْق لا نقص فيها، ثم تُجْدَع بعد ذلك، فعُلِم أنّ التغيير وارد على الفطرة السليمة التي وُلِد العبد عليها.

وأيضًا: فإن الحديث مطابق للقرآن، كقوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذا يعم جميع الناس، فعُلِم أنّ الله سبحانه فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة.

وأيضًا: فإنه أضاف الفطرة إليه إضافة مدح لا إضافة ذم، فعُلِم أنها فطرة محمودة لا مذمومة، كدين الله وبيته وناقته.

وأيضًا: فإنه قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وهذا نَصْبٌ على المصدر الذي دلّ عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه، فدلَّ على أن إقامة الوجه لله

(1)

حنيفًا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها.

وأيضًا: فإن هذا تفسير السلف كما تقدم.

قال ابن جرير

(2)

: يقول: فسدِّد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك الله يا محمد لطاعته ــ وهي الدين ــ، {حَنِيفًا} يقول: مستقيمًا لدينه وطاعته، {فِطْرَتَ اللَّهِ} يقول: صنعة الله التي خَلَق الناس عليها، ونَصْبُ {فِطْرَتَ}

(1)

كذا في «د» : «لله» كأنه سبق قلم، وفي «درء التعارض»:«للدين» ، وهو الأشبه.

(2)

«جامع البيان» (1/ 313).

ص: 399

على المصدر [من]

(1)

معنى قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ، أي المعنى: فَطَر اللهُ الناسَ على ذلك فطرةً.

قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ثم روى عن ابن زيد قال: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال: الإسلام، منذ خلقهم الله من آدم جميعًا يقرّون بذلك

(2)

.

وعن مجاهد: {فِطْرَتَ اللَّهِ} قال: الدين الإسلام

(3)

.

ثم روى عن يزيد بن أبي مريم قال: مرّ عمرُ بمعاذ بن جبل، فقال: ما قِوَام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث، وهنّ المنجيات: الإخلاص ـ وهو الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ــ، والصلاة ــ وهي الملة ــ، والطاعة ــ وهي العصمة ــ. فقال عمر: صدقت

(4)

.

وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} يقول: لا تغيير لدين الله، أي: لا يصلح ذلك، ولا ينبغي أن يُفْعَل.

قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله

(5)

.

(1)

زيادة من مصدر القول.

(2)

لم أقف عليه في مصدر آخر.

(3)

«تفسير مجاهد» (214).

(4)

لم أقف عليه في مصدر آخر.

(5)

التفسير المنسوب إلى مجاهد (539).

ص: 400

ثم ذكر أنّ مجاهدًا أرسل إلى عكرمة يسأله عن قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فقال: هو الخِصَاء، فقال مجاهد: أخطأ، {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: إنما هو الدين، ثم قرأ:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}

(1)

.

وروى عن عكرمة: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله

(2)

.

وعنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ} قال: الإسلام

(3)

.

وقال قتادة: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال: لدين الله، وهو [قول]

(4)

سعيد ابن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وابن زيد

(5)

.

وعن ابن عباس وعكرمة ومجاهد: هو الخِصَاء

(6)

.

ولا منافاة بين القولين، كما قال تعالى:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فتغيير ما فَطَرَ اللهُ عبادَهُ من الدين تغييرٌ لخَلْقه، والخِصَاء وقَطْع آذان الأنعام تغييرٌ لخَلْقه أيضًا.

ولهذا شَبّه النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالآخر، فأولئك يغيّرون الشريعة، وهؤلاء يغيّرون الخِلْقة، فذاك تغييرُ ما خُلِقت عليه نفسُهُ وروحُهُ، وهذا تغييرُ ما خُلِق عليه بدنُهُ.

(1)

أخرجه بنحوه عبد الرزاق في «التفسير» (640).

(2)

لم أقف عليه في مصدر آخر.

(3)

عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 493) إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

(4)

زيادة لازمة من مصدر المؤلف.

(5)

تقدم عزوها قريبًا.

(6)

انظر: «تفسير مجاهد» (539)، «الدر المنثور» (2/ 690).

ص: 401

فصل

(1)

ولمّا صار القدرية يحتجون بهذا الحديث على قولهم؛ صار الناس يتأوّلونه على تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه.

فقالت القدرية: كل مولود يولد على الإسلام، والله سبحانه لا يضلّ أحدًا، وإنما أبواه يضلّانه.

قال لهم أهل السنة: أنتم لا تقولون بأول الحديث ولا بآخره.

أمّا أوّله: فإنه لم يولَد أحدٌ عندكم على الإسلام أصلًا، ولا جَعَل الله أحدًا مسلمًا ولا كافرًا عندكم، بل هذا أحدث لنفسه الكفر، وهذا أحدث لنفسه الإسلام، والله لم يخلق واحدًا منهما، ولكن دعاهما إلى الإسلام، وأزاح عللهما، وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للضدين، ولم يخص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان، فإن ذلك عندكم غير مقدور له، ولو كان مقدورًا لكان مَنْع الكافر منه ظلمًا.

هذا قول عامة القدرية، وإن كان أبو الحسين يقول: إنه خَصّ المؤمن بداعي الإيمان.

ويقول: عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان.

وهذا في الحقيقة موافق لقول أهل السنة.

قالوا: [وأيضًا] فأنتم [تقولون]

(2)

: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر

(1)

هذا الفصل كسابقه مستفاد من «درء التعارض» (8/ 377) وما بعدها، وأورده أيضًا في كتابه:«أحكام أهل الذمة» (2/ 969).

(2)

ما بين المعقوفات زيادة من مصدر المؤلف.

ص: 402

المشروط بالعقل، ويستحيل أن تكون المعرفة عندكم ضرورة، أو تكون من فعل الله.

وأما كونكم لا تقولون بآخره فهو أنه نَسَب فيه التهويد والتنصير إلى الأبوين، وعندكم أنّ المولود هو الذي أحدث لنفسه التهويد والتنصير دون الأبوين، والأبوان لا قدرة لهما على ذلك البتّة.

وأيضًا: فقوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» دليل على أن الله يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة: هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين، أو يغيّرونها فيصيرون كفارًا؟ فهو دليل على تقدّم العلم الذي ينكره غلاة القدرية، واتفق السلف على تكفيرهم بإنكاره.

فالذي استدللتم به من الحديث على قولكم الباطل ــ وهو قوله: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» ــ لا حجة لكم فيه، بل هو حجة عليكم، فغير الله لا يقدر على جَعْل الهدى أو الضلال في قلب أحد، بل المراد بالحديث دعوة الأبوين إلى ذلك، وتربيتهما له على ذلك، مما يفعله المعلم والمربّي.

وخَصّ الأبوين بالذكر [بناء]

(1)

على الغالب؛ إذ

(2)

لكل طفل أبوان، وإلا فقد يقع من أحدهما ومن غيرهما.

فصل

(3)

قال أبو عمر بن عبد البر

(4)

: اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا

(1)

زيادة لازمة من مصدر المؤلف.

(2)

تحرّفت في «د» : «إن» ، والتصحيح من «درء التعارض» .

(3)

انظر: «درء التعارض» (8/ 382 - 383)، والمؤلف صادر عنه.

(4)

«التمهيد» (18/ 66 - 68)، «الاستذكار» (3/ 102 - 103)، «درء التعارض» (8/ 382 - 383)، والمؤلف صادر عنه.

ص: 403

الحديث اختلافًا كثيرًا.

وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة، فسُئل عنه ابن المبارك فقال: تفسيره آخر الحديث، وهو قوله:«والله أعلم بما كانوا عاملين» ، هكذا ذكر أبو عبيد عن ابن المبارك لم يزد شيئًا.

وذكر أنه سأل محمد بن الحسن عن تأويل هذا الحديث فقال: كان هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، هذا ما ذكره أبو عبيد

(1)

.

قال أبو عمر: أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحو ذلك، وليس فيه مُقْنِع من التأويل، ولا شرح مُوعِب في أمر الأطفال، ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار، ما لم يبلغوا العمل.

قال: وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمدًا حاد عن الجواب فيه؛ إما لإشكاله عليه، وإما لجهله به، أو لما شاء الله.

وأما قوله: «إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد» ، فلا أدري ما هذا! فإن كان أراد أن ذلك منسوخ، فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله ورسوله؛ لأن المخبر بشيء ــ كان أو يكون ــ إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه من تكذيبه لنفسه، أو غلطه فيما أخبر به، أو نسيانه، وقد

(1)

«د» : «أبو عبيدة» تحريف وهو على الصواب في مصدر المؤلف وأصله، وانظر:«غريب الحديث» (2/ 265 - 266).

ص: 404

جلَّ الله عن ذلك، وعصم رسوله منه، وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد.

وقول محمد بن الحسن: «إن هذا كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد» ، ليس كما قال؛ لأن في حديث الأسود بن سَرِيع ما يبيّن أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد.

ثم روى بإسناده عن الحسن، عن الأسود بن سَرِيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟» فقال رجل: أوَليس إنما هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من [مولود]

(1)

يولد إلا على الفطرة، حتى يعبّر عنه لسانُه، ويهوّده أبواه أو يُنَصِّرانه»

(2)

.

قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة، منهم: بكر

(3)

المُزَني، والعلاء بن زياد، والسَّرِيّ بن يحيى، وقد رُوِي عن الأحنف، عن الأسود بن سَرِيع.

قال: وهو حديث بصري صحيح.

قال: وروى عوف الأعرابي، عن سمرة بن جُنْدُب

(4)

، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

زيادة من «درء التعارض» ومصادر التخريج.

(2)

تقدم تخريجه (2/ 392).

(3)

«د» : «أبو بكر» خطأ، والتصويب من مصدر المؤلف.

(4)

كذا في «د» و «درء التعارض» (8/ 382) ــ والمؤلف صادر عنه ــ: «عوف الأعرابي، عن سمرة بن جندب» ، بإسقاط أبي رجاء العطاردي بينهما، وهو على الوجه في «التمهيد» (18/ 68).

ص: 405

قال: «كل مولود يولد على الفطرة» ، فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال:«وأولاد المشركين»

(1)

.

قال شيخنا: أما ما ذكره أبو عمر عن مالك وابن المبارك؛ فيمكن أن يقال: إن المقصود أنّ آخر الحديث يبيّن أنّ الأولاد

(2)

قد سبق في علم الله [ما]

(3)

يعملون إذا بلغوا، أو أن منهم من يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم من يكفر فيدخل النار، فلا يُحْتَج بقوله:«كل مولود يولد على الفطرة» على نفي القدر، كما احتجت القدرية به، ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة؛ لكونهم وُلِدوا على الفطرة، فيكون مقصود مالك وابن المبارك أنّ حُكْم الأطفال على ما في آخر الحديث.

وأما قول محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرّت على أن وَلَد اليهودي والنصراني يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا، فيُحْكَم له بحكم الكفر في أنه لا يُصلّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، ولا يرثه المسلمون، ويجوز استرقاقهم، فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين، حتى تُعْرِب عنهم ألسنتُهم، وهذا حق، لكن ظَنَّ أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال: هذا منسوخ؛ كان قبل الجهاد؛ لأنه بالجهاد أُبِيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يُسْتَرق، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال

(1)

جزء من حديث قصة المعراج أخرجه البخاري (7047).

(2)

«د» : «الأول» تحريف.

(3)

زيادة لازمة من «درء التعارض» .

ص: 406

مشروعًا، وما زال الأطفال تبعًا لأبويهم في الأمور الدنيوية، والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام، وإنما قصد بيان ما وُلِد عليه الأطفال من الفطرة.

فصل

(1)

ومما ينبغي أن يُعلم أنه إذا قيل: وُلِد على الفطرة أو على الإسلام أو على هذه الملّة، أو خُلِق حنيفًا؛ فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده، فإن الله يقول:{قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا} [النحل: 78]، ولكن فطرته موجِبة مقتضِية لدين الإسلام، لمعرفته

(2)

ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجِبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئًا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة إذا سلمت من المعارض.

وليس المراد أيضًا مجرّد قبول الفطرة لذلك؛ فإن هذا القبول [لا]

(3)

يُغيَّر بتهويد الأبوين وتنصيرهما، بحيث يُخْرِجان الفطرة عن قبولها، وإن سعيا بتربيتهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول.

وأيضًا: فإنّ هذا القبول ليس هو الإسلام، وليس هو هذه الملّة، وليس هو الحنيفية.

وأيضًا: فإنه شبَّه تغيير الفطرة بجَدْع البهيمة الجَمْعاء، ومعلوم أنهم لم

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 383 - 384).

(2)

«لمعرفته» غير مقروءة في «د» ، والمثبت من مصدر المؤلف.

(3)

زيادة لازمة لإقامة السياق.

ص: 407

يغيّروا قبوله، ولو تغيّر القبول وزال لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب، بل المراد أنّ كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره وإخلاصه له، وإقراره بربوبيته

(1)

، وإذعانه له بالعبودية، فلو خُلّي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره.

كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه، وهذا من قوله تعالى:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقوله:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2 - 3]، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديًا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره.

ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئًا فشيئًا بحسب حاجته.

ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما وُلِد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة.

فهكذا ما وُلِد عليه من الفطرة.

ولهذا شُبِّهت الفطرةُ باللبن، بل كانت إياه في التأويل للرؤيا.

ولما عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء اللبن والخمر: أخذ اللبن، فقيل له:«أخذتَ الفطرة، ولو أخذتَ الخمر لغوت أمتك» ، فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه عليه دون غيره كمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها

(2)

.

(1)

«د» : «وإقراره له بربوبيته» بدل: «وإخلاصه له، وإقراره بربوبيته» ، والمثبت من «ت» .

(2)

«د» : «غيره» تحريف.

ص: 408

فصل

(1)

قال ابن عبد البر

(2)

: وقالت طائفة: المراد بالفطرة في هذا الحديث الخِلْقة التي خُلِق عليها المولود من المعرفة بربّه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خِلْقة يعرف بها ربّه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد أنه خُلِق خِلْقة مخالفة لخِلْقة البهائم التي لا تصل بخَلْقها

(3)

إلى معرفته.

قالوا: والفاطر هو الخالق.

وأنكرت أن يكون المولود يُفطَر على إيمان أو كفر.

قال شيخنا: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكّن من المعرفة والقدرة عليها؛ فهذا ضعيف؛ فإن مجرّد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفًا، ولا أن يكون على الملّة، ولا يحتاج أن يُذْكَر تغييرُ أبويه لفطرته حين يُسأل عمن مات صغيرًا، ولأن القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير.

وهو لمّا نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا: إنهم أولاد المشركين؟ قال: «أَوَليس خياركم أولاد المشركين؟ ما من مولود إلا ويولد على الفطرة» ، ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل.

وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها؛ فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدلّ على أنهم فُطِروا على القدرة على المعرفة وإرادتها، وذلك مُسْتَلزِم للإيمان.

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 384 - 385).

(2)

«التمهيد» (18/ 68 - 69)، «الاستذكار» (3/ 101).

(3)

«درء التعارض» ومصدره: «بخلقتها» .

ص: 409

فصل

(1)

قال أبو عمر

(2)

: وقال آخرون معنى قوله: «يولد على الفطرة» يعني: البداءة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فَطَر اللهُ عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاء، إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم

(3)

واعتقادهم.

قالوا: والفطرة في كلام العرب: البداءة، والفاطر المبتدئ، وكأنه قال: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة وغير ذلك، مما يصير إليه، وقد فُطِر عليه.

واحتجوا بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30].

وروى بإسناده إلى ابن عباس قال: لم أدرِ ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها. أي: ابتدأتها

(4)

.

وذكر دعاء علي: «اللهم جبّار القلوب على فطراتها، شقيّها وسعيدها»

(5)

.

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 386 - 387).

(2)

«التمهيد» (18/ 78).

(3)

«د» : «إيمانهم» مهملة، والمثبت من «التمهيد» و «درء التعارض» .

(4)

أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (345)، وابن جرير (9/ 175).

(5)

تقدم عزوه في (1/ 421).

ص: 410

قال شيخنا: حقيقة هذا القول: أنّ كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه، ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم مولودة على ما سبق في علم الله لها، والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله، وحينئذ فيكون كل مخلوق قد خُلِق على الفطرة.

وأيضًا: فلو كان المراد ذلك، لم يكن لقوله:«فأبواه يُهَوِّدانه» معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي وُلِد عليها.

وعلى هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير وبين تلقين الإسلام وتعليمه، وبين تعليم سائر الحِرَف والصنائع؛ فإن ذلك كله واحد

(1)

فيما سبق به العلم.

وأيضًا: فتمثيله ذلك بالبهيمة التي وُلِدت جَمْعاء ثم جُدِعت؛ يبيّن أنّ أبويه غَيَّرا ما وُلِد عليه.

وأيضًا: فقوله: «على هذه الملّة» ، وقوله:«إني خلقت عبادي حنفاء» ؛ مخالف لهذا.

وأيضًا: فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان؛ فإنه من حين كان جنينًا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بلا مُخصِّص.

وقد ثبت في «الصحيح»

(2)

أنه قبل نفخ الروح فيه يُكتَب رزقُهُ وأجلُهُ وعملُهُ وشقيٌّ أو سعيد، فلو قيل: كل مولود يُنفَخ فيه الروح على الفطرة؛

(1)

كذا في «د» ، وفي «درء التعارض»:«داخل» وهي أشبه.

(2)

تقدم تخريجه في (1/ 63).

ص: 411

لكان أشبه بهذا المعنى، مع أن النفخ هو بعد الكتابة.

فصل

(1)

قال أبو عمر

(2)

: قال محمد بن نصر المروزي

(3)

: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك: أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: يفسّره قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين»

(4)

.

قال المروزي: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه.

قال أبو عمر: وما رسمه مالك في «موطئه»

(5)

، وذكره

(6)

في أبواب القدر؛ فيه من الآثار [ما]

(7)

يدلّ على أن مذهبه في ذلك نحو هذا.

قال شيخنا: أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق في علم الله فيهم من إيمان وكفر، كما في الحديث الآخر: أن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا، والطَّبْع: الكتاب، أي: كُتِب كافرًا، كما في الحديث الصحيح:«فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»

(8)

.

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 388 - 389).

(2)

«التمهيد» (18/ 79)، «غريب الحديث» (2/ 265 - 266).

(3)

لم أقف عليه في ما بين يدي من كتبه المطبوعة.

(4)

«غريب الحديث» (2/ 265 - 266).

(5)

«الموطأ» برواية الليثي (2/ 898 - 901).

(6)

«د» : «وذكر» ، والمثبت من «درء التعارض» و «التمهيد» .

(7)

زيادة من مصدر النقل.

(8)

تقدم تخريجه في (1/ 63).

ص: 412

وليس إذا كان الله كتبه كافرًا يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بدّ أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير، كما أن البهيمة التي وُلِدت جَمْعاء ــ وقد سبق في علمه أنها تُجْدَع ــ كَتَب أنها مجدوعة بجَدْع يحدث لها بعد الولادة، ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.

فصل

(1)

وكلام أحمد في أجوبة له أخرى يدل على أن الفطرة عنده الإسلام، كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه، فإنه كان يقول: إن صبيان أهل الحرب إذا سُبُوا بدون الأبوين كانوا مسلمين، وإن كانوا معهما فهم على دينهما، فإن سُبُوا مع أحدهما ففيه عنه روايتان، وكان يحتج بالحديث.

قال الخلال في «الجامع»

(2)

: أنا أبو بكر المَرُّوذي: [أنّ] أبا عبد الله قال [في]

(3)

سبي أهل الحرب: إنهم مسلمون إذا كانوا صغارًا، وإن كانوا مع أحد الأبوين.

وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يُهَوِّدانه

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 389 - 395)، «أحكام أهل الذمة» (2/ 1025) وما بعدها.

(2)

«أحكام أهل الملل من الجامع» (30 - 32).

(3)

زيادة لازمة لإقامة السياق في الموضعين من مصدر النقل.

ص: 413

ويُنَصِّرانه».

قال: وأما أهل الثغر فيقولون: إذا كان مع أبويه: أنهم يجبرونه على الإسلام.

قال: ونحن لا نذهب إلى هذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» .

قال الخلال: أنا عبد الملك الميموني، قال: سألت أبا عبد الله قبل الحبس: عن الصغير يخرج من أرض الروم، وليس معه أبواه؟

فقال: إن مات صلّى عليه المسلمون.

قلت: يُكْرَه على الإسلام؟

قال: إذا كانوا صغارًا يُصلّون عليهم، أكره عليه

(1)

.

قلت: فإن كان معه أبواه؟

قال: إذا كان معه أبواه أو أحدهما لم يُكْرَه، ودينه على دين أبويه.

قلت: إلى أي شيء تذهب؟ إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه

»

(2)

.

قال: نعم، وعمر بن عبد العزيز فَادَى به، فلم يردّه

(3)

إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم.

قلت: في الحديث: كان معه أبواه؟

قال: لا، وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه

(4)

.

(1)

كذا في «د» : «أكره عليه» ! وفي كتاب الخلال: «أكره أن يليه إلا هم، وحكمه حكمهم» .

(2)

تقدم تخريجه (2/ 392).

(3)

في «جامع الخلال» و «درء التعارض» : «فرده» على الإثبات، وما هنا أقوم.

(4)

كذا وقعت هذه الجملة في «د» و «درء التعارض» وعند الخلال: «وليس يتبع» ، ولم يظهر لي معناها، والله أعلم.

ص: 414

قال الخلال: ما رواه الميموني قولٌ أولُ لأبي عبد الله.

وكذلك نَقَلَ إسحاق بن منصور

(1)

: أن أبا عبد الله قال: إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم.

قلت: لا يجبرون على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما؟

قال: نعم.

قال الخلال: وقد روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خَلْقٌ، كلهم قال: إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم

(2)

.

وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس، وبعضهم قبل وبعد.

والذي أذهب إليه ما رواه الجماعة.

قال الخلال

(3)

: وحدثنا أبو بكر المَرّوذي قال: قلت لأبي عبد الله: إني كنت بواسط، فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعان

(4)

طفلين، ولهما عَمٌّ، ما تقول فيهما؟ فإنهم قد كتبوا إليّ بالبصرة فيها.

فقال: أكره أن أقول فيهما برأي، دع حتى أنظر؛ لعل فيها عمن تقدم.

فلما كان بعد شهر عاودته، قال: نظرتُ فيها فإذا [قول]

(5)

النبي صلى الله عليه وسلم:

(1)

«مسائل الكوسج» (6/ 2828).

(2)

يعني نحكم بإسلام الطفل مطلقًا، سواء كان مع والديه الكافرين أو بمفرده.

(3)

«أحكام أهل الملل من الجامع» (23 - 26).

(4)

«د» : «ويدعا» ، والتصويب من مصدر النقل.

(5)

زيادة من مصدر النقل.

ص: 415

«فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» ، وهذا ليس له أبوان.

قلت: يُجْبَر على الإسلام؟

قال: نعم، هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك نقل يعقوب بن بختان، قال: قال أبو عبد الله: الذّمّي إذا مات أبواه وهو صغير أُجْبِر على الإسلام. وذكر الحديث: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» .

ونقل عنه عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسِيَّيْنِ يولد لهما ولد، فيقولان: هذا مسلم، فيمكث خمس سنين ثم يُتوفى؟

قال: ذاك يدفنه المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» .

وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم، وما كان من أنثى فهي مشركة يهودية أو مجوسية أو نصرانية؟

فقال: يُجْبَر هؤلاء مَنْ أبَى منهم على الإسلام؛ لأنّ أباهم مسلم

(1)

؛ حديث

(2)

النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» ، يُردّون كلهم إلى الإسلام.

ومثل هذا كثير في أجوبته، يحتج بالحديث على [أن الطفل]

(3)

إنما

(1)

«د» : «مسلما» ، والوجه الرفع على الخبرية، وكذلك هو في كتاب الخلال.

(2)

كذا في «د» و «درء التعارض» (8/ 394): «حديث» ، وفي مطبوعة الخلال:«وحديث» .

(3)

زيادة من مصدر النقل.

ص: 416

يصير كافرًا بأبويه، فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم، فلو لم تكن الفطرة الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلمًا؛ فإن الحديث إنما دلّ على أنه يولد على الفطرة.

ونقل عنه الميموني: أنّ الفطرة هي الدين، وهي الفطرة الأولى.

قال الخلال

(1)

: أخبرني الميموني، أنه قال لأبي عبد الله:«كل مولود يولد على الفطرة» ، يدخل عليه إذا كان أبواه معه أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارًا؟

فقال لي: نعم، ولكن يدخل عليك في هذا.

فتناظرنا بما يدخل عليَّ من هذا القول، وبما يكون بقوله

(2)

.

قلت لأبي عبد الله: فما تقول أنت فيها؟ وإلى أي شيء تذهب؟

قال: [أَيْش]

(3)

أقول! أنا ما أدري؟ أخبرك هي مسلمة

(4)

كما ترى.

ثم قال لي: والذي يقول: «كل مولود يولد» ينظر أيضًا إلى الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها.

(1)

«أحكام أهل الملل من الجامع» (15 - 16).

(2)

قراءة محتملة من «د» ، ترجحها موافقة مصدر النقل، ووقعت في كتاب الخلال:«يقويه» .

(3)

زيادة من مصدر النقل.

(4)

كذا في «د» ، وإحدى النسخ الخطية لـ «درء التعارض» (8/ 395)، ولم أتبين وجهها، ويغلب على الظن أنها محرّفة عن «مسألة» وهي الأليق بمقام تردد الإمام، كذلك جاءت في نسخة أخرى من «درء التعارض» ، وفي كتاب الخلال (16)، والله أعلم.

ص: 417

قلت له: فما الفطرة الأولى؟ هي الدين؟

قال: نعم، فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل مولود يولد على الفطرة» .

قلت لأبي عبد الله: فما تقول لأعرفَ قولك؟

قال: أقول: إنه على الفطرة الأولى.

قال شيخنا: فجواب أحمد أنه على الفطرة الأولى، وقوله: إنها الدين= يوافق القول بأنه على دين الإسلام

(1)

.

فصل

(2)

وأما جواب أحمد أنه على ما فُطِر عليه من شقاوة وسعادة، الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان يقول به، ثم تركه؛ فقال الخلال

(3)

: أخبرني محمد ابن يحيى الكحال، أنه قال لأبي عبد الله:«كل مولود يولد على الفطرة» ما تفسيرها؟

قال: هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، شقي أو سعيد.

وكذلك نقل عنه الفضل بن زياد وحنبل وأبو الحارث: أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة.

(1)

«درء التعارض» (8/ 395).

(2)

انظر: «درء التعارض» (8/ 395 - 396).

(3)

«أحكام أهل الملل من الجامع» (16 - 17).

ص: 418

وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد [الله] عن «كل مولود يولد على الفطرة» قال: [على] الشقاوة والسعادة، قال: يرجع إلى ما خلق

(1)

.

وعن الحسن بن ثواب، قال: سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين، قلت: إن ابن أبي شيبة أبا بكر، قال: هو على الفطرة حتى يهوّده أبواه أو يُنَصِّرانه؟

فلم يعجبه شيء من هذا القول، وقال: كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة، يولد على الفطرة التي خُلِق عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أمّ الكتاب، أَرْفَعُ

(2)

ذلك إلى الأصل، هذا معنى:«كل مولود يولد على الفطرة» .

فمن أصحابه [مَن جعل] هذا قولًا قديمًا له، ثم تركه، ومنهم من جعل المسألة على روايتين وأطلق، ومنهم من حكى عنه فيها ثلاث روايات: الثالثة الوقف.

فصل

(3)

قال شيخنا: والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا يدل إلا على

(1)

في «درء التعارض» : «فإليه يرجع على ما خلق» ، وما بين المعقوفات مستدرك منه.

(2)

وتحتمل الضبط على الأمر: «ارْفَعْ» ، وفي كتاب الخلال:«ارجع» ، والمعنى فيهما متقارب، كأنه يريد أن الفطرة هي ما كُتِب على المولود في اللوح المحفوظ ــ وهو الأصل ــ.

(3)

انظر: «درء التعارض» (8/ 410 - 413)، وما بين المعقوفات منه.

ص: 419

القول الذي رجحناه، وهو أنهم [ولدوا] على الفطرة، ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة، لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان، ومستلزمة له لولا المعارِض.

وروى ابن عبد البر بإسناده عن موسى بن عُبَيدة: سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30]، قال: من ابتدأ الله خلقه على الهدى صَيَّره إلى الهدى، وإن عمل بعمل أهل الضلالة، ومن ابتدأ خلقه للضلالة صيَّره إلى الضلالة، وإن عمل بعمل أهل الهدى، ابتدأ خلق إبليس على الضلالة، وعمل بعمل أهل السعادة مع الملائكة، ثم ردَّه الله إلى ما ابتدأ خلقه عليه من الضلالة، فقال:{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، وابتدأ خلق السحرة على الهدى، وعملوا بعمل الضلالة، ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة، وتوفاهم عليها مسلمين

(1)

.

فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبيّن أن الذي ابتدأهم عليه هو ما كتب أنهم صائرون إليه، وأنهم قد يعملون قبل ذلك غيره، وأن من ابْتُدِئ على الضلالة ــ أي كُتِب أن يموت ضالًّا ــ فقد يكون قبل ذلك عاملًا بعمل أهل الهدى، وحينئذ فمن وُلِد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمنع

(2)

أن يعرض لها ما يغيرها، فيصير إلى ما سبق به القدر.

كما في الحديث الصحيح: «إنّ أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما

(1)

«التمهيد» (18/ 80).

(2)

في «درء التعارض» : «لا يمتنع» .

ص: 420

يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة»

(1)

.

وقال سعيد بن جبير في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} قال: كما كتب عليكم تكونون.

وقال مجاهد: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} شقي وسعيد.

وقال أيضًا: يُبْعَث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا.

وقال أبو العالية: عادوا إلى علمه فيهم: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}

(2)

.

قلت: هذا المعنى صحيح في نفسه، دلّ عليه القرآن والسنة والآثار السلفية، وإجماع أهل السنة، وأما كونه هو المراد بالآية ففيه ما فيه.

والذي يظهر من الآية أن معناها معنى نظرائها وأمثالها من الآيات التي يحتج الله سبحانه فيها على النشأة الثانية بالأولى، [و]

(3)

على المعاد بالمبدأ، فجاء باحتجاج في غاية الاختصار والبيان، فقال:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ، كقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]، وقوله:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآية [يس: 78]، وقوله:

(1)

تقدم تخريجه (1/ 63).

(2)

أخرج هذه الآثار ابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 81).

(3)

زيادة لازمة من «ت» ، وكذلك ما سيأتي من مواضع.

ص: 421

{أَيَحْسِبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)} إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]، وقوله:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 5 - 8]، أي على رَجْع الإنسان حيًّا بعد موته.

هذا هو الصواب في معنى الآية

(1)

.

يبقى أن يقال: فكيف يرتبط هذا بقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} ؟

فيقال: هذا الذي أوجب لأصحاب ذلك القول ما تأولوا به الآية، ومَن تأمّل الآية علم أن [هذا] القول أولى بها.

ووجه الارتباط أنّ الآية تضمّنت قواعد الدين علمًا وعملًا واعتقادًا، فأمر سبحانه فيها بالقسط ــ وهو [العدل]ــ الذي هو حقيقة شرعه ودينه، وهو يتضمّن التوحيد، فإنه أعدل العدل، والعدل في معاملة الخلق، والعدل في العبادة ــ وهو الاقتصاد في السنة ــ ويتضمن الأمر بالإقبال على الله، وإقامة عبوديته في بيوته، ويتضمّن الإخلاص له، وهو عبوديته وحده لا شريك له، فهذا ما فيها من العمل.

ثم أخبر بمبدئهم ومعادهم، فتضمّن ذلك حدوث الخلق وإعادته، فذلك الإيمان بالمبدأ والمعاد.

ص: 422

ثم أخبر عن القدر الذي هو نظام التوحيد، فقال:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30].

فتضمّنت الآية الإيمان بالقدر والشرع، والمبدأ والمعاد، والأمر بالعدل والإخلاص.

ثم ختم الآية بذكر حال من لم يصدّق هذا الخبر، ولم يطع هذا الأمر؛ بأنه قد والى الشيطان دون ربّه، وأنه على ضلال وهو يحسب أنه على هدى، والله أعلم.

فصل

(1)

وقال آخرون: معنى قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» أنّ الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ قالوا جميعًا: {بَلَى} [الأعراف: 172]، فأما أهل السعادة فقالوا: بلى على معرفة له طوعًا من قلوبهم، وأما أهل الشقاء فقالوا: بلى كرهًا غير طوع.

قالوا: ويصدّق ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83].

قالوا: وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30].

قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى

(1)

انظر: «التمهيد» (18/ 81)، «درء التعارض» (8/ 413).

ص: 423

هذا المعنى، واحتج بقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].

قال إسحاق: يقول لا تبديل للخلقة التي جُبِل عليها ولد آدم كلهم، يعني من الكفر والإيمان، والمعرفة والإنكار.

واحتج بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية [الأعراف: 172].

قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، قال: انظروا ألا تقولوا: إنا كنّا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل.

وذكر حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر، قال: وكان الظاهر ما قال موسى: أقتلت نفسًا زاكيةً بغير نفس؟! فأعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها، وأنه لا تبديل لخلق الله، فأمر بقتله؛ لأنه كان قد طُبِع كافرًا.

وفي «صحيح البخاري»

(1)

أن ابن عباس كان يقرؤها: «وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين» .

قال إسحاق: فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولم يبيّن لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين؛ لأنهم لا يدرون ما جُبِل كل واحد عليه

(1)

ضمن حديث رقم (3401).

ص: 424

حتى

(1)

أخرج من ظهر آدم، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم حكم الأطفال في الدنيا

(2)

: أبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، يقول: أنتم لا تعلمون ما طُبِع عليه في الفطرة الأولى، لكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيرًا بين أبوين مسلمين أُلْحِق بحكم الإسلام.

وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه؛ فعِلْم ذلك إلى الله، وبِعِلْم ذلك فَضَّل الله الخضر في علمه بهذا على موسى؛ إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام، وخَصَّه بذلك.

قال: ولقد سئل ابن عباس عن ولدان المسلمين والمشركين، فقال: حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر.

قال إسحاق: ألا ترى إلى قول عائشة ــ حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين ــ: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة. فردَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«مَهْ يا عائشة، وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا»

(3)

.

قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم.

(1)

كذا في «د» : «حتى» ، وكذلك وقعت في نسخة خطية من «درء التعارض» (8/ 415)، وفي باقي النسخ:«حين» .

(2)

كذا في «د» ، وفي أصول «درء التعارض» (8/ 416) كما أشار إليه المحقق:«حكم الدنيا في الأطفال» ، وفي «التمهيد» (18/ 87):«حكم الطفل في الدنيا فقال» ، وهي الأليق.

(3)

أخرجه مسلم (2662).

ص: 425

وسئل حماد بن سلمة، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«كل مولود يولد على الفطرة» ، فقال: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم

(1)

.

قال ابن قتيبة: يريد حين مسح ظهر آدم، فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]

(2)

.

قال شيخنا

(3)

: أصلُ مقصودِ الأئمة صحيح، وهو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر، لكن لا يُحتاج مع ذلك أن يُفسَّر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله، ويجب أن يُتّبع في ذلك ما دلّ عليه الدليل.

وما ذكروه أنّ الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنَّكَرة إن أرادوا به أنّ الله سبق علمُهُ وقدرُهُ بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون، وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدره وخلقه= فهذا حقٌّ تردّه القدرية، فغلاتُهم ينكرون العلم، وجميعهم ينكرون عموم خلقه ومشيئته وقدرته.

وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنَّكَرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق= فهذا يتضمن شيئين:

أحدهما: أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودًا فيهم، كما قال ذلك طوائف من السلف، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه.

(1)

رواه أبو داود (4716).

(2)

«إصلاح غلط أبي عبيد» (57).

(3)

«درء التعارض» (8/ 421).

ص: 426

وفي تفسير الآية نزاع بين الأئمة

(1)

، وكذلك في خلق الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان.

لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقًّا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار، فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة، وأن الله خلق خلقه حنفاء، بل هو مؤيد لذلك

(2)

.

وأما قول القائل: إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى مطيع وكافر، فهذا لم يُنقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السُّدِّي في تفسيره، قال: لما أخرج الله آدم من الجنة ــ قبل أن يهبطه من السماء ــ مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذرّية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذرّ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي. ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرّية سوداء كهيئة الذرّ، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. ذلك قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41] ثم أخذ منهم الميثاق، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفةٌ كارهين على وجه التَّقِيّة، فقال هو والملائكة:{شَهِدْنَا يَقُولُوا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} [الأعراف: 172]، فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله بأنه ربّه، وذلك قوله عز وجل:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وكذلك

(3)

قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}

(1)

تحتمل في «د» : «الأمة» ، والمثبت أليق بالسياق.

(2)

كذا في «د» و «درء التعارض» : «مؤيد لذلك» ، وفي نسخة خطية منه:«مريد لذلك» .

(3)

كذا في «د» : «وكذلك» ، وفي مصدر النقل:«وذلك» ، وهو الأقرب.

ص: 427

[الأنعام: 149] يعني يوم أخذ الميثاق

(1)

.

قال شيخنا: ومثل

(2)

هذا الأثر لا يوثق به؛ فإن في «تفسير السُّدِّي» أشياء قد عُرِف بطلان بعضها، وهو ثقة في نفسه، وأحسن أحوال هذا وأمثاله أن يكون كالمراسيل إن كان مأخوذًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان مأخوذًا عن أهل الكتاب؟!

ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تتضمن التسوية بين جميع الناس في الإقرار

(3)

.

وأما قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، فإنما هو في الإسلام الموجود منهم بعد خلقهم؛ لم يقل: إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعًا وكرهًا.

يدل على ذلك أنّ ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهم عند مَن يثبته، ولو كان فيهم كاره لقال: لم أقرّ طوعًا بل كرهًا. فلا تقوم به عليه حجة.

وأما احتجاج [إسحاق] رحمه [الله]

(4)

بقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]؛ فهذه الآية فيها قولان:

أحدهما: أن معناها النهي، كما تقدم عن ابن جرير أنه فسّرها

(1)

تقدم تخريجه (1/ 37)، وقد نقله السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.

(2)

«د» : «وقيل» دون إعجام، والتصويب من «درء التعارض» .

(3)

زاد بعده في «ت» : «لكفى» ، وليست هي في مصدر المؤلف.

(4)

ما بين المعقوفات مستدرك من «درء التعارض» .

ص: 428

[بذلك]

(1)

، فقال: أي لا تبدّلوا دين الله الذي فطر عليه عباده.

وهذا قول غير واحد من المفسرين، لم يذكروا غيره.

والثاني: ما قاله إسحاق، وهو أنها خبر على ظاهرها، وأنّ خَلْق الله لا يبدله أحد. وظاهر اللفظ [أنه]

(2)

خبر فلا يُجْعل نهيًا بغير حجة، وهذا أصحُّ.

وحينئذ فيكون المراد: أنّ ما جَبَلهم عليه من الفطرة لا يُبدَّل، فلا يُجْبلون على غير الفطرة، لا يقع هذا أصلًا.

والمعنى: أن الخلق لا يتبدّل، فيُخلقون على غير الفطرة، ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغيّر بعد الخلق، بل نفس الحديث يبين أنها تتغيّر، ولهذا شبّهها بالبهيمة التي تولد جَمْعاء، ثم تُجْدع، ولا تولد بهيمة مَخْصِيّة ولا مَجْدوعة.

وقد قال تعالى عن الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فاللهُ أَقْدَرَ الخلقَ على أن يغيّروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته، وأما

(3)

تبديل الخلق بأن يُخلَقوا على غير تلك الفطرة؛ فهذا لا يقدر عليه إلا الله، والله لا يفعله، كما قال:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ، ولم يقل: لا تغيير؛ فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله، ولكن إذا غُيِّر بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة [قد حصل بدله]

(4)

.

وأما قول القائل: لا تبديل للخلقة التي جُبِل عليها بنو آدم كلهم من كفر

(1)

«بذلك» من «ت» ، وفي مصدر المؤلف:«بالنهي» .

(2)

«أنه» من «ت» ، ومصدر المؤلف.

(3)

«د» : «وإنما» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض» .

(4)

«قد حصل بدله» من مصدر المؤلف.

ص: 429

وإيمان؛ فإن عنى به [أن]

(1)

ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه؛ فهذا حق، ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان ــ وبالعكس ــ ممتنع، ولا أنه غير مقدور، بل العبد قادرٌ على ما أمره الله به من الإيمان، وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر، وعلى أن يبدّل حسناته بالسيئات، وسيئاته بالحسنات، كما قال الله:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل: 11].

وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فُطِروا عليه حين الولادة؛ فإن ذلك خَلْق الله الذي لا يقدر على تبديله غيرُه، وهو سبحانه لا يبدّله، بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس؛ فإنه يبدّله كثيرًا، والعبد قادرٌ على تبديله بإقدار الربّ له على ذلك.

ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، فهذه فطرة محمودة، أَمَرَ الله بها نبيه، فكيف تنقسم إلى كفر وإيمان مع أَمْرِ الله تعالى بها؟!

وقد تقدم تفسير السلف: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لدين الله، أو النهي عن الخِصَاء ونحوه.

ولم يقل أحد منهم: إن المعنى: لا تبديل لأحوال العباد من كفر إلى إيمان وعكسه؛ فإن تبديل ذلك موجود، ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر، والرب تعالى عالم بما سيكون، لا يقع خلاف معلومه، فإذا وقع التبديل كان هو الذي علمه.

(1)

«أن» من «ت» .

ص: 430

وأما قوله عن الغلام: «إنه طُبِع يوم طُبِع كافرًا» ، فالمراد به أنه كُتِب كذلك وقُدِّر وخُتِم، فهو من طَبْع الكتاب، ولفظ الطَّبْع لما صار يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجِبِلّة والخِلْقة ظَنّ الظانّ أن هذا مراد الحديث.

وهذا الغلام الذي قتله الخضر ليس في القرآن ما يبيّن أنه كان غير بالغ ولا مكلّف، بل قراءة ابن عباس تدل على أنه كان كافرًا في الحال، وتسميته غلامًا لا تمنع أن يكون مكلّفًا قريبَ عهدٍ بالصغر، ويدل عليه أن موسى لم ينكر قتله لصغره، بل لكونه زاكيًا، ولم يقتل نفسًا.

لكن يقال: في الحديث الصحيح ما يدلّ على أنه كان غير بالغ من وجهين:

أحدهما: أنه قال: «فمرّ بصبي يلعب مع الصبيان» .

الثاني: أنه قال: «ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا» ، وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد.

فيقال: الكلام على الآية على التقديرين:

فإن كان بالغًا وقد كفر؛ فقد قُتِل على كفره الواقع بعد البلوغ، ولا إشكال.

وإن كان غير بالغ فلعل تلك الشريعة كان فيها التكليف قبل الاحتلام

(1)

عند قوة عقل الصبي وكمال تمييزه.

(1)

«د» : «الاحكام» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض» .

ص: 431

وإن لم يكن التكليف قبل البلوغ بالشرائع واقعًا؛ فلا يمتنع وقوعه بالتوحيد ومعرفة الله، كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم.

وعلى هذا فيمكن أن يكون مكلّفًا بالإيمان قبل البلوغ، وإن لم يكن مكلّفًا بشرائعه، وكُفْر الصبي المميِّز [صحيح]

(1)

عند أكثر العلماء، فإذا ارتدّ صار مرتدًّا، لكن لا يُقتَل حتى يبلغ.

فالغلام الذي قتله الخضر: إما أن يكون كافرًا بعد البلوغ؛ فلا إشكال، وإما أن يكون غير بالغ وهو مكلف في تلك الشريعة؛ فلا إشكال أيضًا، وإما أن يكون مكلفًا بالتوحيد والمعرفة غير مكلف بالشرائع؛ فيجوز قتله في تلك الشريعة، وإما أن لا يكون مكلفًا [أصلًا]

(2)

؛ فقُتِل لئلا يفتن أبويه عن دينهما، كما يُقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل، [بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل، فقتل الصبي الكافر يجوز لدفع صياله الذي لا يندفع إلا بالقتل]

(3)

.

وأما قتلُ صبي لم يكفر بعد، بين أبوين مؤمنين؛ للعلم بأنه إذا بلغ كفَرَ وفَتَن أبويه؛ فقد يُقال: ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه.

وأيضًا فإن الله لم يأمر أن يُعاقَب أحدٌ بما يُعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه، ولا هو سبحانه يُعاقِب العباد على ما يَعلم أنهم سيفعلونه حتى يفعلوه.

(1)

«صحيح» من «درء التعارض» .

(2)

«أصلًا» من «ت» .

(3)

من قوله: «بل الصبي» إلى هنا مستدرك من «ت» ، ونحوه في «درء التعارض» .

ص: 432

وقائل هذا القول يقول: إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس، وإنما فيها عِلْمه بأسباب لم يكن عَلِم بها موسى، مثل عِلْمه بأنّ السفينة لمساكين يعملون، ووراءهم ملك ظالم، وهذا أمر يعلمه غيره. وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين، وأنّ أباهما كان رجلًا صالحًا، وأنّ تحته كنزًا لهما؛ مما يمكن أن يعلمه كثيرٌ من الناس. وكذلك كُفْر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه، لكن لمحبتهما له لا ينكران عليه، أو لا يقبل منهما.

فإن كان الأمر على ذلك؛ فليس في الآية حُجّة على قولهم أصلًا.

وإن [كان]

(1)

ذلك الغلام لم يكفر بعد، ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كَفَر؛ فمن يقول هذا يقول: إنّ قَتْله دفعًا لشره

(2)

، كما قال نوح:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27].

وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرًا.

وقراءة ابن عباس: «وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين» ؛ ظاهرة أنه كان حينئذٍ كافرًا.

فإن قيل: فهذا الغلام كان أبواه مؤمنين؛ فلو كان مولودًا على فطرة الإسلام ــ وهو بين أبوين مسلمين ــ لكان مسلمًا تبعًا لهما، وبحكم الفطرة، فكيف يُقتَل والحالة هذه؟

(1)

«كان» من «ت» .

(2)

«درء التعارض» : «إنه قُتِل دفعًا لشره» .

ص: 433

قيل: إن كان بالغًا فلا إشكال، وإن كان مميِّزًا وقد كفر فيصح كفره وردَّته عند كثيرٌ من العلماء، وإن [كان]

(1)

لا يُقتَل حتى يبلغ عندهم، فلعل في تلك الشريعة يجوز قتْل المميِّز الكافر، وإن كان صغيرًا غير

(2)

مميِّز فيكون قتْله خاصًّا به؛ لأن الله أطلع الخضر على أنه لو بلغ لاختار غير دين الأبوين.

وعلى هذا يدل قول ابن عباس لنجدة ــ وقد سأله عن قَتْل صبيان الكفار فقال ــ: «إن علمتَ فيهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم»

(3)

.

فإن قيل: إذا كان مولودًا على الفطرة وأبواه مؤمنين؛ فمن أين جاءه الكفر؟

قيل: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على الغالب، وإلا فالكفر قد يأتيه من قبل غير أبويه، فهذا الغلام إن كان كافرًا في الحال فقد جاءه الكفر من غير جهة أبويه، وإن كان المراد أنه إذا بلغ سيكفر باختياره فلا إشكال.

فصل

(4)

وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه» أنه أراد به مجرّد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيّران الفطرة= فهذا خلاف ما يدلّ عليه الحديث؛ فإنه شَبّه تكفير الأطفال بجَدْع البهائم تشبيهًا للتغيير بالتغيير.

(1)

«كان» من «ت» .

(2)

«د» : «وإن كان غير صغيرا غير» ، والمثبت من «ت» .

(3)

أخرجه مسلم (1812).

(4)

انظر: «درء التعارض» (8/ 430 - 432).

ص: 434

وأيضًا فإنه ذكر هذا الحديث لمّا قتلوا

(1)

أولاد المشركين فنهاهم عن قتلهم، وقال:«أليس خياركم أولاد المشركين؟ كل مولود يولد على الفطرة» ، فلو أراد أنه تابعٌ لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة له، يقولون: هم كفار كآبائهم؛ [فنقْتُلُهم كآبائهم]

(2)

.

وكون الصغير يتبع أبواه

(3)

في أحكام الدنيا هو لضرورة بقائه في الدنيا؛ فإنه لابدّ له من مربٍّ يربيه، وإنما يربيه أبواه، فكان تابعًا لهما ضرورة.

ولهذا مَن سُبِي منفردًا عنهما صار تابعًا لسابِيهِ عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم؛ لكونه هو الذي يربّيه.

وإذا سُبِي منفردًا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع بين العلماء.

واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سُبِي منفردًا عن أبويه يصير مسلمًا؛ لا

(4)

يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين

(5)

مجرد لحاقه بهما

(6)

في الدين، ولكن وجه الحجة أنه إذا وُلِد على الملّة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن

(7)

الفطرة، فمتى سباه المسلمون منفردًا

(1)

«د» : «قتل» ، والمثبت من «درء التعارض» .

(2)

«فنقتلهم كآبائهم» من «ت» .

(3)

كذا في «د» : «أبواه» ، والجادة فيه النصب على المفعول:«أبويه» ، ووقع في مصدر المؤلف:«أباه» .

(4)

«د» : «إذ» ، والصواب من «درء التعارض» .

(5)

«د» : «الأبوين لهما» بزيادة «لهما» ولا معنى لها، وليست في مصدر المؤلف.

(6)

«د» : «لهما» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض» .

(7)

«د» : «على» ، والتصحيح من المصدر.

ص: 435

عنهما لم يكن هناك من يغير دينه، وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلمًا بالمُقْتضِي السالم عن المعارض.

ولو كان الأبوان يجعلانه كافرًا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المَسْبِي بمنزلة البالغ الكافر، ومعلوم أن البالغ الكافر إذا سباه المسلمون لم يصر مسلمًا؛ لأنه صار كافرًا حقيقة، فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرًا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسّباء، فعُلِم أنه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعًا لأبويه، لا لأنه صار كافرًا في نفس الأمر.

يبين ذلك: أنه لو سباه كفار ولم يكن معه أبواه لم يصر مسلمًا، فهو هنا كافر في حكم الدنيا، وإن لم يكن أبواه هوّداه ونصّراه.

فعُلِم أن المراد بالحديث: أنّ الأبوين يلقّنانه

(1)

الكفر ويعلمانه إياه.

وذَكَر النبي صلى الله عليه وسلم الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال؛ فإن كل طفل فلا بدّ له من أبوين، وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما.

ومما يبين ذلك: قوله في الحديث الآخر: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعْرِب عنه لسانه: فإما شاكرًا وإما كفورًا»

(2)

، فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز، فحينئذ يتبين له أحد الأمرين، ولو كان كافرًا في الباطن بكفر

(1)

«د» : «يلقناه» خطأ، والصواب من «درء التعارض» .

(2)

أخرجه أحمد (14805)، واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (999) من حديث الحسن عن جابر به، وفي إسناده مقال، الحسن لم يسمع من جابر كما في «المراسيل» (36)، وفيه أيضًا أبو جعفر الرازي ليّن الحديث، انظر:«تهذيب الكمال» (30/ 199).

ويشهد لأوله حديث أبي هريرة المتقدم في الصحيح.

ص: 436

الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يُعْرِب عنه لسانه.

وكذلك قوله في الحديث الصحيح: «إني خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا»

(1)

؛ صريح في أنهم خُلِقوا على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم، وحرّمتْ عليهم الحلال، وأمرَتْهم بالشرك.

فلو كان الطفل يصير كافرًا في نفس الأمر من حين يولد؛ لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلّمه أحدٌ الكفرَ ويلقّنه إياه= لم يكن الشياطين هم الذين غَيّروهم عن الحنيفية، وأمروهم بالشرك.

فصل

(2)

ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة؛ فإن أولاد الكفار لمَّا كان يجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانتهم لهم، وتمكينهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبينهم، واسترقاقهم وغير ذلك= صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر، كالذي تكلم بالكفر وعمل به.

ومن ههنا قال محمد بن الحسن: إن هذا الحديث ــ وهو قوله: «كل مولود يولد على الفطرة» ــ كان قبل أن تنزل الأحكام.

فإذا عُرِف أنّ كونهم وُلِدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعًا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.

(1)

تقدم تخريجه (2/ 65).

(2)

«درء التعارض» (8/ 432).

ص: 437

وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن يكتم إيمانه، ولا يعلم المسلمون حاله، فلا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه، ويُدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من أهل الجنة، كما أن المنافقين في الدنيا تجري عليهم أحكام المسلمين، وهم في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا.

وقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خُلِقوا عليها، وعليها

(1)

الثواب والعقاب في الآخرة إذا عملوا بموجَبها، وسلمت عن المعارِض، ولم يرد به الإخبار بأحكام الدنيا؛ فإنه قد عُلِم بالاضطرار من شَرْع الرسول أنّ أولاد الكفار تبعٌ لآبائهم في أحكام الدنيا، وأنّ أولادهم لا يُنْزَعون منهم إذا كانوا ذمّة، فإن كانوا محاربين استُرِقّوا، ولم يتنازع المسلمون في ذلك.

لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما، هل يُحْكَم بإسلامه؟

وعن أحمد في ذلك ثلاث روايات:

إحداهن: يُحكم بإسلامه بموت الأبوين أو أحدهما؛ لقوله: «فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه» ، وهذا ليس معه أبواه، وهو على الفطرة وهي الإسلام لِمَا تقدم؛ فيكون مسلمًا.

والثانية: لا يُحكم بإسلامه بذلك، وهذا قول الجمهور.

قال شيخنا

(2)

: وهذا القول هو الصواب، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها.

(1)

«د» : «وعلى» ، والتصويب من مصدر النقل.

(2)

«درء التعارض» (8/ 434).

ص: 438

فقد عُلِم أن أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ووادي القرى، وخيبر، ونجران، واليمن، وغير ذلك، وكان فيهم من يموت وله ولد صغير، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام [يتامى]

(1)

أهل الذمة ولا خلفاؤه.

وأهل الذمة كانوا في زمانهم طَبَقَ الأرض بالشام، ومصر، والعراق وخراسان، وفيهم من يتاماهم عدد كثير، ولم يحكموا بإسلام واحد منهم؛ فإنّ عَقْد الذمّة اقتضى أن يتولّى بعضهم بعضًا، فهم يتولّون حضانة يتاماهم، كما كان الأبوان يتولون تربيتهم.

وأحمد يقول: إن الذمّي إذا مات ورثه ابنه الطفل، مع قوله في إحدى الروايات: إنه يصير مسلمًا؛ لأن أهل الذمّة ما زال أولادهم يرثونهم؛ لأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث، لم يحصل قبله، ونَصّ على أنه إذا مات الذمّي عن حَمْل منه لم يرثه؛ للحكم بإسلامه قبل وضعه، وكذلك لو كان الحمل من غيره، كما إذا مات وخلّف امرأة ابنه أو أخيه حاملًا فأسلمت أمه قبل وضعه؛ لم يرثه؛ لأنا حكمنا بإسلامه من حين أسلمت أمه، وكذلك هناك حكمنا بإسلامه من حين مات أبوه.

وقد وافق الإمام أحمد الجمهورَ على أن الطفل إذا مات أبواه في دار الحرب لا يُحكم بإسلامه، ولو كان موت الأبوين يجعله مسلمًا بحكم الفطرة الأولى لم يفترق الحال بين دار الحرب ودار الإسلام؛ لوجود المقتضِي للإسلام وهو الفطرة، وعدم المانع وهو الأبوان.

وقد التزم بعض أصحابه الحكمَ بإسلامه، وهو باطل قطعًا؛ إذ من

(1)

زيادة لازمة لإقامة المعنى من مصدر القول.

ص: 439

المعلوم بالضرورة أن أهل الحرب فيهم من بلغ يتيمًا كغيره، وأحكام الكفار المحاربين جارية عليهم.

والرواية الثالثة: إنْ كفله أهل دينه فهو باقٍ في دين أبويه، وإنْ كفله المسلمون فهو مسلم، نَصّ عليه في رواية يعقوب بن بختان، كما ذكره الخلّال في «جامعه»

(1)

عنه قال: سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية لقوم، فولدت عندهم، ثم ماتت، ما يكون الولد؟

قال: إذا كفله المسلمون ولم يكن له مَن يكفله إلا هم فهم مسلمون

(2)

.

قيل له: فإن مات بعد الأم بقليل؟

قال: يدفنه المسلمون.

وقال في رواية أبي الحارث في جارية نصرانية لرجل مسلم، لها زوج نصراني، فولدت عنده، وماتت عند المسلم، وبقي ولدها عنده، ما يكون حكم هذا الصبي؟

قال: إذا كفله المسلمون فهو مسلم.

وهذه الرواية وإن لم يذكرها عامة الأصحاب، وهي من «جامع الخلال» ؛ فهي أصح الأقوال في هذه المسألة دليلًا، وهي التي نختارها، وبها تجتمع الأدلة.

(1)

«أحكام أهل الملل من الجامع» (27).

(2)

كذا في «د» على الجمع، والأشبه بالسياق الإفراد:«فهو مسلم» ، وكذلك هو في كتاب الخلال، و «أحكام أهل الذمة» (2/ 943).

ص: 440

فإن الطفل يتبع مالكه وسابِيهِ، فكذلك يتبع كافله وحاضنه؛ فإنه لا يستقل بنفسه، بل لا بدّ له ممن يتبعه ويكون معه، فتبعيّته لحاضنه وكافله أولى من جعله كافرًا بكون أبويه كافرين، وقد انقطعت تبعيّته لهما. بخلاف ما إذا كفله أهل دين الأبوين فإنهم يقومون مقامهما، ولا أثر لفقد الأبوين إذا كفله جده وجدته أو غيرهما من أقاربه.

فهذا القول أرجح في النظر، والله أعلم.

وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلمًا، فإنا قد استوفيناها في كتابنا في «أحكام أهل الملل» بأدلتها واختلاف العلماء من السلف والخلف فيها، وذِكْر مآخذهم، وإنما المقصود ذِكْر الفطرة، وأنها هي الحنيفية، وأنها لا تنافي القدر السابق بالشقاوة، والله أعلم.

فصل

(1)

قال أبو عمر

(2)

: وقال آخرون في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الفطرة ههنا كفرًا ولا إيمانًا ولا معرفة ولا إنكارًا، وإنما أراد أنّ كل مولود يولد على السلامة خِلْقة وطَبْعًا وبِنْية ليس معها كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميّز.

واحتجوا بقوله في الحديث: «كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جَمْعاء» يعني: سالمة «هل تحسّون فيها من جَدْعاء» يعني: مقطوعة الأذن، فمَثَّل قلوب بني

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 442).

(2)

«التمهيد» (18/ 69)، «الاستذكار» (3/ 101).

ص: 441

آدم بالبهائم؛ لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه السوائب وهذه البحائر.

يقول: كذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم، ليس لهم حينئذ كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، كالبهائم السالمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين، فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلهم.

قالوا: ولو كان الأطفال قد فُطِروا على شيء من الكفر والإيمان في أوليّة أمرهم؛ ما انتقلوا عنه أبدًا، فقد نجدهم يؤمنون، ثم يكفرون، ثم يؤمنون.

قالوا: ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرًا أو إيمانًا؛ لأن الله أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، فمن لم يعلم شيئًا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار.

قال أبو عمر: هذا القول أصحّ ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الوِلْدان عليها.

وذلك أن الفطرة: السلامة والاستقامة، بدليل قوله تعالى في حديث عياض بن حمار:«إني خلقتُ عبادي حنفاء» ، يعني: على استقامة وسلامة. وكأنه ــ والله أعلم ــ أراد الذين خلصوا من الآفات كلها، والمعاصي والطاعات، فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما

ومن الحجة أيضًا في هذا قول الله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7]، و {أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ} [المدثر: 38]، ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

ص: 442

قال شيخنا

(1)

: هذا القائل إن أراد بهذا القول: أنهم خُلِقوا خاليين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان والكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، وهذا هو الذي يُشْعِر به ظاهر الكلام= فهذا قول فاسد؛ لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب.

فكان ينبغي أن يقال: فأبواه يسلّمانه و يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، فلما ذكر أن أبويه يكفّرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام؛ عُلِم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر.

وأيضًا: فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عَطَب ولا استقامة ولا زيغ؛ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة، وليس هو بأحدهما بأولى منه بالآخر، كما أن اللوح قبل الكتابة لا يثبت له حكم مدح ولا ذم، فما كان قابلًا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحًا ولا ذمًّا.

والله تعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، فأمَرَه بلزوم فطرته التي فَطَر الناس عليها، فكيف لا تكون ممدوحة؟!

وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبّهها بالبهيمة المُجْتَمِعة الخَلْق، وشبَّه ما طرأ عليها من الكفر بجَدْع الأنف والأذن، ومعلوم أن كمالهما محمود، ونقصهما مذموم، فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة؟!

(1)

«درء التعارض» (8/ 444 - 445).

ص: 443

فصل

(1)

وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من العلماء: إن المراد أنهم وُلِدوا على الفطرة السليمة، التي لو تُرِكت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عَرَض لها من الفساد خرجت عن هذه الفطرة= فهذا القول قد يقال: لا يَرِدُ عليه ما يَرِدُ على القول الذي قبله؛ فإن صاحبه يقول: في الفطرة قوة تميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما في البدن السليم قوة يحب بها

(2)

الأغذية النافعة، وبهذا كانت محمودة، وذُمّ من أفسدها.

لكن يقال: فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية: هل هي كافية في حصول المعرفة، أو تقف المعرفة على أدلة من خارج؟

فإن كانت المعرفة تقف على أدلة من خارج أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى. ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجِبًا للمعرفة بنفسه، بل غايته أن يكون مُعَرِّفًا ومُذَكِّرًا، فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب، وإلا فلا.

وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان، وحينئذ فلا فرق فيها بين الإيمان والكفر، والمعرفة والإنكار، إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له، لكن يتوقف على المؤثِّر الفاعل من خارج، وهذا هو القسم

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 445 - 450).

(2)

«د» : «بها إلى» .

ص: 444

الأول الذي أبطلناه، وبيّنا أنه ليس في ذلك مَدْحٌ للفطرة.

وأما إن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها ــ وإن لم يوجد مَن يعلّمها أدلةَ المعرفة ــ[لزم حصول المعرفة]

(1)

فيها بدون ما تسمعه من الأدلة، سواء قيل: إن المعرفة ضرورية فيها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب تنتظم في النفس.

وإن لم تَسْمَعْ كلام مُستدِل فإن النفس قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج

(2)

معه إلى كلام الناس، فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضِي للمعرفة حاصلًا لكل مولود، وهو المطلوب، والمقتضِي التام يستلزم مقتضاه، فتبين أنّ أحد الأمرين لازم: إما كون الفطرة مستلزمة للمعرفة، وإما استواء الأمرين بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها.

وتلخيص ذلك أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب: فإما أن تكون هي موجِبة مستلزمة لذلك، وإما أن لا تكون مستلزمة له، فلا يكون واجبًا لها، فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان بالنسبة إليها، أو كلاهما ممكن لها، فثبت أن المعرفة لازمة لها، إلا أن يعارضها معارض.

فإن قيل: ليست موجِبة مستلزمة للمعرفة، ولكن هي إليها أَمْيل، مع قبولها للنَّكَرة.

قيل: فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة؛ وُجِدت

(3)

تارة، وعُدِمت تارة،

(1)

«لزم حصول المعرفة» من «ت» ، و «درء التعارض» .

(2)

«د» : «ما يحتاج» مفسد للمعنى، والتصويب من مصدر النقل.

(3)

«درء التعارض» (8/ 447): «وجبت» .

ص: 445

وهي وحدها لا تحصّلها، فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين، فيكون الإسلام والتهويد والتنصير والتَّمْجِيس.

ومعلوم أن هذه أنواعٌ بعضها أبعد عن الفطرة من بعض، كالتَّمْجِيس، فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التَّمْجِيس، فوجب أن يذكر كما ذكر ذلك.

ويكون هذا ككون

(1)

الفطرة لا تقتضي الرضاع إلا بسبب منفصل، وليس كذلك، بل الطفل يختار مصّ اللبن بنفسه، فإذا مُكِّن من الثدي وجدت الرضاعة لا محالة، فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض.

وأيضًا فإن حُبَّ النفس لله وخضوعها له وإخلاصها له، مع الكفر به والشرك والإعراض عنه ونسيان ذكره: إما أن يكون نسبتهما إلى الفطرة سواء، أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني؟

فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم، ولم

(2)

يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان، ويكون تَمْجِيسها كتحنيفها، وقد عُرِف بطلان هذا.

وإن كان فيها مقتضٍ لهذا: فإما أن يكون المقتضِي مستلزمًا لمقتضاه عند عدم المعارض، وإما أن يكون متوقّفًا على شخص خارج عنها. فإن كان

(1)

«د» : «كمكون» ، والصواب المثبت.

(2)

«د» : «وإن لم» ، والتصويب من مصدر القول.

ص: 446

الأول ثبت [أن]

(1)

ذلك من لوازمها، وأنها مفطورة عليه، لا يُفْقَد إلا إذا فسدت الفطرة، وإن قُدِّر أنه متوقّف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية. وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا.

وإذا قيل: هي إلى الحنيفية أميل، كان كما يقال: هي إلى غيرها أميل، فتبيّن أن فيها قوة موجِبة لحب

(2)

الله، والذلّ له، وإخلاص الدين له، وأنها موجِبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما أن فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فُطِرت على محبته وطلبه.

ومما يبين هذا: أنّ كل حركة إرادية فإن الموجِب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين؛ كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحيّ المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرّد الشعور بالمراد، فما في النفوس من قوة المحبة له إذا شَعَرت به تقتضي حبّه إذا لم يحصل معارض، وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح والعلم وغيرها.

وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والإخلاص والذل والخضوع، وأن فيها قوة الشعور به، فيلزم قطعًا وجود المحبة له والتعظيم والخضوع بالفعل؛ لوجود المقتضِي، إذا سلم عن المعارض.

وتبين أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل، وإن كان وجوده قد يذكِّر ويحرِّك، كما لو خوطب الجائع أو الظمآن بوصف

(1)

«أن» من «ت» .

(2)

«د» : «تحب» مهملة، والتصحيح من «درء التعارض» (8/ 449).

ص: 447

طعام، أو خوطب المُغْتَلِم بوصف النساء؛ فإن هذا مما يذكّره ويحرّكه ويثير شهوته الكامنة بالقوة في نفسه، لا أنه يُحْدِث له نفس تلك الإرادة والشهوة بعد أن لم تكن فيه، فيجعلها موجودة بعد أن كانت عدمًا.

فكذلك الأسباب الخارجة عن الفطرة، لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق ومحبته وتعظيمه والخضوع له، وإن كان ذلك مذكّرًا ومحرّكًا ومنبّهًا، ومزيلًا للعارض المانع.

ولذلك سَمّى الله سبحانه ما كمَّل به موجبات الفطرة: تذكيرًا وذكرى، وجعل رسوله مذكّرًا، فقال:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]، وقال:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، وقال:{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ} [غافر: 13]، وقال:{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو} [الزمر: 9]، وقال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، وقال:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وقال:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58].

وهذا كثير في القرآن، يخبر أنّ كتابه ورسوله مذكِّر لهم بما هو مركوز في فِطَرهم من معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلاله والخضوع له والإخلاص له، ومحبة شرعه الذي هو العدل المحض، وإيثاره على ما سواه.

فالفِطَر مركوز فيها معرفته ومحبته والإخلاص له، والإقرار بشرعه، وإيثاره على غيره، فهي تعرف ذلك وتشعر به مجملًا ومفصّلًا بعض التفصيل، فجاءت الرسل تذكّرها بذلك، وتنبّهها عليه، وتفصّله لها وتبيّنه، وتعرّفها الأسباب المعارضة لموجِب الفطرة، المانعة من اقتضائها أثرها.

ص: 448

وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل، فإنها أَمْر بمعروف، ونَهْي عن منكر، وإباحة طيّب، وتحريم خبيث، وأَمْر بعدل، ونَهْي عن ظلم. وهذا كله مركوز في الفطرة، وكمال تفصيله وتبيينه موقوف على الرسل.

وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات، فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه، ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل، وكذلك تنزيهه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقرّ في فِطَر الخلائق، خلافًا لمن قال من المتكلمين: إنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص، وإنما عُلِم بالإجماع.

فقُبْحًا لهاتيك العقول فإنها

عقال على أصحابها ووبالُ

(1)

فليس في العقول أبين ولا أجلى من معرفتها بكمال خالق هذا العالم، وتنزيهه عن العيوب والنقائص، وجاءت الرسل بالتذكرة بهذه المعرفة وتفصيلها.

وكذلك في الفِطَر الإقرار بسعادة النفوس البشرية وشقاوتها، وجزائها بكسبها في غير هذه الدار، وأما تفصيل ذلك الجزاء والسعادة والشقاوة فلا يُعلم إلا بالرسل.

وكذلك فيها معرفة العدل ومحبته وإيثاره، وأما تفاصيل العدل الذي هو شرع الربّ تعالى فلا يُعلم إلا بالرسل.

فالرسل تذكّر بما في الفِطَر، وتفصّله وتبيّنه.

(1)

لم أقف عليه في مصدر آخر.

ص: 449

ولهذا كان العقل الصريح موافقًا للنقل الصحيح، والشِّرْعة مطابقة للفطرة، تتصادقان ولا تتعارضان، خلافًا لمن قال: إذا تعارض العقل والوحي قدّمنا العقل على الوحي.

فقُبْحًا

(1)

لعقل يَنقضُ الوحيَ حكمُهُ

ويشهد حقًّا أنه هو كاذبُ

(2)

والمقصود أنّ الله فطر عباده على فطرة فيها الإقرار به ومحبته والإخلاص له، والإنابة إليه، وإجلاله وتعظيمه، وأنّ الشخص الخارج عنها لا يُحْدِث فيها ذلك، ويجعله فيها بعد أن لم يكن، وإنما يذكّرها بما فيها، وينبّهها عليه، ويحرّكها له، ويفصّله لها ويبيّنه، ويعرّفها الأسباب المقوّية، والأسباب المعارضة له، والمانعة من كماله، كما أنّ الشخص الخارج لا يجعل في الفطرة شهوة اللبن عند الرضاع، والأكل والشرب والنكاح، وإنما يذكّر النفس ويحرّكها لما هو مركوز فيها بالقوة.

فصل

(3)

ومما يبين ذلك: أنّ الإقرار بالصانع مع خلو القلب عن محبته والخضوع له وإخلاص الدين له؛ لا يكون نافعًا، بل الإقرار به مع الإعراض عنه وعن محبته وتعظيمه والخضوع له؛ أعظم استحقاقًا للعذاب، فلا بدّ أن يكون في الفطرة مقتضٍ للعلم، ومقتضٍ للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم؛ فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبّه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من

(1)

«د» : «قبيحا» ، والتصويب من «ت» .

(2)

لم أقف عليه في مصدر آخر.

(3)

انظر: «درء التعارض» (8/ 450 - 451).

ص: 450

خارج، بل هو جِبلّي فطري، فإذا كانت المحبة جِبلّية فطرية فشَرْطها ــ وهو المعرفة ــ أيضًا جِبلّي فطري، فلا بُدَّ أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به.

وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها، وفطرته [التي]

(1)

فطرهم عليها.

فعُلم أن الحنيفية من موجِبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مستلزم للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فالفطرة ملزومة لهذه الأحوال، وهذه الأحوال لازمة لها.

فصل

(2)

فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار واتفاق السلف على أنّ الخلق مفطورون على دين الله، الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجِب فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه، ويقتضي حصول ضده، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود منافيه لا لعدم مقتضيه.

ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لوجود الفطرة شرطًا، بل ذكر ما يمنع موجِبها، حيث قال:«فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه» ، فحصول هذا التهويد

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

(2)

انظر: «درء التعارض» (8/ 454).

ص: 451

والتنصير موقوف على أسباب خارجة عن الفطرة، وحصول الحنيفية والإخلاص ومعرفة الربّ والخضوع له لا يتوقّف أصله على غير الفطرة، وإن توقّف كماله وتفصيله على غيرها، وبالله التوفيق.

فصل

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «إني خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم»

(2)

، يتضمن أصلين عظيمين مقصودين لأنفسهما، ووسيلة تعين عليهما:

أحدهما: عبادته وحده لا شريك له.

والثاني: [أنه]

(3)

إنما يُعبد بما شرعه وأحبَّه وأمر به.

وهذان الأصلان هما المقصود الذي خُلِق له الخلق، وضدهما الشرك والبدع، فالمشرك يعبد مع الله غيره، وصاحب البدعة يتقرّب إلى الله بما لم يأمر به ولم يشرعه ولا أحبه.

وجعل سبحانه حِلّ الطيبات مما يُستعان به على ذلك، ويُتَوسّل به إليه.

فمدار الدين على هذين الأصلين وهذه الوسيلة.

فأخبر سبحانه أن الشياطين اقتطعت عباده عن هذا المقصود، وعن هذه الوسيلة؛ فأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا، وهذا يتناول الإشراك

(1)

انظر: «درء التعارض» (8/ 455 - 456).

(2)

تقدم تخريجه (2/ 65).

(3)

«أنه» من «ت» .

ص: 452

بالمعبود الحق، بأن يُعبد معه غيره، والإشراك بعبادته الحقّة

(1)

، بأن يُعبد بغير شرعه.

وكثيرًا ما يجتمع الشركان: فيَعبد المشركُ معه غيره بعبادة لم يشرع سبحانه أن يتعبّد له بها، وقد ينفرد أحد المشركين فيشرك به غيره في نفس العبادة التي شرعها، أو يعبده وحده بعبادة شركية لم يشرعها، أو يتوسّل إلى عبادته بتحريم ما أحله.

وقد ذمّ الله سبحانه المشركين على هذين النوعين في كتابه في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما، يذكر فيها ذمّهم على ما حرموه من المطاعم والملابس، وذمّهم على ما أشركوا به من عبادة غيره، أو على ما ابتدعوه من عبادته بما لم يشرعه.

وفي «المسند»

(2)

: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» ، فهي حنيفية في التوحيد وعدم الشرك، سمحة في العمل وعدم الآصار والأغلال، بتحريم كثير من الطيبات الحلال.

فيُعبَد سبحانه بما أحبَّه، ويُستعان على عبادته بما أحلّه، قال تعالى:

(1)

«د» : «الحق» ، والمثبت أشبه.

(2)

برقم (2107)، وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (287)، وعبد بن حميد «المنتخب» (569)، من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس يرفعه، وإسناده ضعيف؛ ابن إسحاق لم يصرح بالسماع، وفي رواية ابن الحصين عن عكرمة شيء، كما في «فتح الباري» لابن رجب (1/ 148).

وللحديث عدة شواهد مسانيد ومراسيل يشد بعضها بعضًا يحسن بها، وقد علقه البخاري جازمًا في «الصحيح» (1/ 16)، وانظر:«تغليق التعليق» (2/ 41).

ص: 453

{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].

وهذا هو الذي فطر الله عليه خلقه، وهو محبوب لكل أحد، مستقر سنته

(1)

في كل فطرة، فإنه يتضمن التوحيد وإخلاص القصد والحب لله وحده، وعبادته وحده بما يحب أن يُعبد به، والأمر بالمعروف الذي تحبّه القلوب، والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتنفر منه، وتحليل الطيبات النافعة، وتحريم الخبائث الضارة.

فصل

(2)

وهذا [الذي]

(3)

أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن كل مولود يولد على الفطرة الحنيفية هو الذي تقوم الأدلة العقلية على صحته، وأنه كما أخبر به الصادق المصدوق، ومن خالف ذلك فقد غلط، وبيان ذلك من وجوه:

أحدها: أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقًّا، وقد يحصل له منها ما يكون باطلًا؛ إذ اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقَدها وهي الحق، والخبر عنها يُسمّى صدقًا، وقد تكون غير مطابقة وهي الباطل، والخبر عنها يُسمّى كذبًا.

والإرادات تنقسم إلى ما تكون نافعة له، متضمّنة لمصلحته، ومرادها هو الخير والحُسْن، وإلى ما هو ضارّة له، مخالفة لمصلحته، ومرادها هو الشر والقبيح.

(1)

قراءة محتملة من «د» .

(2)

انظر: «درء التعارض» (8/ 456 - 464).

(3)

زيادة لازمة من مصدر المؤلف.

ص: 454

وإذا كان الإنسان تارة يكون معتقدًا للحق، مريدًا للخير، وتارة يكون معتقدًا للباطل، مريدًا للشر؛ فلا يخلو إما أن تكون نسبة نفسه الناطقة

(1)

إلى النوعين نسبة واحدة، بحيث لا يكون فيها مرجّحًا لأحدهما على الآخر، أو تكون نفسه مرجّحة لأحد الأمرين على الآخر. فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد النوعين إلا بمرجّح منفصل عنه، فإذا قُدِّر مرجّحان: أحدهما يرجّح هذا، والآخر يرجّح هذا؛ فإما أن يتكافأ المرجّحان، أو يترجّح أحدهما، فإن تكافآ لزم أن لا يحصل واحد منهما، وهو خلاف المعلوم بالضرورة؛ فإنا نعلم أنه إذا عُرِض على كل أحد أن يعتقد الحق ويصدق، وأن يريد ما ينفعه، وعُرِض عليه أن يعتقد الباطل ويكذب، ويريد ما يضره= مال بفطرته إلى الأول، ونفر عن الثاني، فعُلِم أن [في]

(2)

فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة الخير.

وحينئذ

(3)

[فـ] الإقرار بوجود فاطره وخالقه ومعرفته ومحبته والإيمان به وتعظيمه والإخلاص له إما أن يكون من النوع الأول أو الثاني، وكونه من الثاني معلوم الفساد بالضرورة، فتعيّن أن يكون من الأول.

وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي محبته ومعرفته والإيمان به، والتوسل إليه بمحابّه.

الوجه الثاني: أن عبادته وحده بما يحبه إما أن تكون أكمل للناس علمًا

(1)

«د» : «الباطنة» تحريف.

(2)

زيادة لإقامة السياق من «درء التعارض» (8/ 458)، وسيأتي ما يعززها في الوجه الرابع.

(3)

بياض في «د» بمقدار كلمة، وما بين المعقوفين من مصدر المؤلف.

ص: 455

وقصدًا، أو الإشراك به أكمل، والثاني معلوم الفساد بالضرورة، فتعيّن الأول، وهو أن يكون في الفطرة مقتضٍ يقتضي توحيده وتأليهه

(1)

وتعظيمه.

الوجه الثالث: أن الحنيفية التي هي دين الله ولا دين له غيرها، إما أن تكون مع غيرها من الأديان متماثلين، أو الحنيفية أرجح، أو تكون مرجوحة، والأول والثالث باطلان قطعًا، فوجب أن يكون في الفطرة مرجّح يرجّح الحنيفية، وامتنع أن تكون نسبتها ونسبة غيرها من الأديان إلى الفطرة سواء.

الوجه الرابع: أنه إذا ثبت أن في الفطرة قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره على ما سواه، وأن ذلك حاصل مركوز فيها من غير تعليم

(2)

الأبوين ولا غيرهما، بل لو فُرِض أنّ الإنسان تربّى وحده، ثم عقل وميّز لوجد نفسه مائلة إلى ذلك، نافرة عن ضده، كما تجد الصبي عند أول تمييزه يعلم أن الحادث لا بدّ له من مُحْدِث، فهو يلتفت إذا ضُرِب من خلفه؛ لعلمه أن تلك الضربة لا بدّ لها من ضارب، فإذا شعر به بكى حتى يُقتصّ له منه فيسكن= فقد رُكِز في فطرته الإقرار بالصانع وهو التوحيد، ومحبة القصاص وهو العدل.

وإذا ثبت ذلك ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته سبحانه ومحبته وإجلاله وتعظيمه والخضوع له من غير تعليم ولا دعاء إلى ذلك، وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج كثير منهم إلى سبب مُعِين للفطرة مقوٍّ لها، وقد بيّنا أن هذا السبب لا يحدث في الفطرة ما لم يكن فيها، بل يعينها ويذكّرها ويقوّيها.

(1)

«د» : «تألهه» ، والمثبت أشبه بالسياق.

(2)

«د» : «تعلم» ، والصواب المثبت.

ص: 456

فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين، يدعون العباد إلى موجَب هذه الفطرة، فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة من مقتضاها استجابت لدعوة الرسل ولا بدّ، بما فيها من المقتضِي لذلك، كمن دعا جائعًا أو ظمآن إلى طعام وشراب نافع لذيذ، لا تبعة فيه عليه، ولا يكلّفه ثمنه؛ فإنه ما لم يحصل هناك مانع فإنه يجيبه ولا بدّ.

الوجه الخامس: أنا نعلم بالضرورة أن الطفل حين وِلادِه ليس له معرفة بهذا الأمر، ولا عنده إرادة له، ونعلم أنه كلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل له من معرفته بربه ومحبته له ما يناسب قوة فطرته وضعفها، وهذا كما نشاهد في الأطفال من محبة جلب المنافع ودفع المضار بحسب كمال التمييز وضعفه، فكلاهما أمر حاصل مع النشأة على التدريج شيئًا فشيئًا، إلى أن يصل إلى حدّه الذي ليس في الفطرة استعداد لأكبر منه، لكن قد يتفق لكثير من الفِطَر موانع متنوعة تحول بينها وبين مقتضاها وموجَبها.

الوجه السادس: أنه من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلّم وداعٍ حصل لها من العلم والإرادة بحسبه، ومن المعلوم أن كل نفس قابلة لمعرفة الحق وإرادة الخير، ومجرّد التعليم لا يوجب تلك القابلية، فلولا أن في النفس قوة تقبل ذلك لم يحصل لها المقبول؛ فإن حصوله في المحل مشروط بقبوله له، وذلك القبول هو كونه مهيّأ له، مستعدًا

(1)

لحصوله فيه، وقد بينا أنه يمتنع أن يكون نسبة ذلك وضده إلى النفس سواء.

الوجه السابع: أنه من المعلوم مشاركة الإنسان لنوع الحيوان في

(1)

«د» : «مستعد» .

ص: 457

الإحساس والحركة الإرادية وجنس الشعور، وأن الحيوان البهيم قد يكون أقوى إحساسًا وحياة وشعورًا من الإنسان، وليس بقابل لما الإنسان قابل له من معرفة الحق وإرادته دون غيره، فلولا قوة في الفطرة والنفس الناطقة اختص بها الإنسان دون الحيوان، يقبل بها أن يعرف الحق ويريد الخير؛ لكان هو والحيوان في هذا العدم سواء.

وحينئذ يلزم أحد أمرين كلاهما ممتنع: إما كون الإنسان فاقدًا لهذه المعرفة والإرادة كغيره من الحيوانات، أو تكون حاصلة لها كحصولها للإنسان، فلولا أن في الفطرة والنفس الناطقة قوة تقتضي ذلك لما حصل لها، ولو كان بغير قوة ومقتضٍ منها لأمكن

(1)

حصوله للجمادات والحيوانات، لكن فاطرها وبارئها خصها بهذه القوة والقابلية، وفطرها عليها.

يوضحه الوجه الثامن: أنه لو كان السبب مجرّد التعليم من غير قوة قابلة لحصل ذلك في الجمادات والحيوانات؛ لأن السبب واحد، ولا قوة هناك يميز بها

(2)

هذا المحل من غيره، فعُلِم أن حصول ذلك في محل دون محل هو لاختلاف القوابل والاستعدادات.

الوجه التاسع: أن حصول هذه المعرفة والإرادة في العدم المحض محال، فلابدّ من وجود المحل، وحصوله في موجود غير قابل محال، بل لابدّ من قبول المحل، وحصوله من غير مَدَد من الفاعل إلى القابل [محال]

(3)

، فلو قطع الفاعل إمداده لذلك المحل القابل لم يوجد ذلك

(1)

«د» : «لا يمكن» مهملة، وهو خلاف المراد من الجملة، والمثبت أوفق.

(2)

تحتمل في «د» : «يهيء بها» ، والمثبت من «ت» أصح.

(3)

«ت» : «بحال» ، وهي ساقطة من «د» ، والمثبت أشبه بالسياق.

ص: 458

المقبول، فلابدّ من الإيجاد والإعداد والإمداد، فإذا استحال وجود القبول من غير إيجاد المحل استحال وجوده من غير إعداده وإمداده، والخلّاق العليم سبحانه هو الموجِد المُعِدّ المُمِدّ.

الوجه العاشر: أنه من المعلوم أن النفس لا توجب بنفسها لنفسها حصول العلم والإرادة، بل لابدّ فيها من قوة تقبل بها ذلك، لا تكون هي المعطية لتلك القوة، وتلك القوة لا تتوقف على أخرى، وإلا لزم التسلسل الممتنع أو الدور الممتنع، وكلاهما ممتنع، فهنا ثلاثة أمور:

أحدها: وجود قوة قابلة.

الثاني: أن تلك القوة ليست هي المعطية لها.

الثالث: أن تلك القوة لا تتوقف على قوة أخرى.

فحينئذ لزم أن يكون فاطرها وبارئها قد فطرها على تلك القوة، وأعدّها بها لقبول ما خُلِقت له، وقد عُلِم بالضرورة أن نسبة ذلك إليها وضده ليسا على السواء.

الوجه الحادي عشر: أنا لو فرضنا توقّف هذه المعرفة والمحبة على سبب من خارج، أليس عند حصول ذلك السبب يوجد في الفطرة ترجيح ذلك ومحبته على ضده؟ فهذا الترجيح والمحبة والإيثار أمر مركوز في الفطرة.

الوجه الثاني عشر: أنا لو فرضنا أنه لم يحصل المُفْسِد الخارج، ولا المُصْلِح الخارج؛ لكانت الفطرة مقتضية لإرادة المُصْلِح وإيثاره على ما سواه، وإذا كان المقتضي موجودًا والمانع مفقودًا وجب حصول الأثر؛ فإنه

ص: 459

لا يتخلف إلا لعدم مقتضيه أو لوجود مانعه، فإذا كان المانع زائلًا حصل الأثر بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم.

الوجه الثالث عشر: أن السبب الذي في الفطرة لمعرفة الله ومحبته والإخلاص له إما أن يكون مستلزمًا لذلك، وإما أن يكون مقتضيًا بدون استلزام، إذ

(1)

يستحيل أن لا يكون له أثر البتّة، وعلى التقديرين يترتب أثره عليه: إما وحده على التقدير الأول، وإما بانضمام أمر آخر إليه على التقدير الثاني.

الوجه الرابع عشر: أن النفس الناطقة لا تخلو عن الشعور والإرادة، بل هذا الخلو

(2)

ممتنع فيها؛ فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها، فلا يُتصوّر أن تكون إلا شاعرة مريدة، ولا يجوز أن يقال: إنها قد تخلو في حق خالقها وفاطرها عن الشعور بوجوده وعن محبته وإرادته، فلا يكون إقرارها به ومحبته من لوازم ذاتها، هذا باطل قطعًا؛ فإن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها، وكونها مريدة هو من لوازم ذاتها؛ فإنها حية، وكل حي شاعر متحرّك بالإرادة.

وإذا كان كذلك فلا بدّ لكل مريد من مراد، والمراد إما أن يكون مرادًا لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بدّ أن ينتهي إلى مراد لنفسه؛ قَطْعًا للتسلسل في العلل الغائية، فإنه محال، كالتسلسل في العلل الفاعلة.

وإذا كان لابدّ للإنسان من مراد لنفسه فهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي

(1)

«د» : «أو» تحريف يخرج الجملة عن مقصودها، والمثبت أوفق بالمعنى.

(2)

«د» : «الخلق» تحريف، والتصحيح من «درء التعارض» (8/ 464).

ص: 460

تألهه النفوس، وتحبه القلوب، وتعرفه الفِطَر، وتقرّ به العقول، وتشهد بأنه ربّها ومليكها وفاطرها، فلا بدّ لكل أحد من إله يألهه، وصمد يصمد إليه.

والعباد مفطورون على محبة الإله الحق، ومعلوم بالضرورة أنهم ليسوا مفطورين على تألّه غيره، فإذن: إنما فُطِروا على تألّهه وعبادته وحده، فلو خُلّوا وفطرَهم لما عبدوا غيره، ولا تألّهوا سواه.

يوضحه الوجه الخامس عشر: أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن التألّه والمحبة، ويستحيل أن يكون فيها تألّه غير الله لوجوه:

منها: أن ذلك خلاف الواقع.

ومنها: أن ذلك المخلوق ليس أولى أن يكون إلهًا لكل الخلق من المخلوق الآخر.

ومنها: أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد، بل كل

(1)

طائفة تعبد ما تستحسنه.

ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتًا، فالحي أكمل منه، فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة الميت، وإن كان حيًا فهو أيضًا مريد، فله إله يألهه، وحينئذ فيلزم الدور الممتنع، أو التسلسل الممتنع، فلا بدّ للخلق كلهم من إله يألهونه، ولا يأله هو غيرَه، وهذا برهان قطعي ضروري.

فإن قلت: هذا يستلزم أنه لابد لكل حي مخلوق من إله، ولكن لِمَ لا يجوز أن يكون مطلوب النفس هو مطلق التألّه والمألوه، لا إلهًا معيّنًا كما

(1)

«د» : «لكل» تحريف.

ص: 461

تقوله طوائف الاتحادية؟

قلت: هذا يتبين بـ

الوجه السادس عشر: وهو أن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه، فالأول كإرادة العطشان والجائع والعاري لنوع الشراب والطعام واللباس، فإنه إنما يريد النوع، وحيث أراد العين فهو القدر المشترك بين أفراده، وذلك القدر المشترك كُلِّي، لا وجود له في الخارج، فيستحيل أن يراد لذاته؛ إذ المراد لذاته لا يكون إلا معيّنًا، ويستحيل أن يوجد في اثنين؛ فإنّ إرادة كل واحد منهما لذاته تنافي إرادته لذاته، إذ المعنى بإرادته لذاته أنه وحده هو المراد لذاته الخاصة، وهذا يمنع أن يراد معه ثان لذاته.

وإذا عُرِف ذلك، فلو كان القدر المشترك بين أفراد النوع، أو بين الاثنين هو المراد لذاته؛ لزم أن يكون ما يختص به أحدهما

(1)

ليس مرادًا لذاته، وكذلك ما يختص به الآخر، والموجود في الخارج إنما هو الذات المختصة لا الكُلِّي المشترك، [فلو]

(2)

تعلّق التألّه بالقدر المشترك لم يكن للخلق في الخارج إله، ولكان إلههم أمرًا ذهنيًا وجوده في الأذهان لا في الأعيان.

وهذا هو الذي تألهه طوائف أهل الوحدة والجهمية، الذين أنكروا أن يكون الله تعالى خارج العالم ولا داخله، فإن هذا إنما هو إله مفروض يفرضه الذهن كما يفرض سائر الممتنعات [في]

(3)

الخارج، ويظنه واجب الوجود،

(1)

«د» : «أحدها» ، والمثبت من «درء التعارض» (8/ 466).

(2)

بياض في «د» ، والمثبت من «ت» .

(3)

«في» من «ت» .

ص: 462

وليس هو ممكن الوجود فضلًا عن وجوبه.

وبهذا يتبين أن الجهمية وإخوانهم من القائلين بوحدة الوجود ليس لهم إله معين في الخارج يألهونه ويعبدونه، بل هؤلاء ألّهوا الوجود المطلق الكلي، وأولئك ألّهوا المعدوم الممتنع وجوده.

[والرسل]

(1)

وأتباعهم إلههم الله الذي لا إله إلا هو، الذي {خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 4 - 8].

وهو الذي فُطِرت القلوب على محبته، والإقرار به، وإجلاله وتعظيمه، وإثبات صفات الكمال له، وتنزيهه عن صفات النقائص والعيوب، وعلى أنه فوق سماواته، بائن من خلقه، تصعد إليه أعمالهم على تعاقب الأوقات، وتُرْفَع إليه أيديهم عند الرغبات، يخافونه من فوقهم، ويرجون رحمته تنزل إليهم من عنده، فهِمَمُهم صاعدة إلى عرشه، تطلب فوقه إلهًا عليًّا عظيمًا، قد استوى على عرشه، واستولى على خلقه، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 5 - 6].

والمقصود أنه إذا لم يكن في المعيَّنات الخارجة عن الأذهان ما هو مراد لذاته؛ لم يكن فيها ما يستحق أن يألهه أحد، فضلًا أن يكون فيها ما يجب أن يألهه كل أحد.

(1)

«والرسل» من «ت» .

ص: 463

فتبيّن أنه لابدّ من إله معين هو المحبوب المراد لذاته، ومن الممتنع أن يكون هذا غير فاطر السماوات والأرض، وتبيّن أنه لو كان في السماوات والأرض إله غيره لفسدتا، وأنّ كل مولود يولد على محبته ومعرفته وإجلاله وتعظيمه، وهذا دليل مستقل كافٍ فيما نحن فيه، وبالله التوفيق.

يوضحه الوجه السابع عشر

(1)

: أن الحي العبدي

(2)

مفطور على إرادة ما يقيم بنيته، ويندفع به عنه الألم المنافي لبقائه، ولا غرض له في التعيين، بل أي فرد حصل له به مقصوده تعلّقت به إرادته، ولهذا يختلف ذلك باختلاف العوائد والمَرْبى والمنشأ، كما تختلف الأغذية والملابس والأدوية باختلاف الزمان والمكان والعادة، وكل هذه أمور مرادة لغيرها؛ إذ المراد دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد، وطلب لذة الأكل والشرب والجماع، فإذا حصل للإنسان مراده بذلك واندفع عنه الألم الحاصل بفقده؛ لم يرده.

فإذا كان مفطورًا على إرادة ذلك، وفيه قوة الشعور به ومحبته وإيثاره على غيره؛ فكيف بما لا صلاح لقلبه وروحه إلا بمعرفته وإرادته ومحبته؟!

وهل يجوز لعاقل أن يتوهّم أنه مفطور على إرادة هذا الأدنى ومحبته والشعور به، الذي هو غير مراد لذاته، ولا يكون مفطورًا على محبة الأعلى الذي لا بدّ له منه، ولا غناء له عنه، ولا صلاح له ولا نعيم، ولا حياة حقيقية إلا بمعرفته ومحبته وعبادته وحده لا شريك له؟!

(1)

من هنا إلى آخر الكتاب وقعت تحريفات وخروم كثيرة جدًّا في «د» ، سأقوم باستدراكها من «ت» دون تنبيه على مواضعها.

تنبيه: هنا تنتهي نشرة «ط» وجميع الطبعات الصادرة عنها.

(2)

كذا في «د» ، ولعلها:«المقتدر» .

ص: 464

وهذا عند التأمل قطعي ضروري.

الوجه الثامن عشر: أن النفوس ليست إلى شيء أحوج منها إلى ذلك، وحاجتها إليه واقعة في مرتبة الضرورة التي هي فوق الحاجة، فإذا كانت قد فُطِرت على محبة ما حاجتها إليه دون ذلك بكثير، وعلى معرفته وإيثاره؛ فكيف لا تكون مفطورة على ما هي إليه في غاية الاضطرار؟!

يوضحه الوجه التاسع عشر: أنها إنما خُلِقت لذلك، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومعلوم أن ما خُلِق لشيء من الأشياء أن الغاية والحكمة تقتضي أن يُهَيَّأ له، ويُجْعل فيه استعداد وقبول لما خُلِق، وهذا حال جميع المخلوقات حيوانها ونباتها ومعادنها وأركانها

(1)

، كما جعل في الماء قوة أُعين بها لما خُلِق له، وكذلك في النار والهواء والتراب وسائر المخلوقات، فكيف بمن خلقه لمعرفته ومحبته وعبادته؟!

قد هيَّؤوك لأمر لو فطنتَ له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

(2)

الوجه العشرون: أن بني آدم في معرفة الحق وقصده ومحبته على مراتب: فمنهم من عنده نوع من معرفة بالحق لكن بلا عمل به، بل مع بُغض له، رغبة عنه، واستكبارًا على أهله، وهذا يغلب على الأمة الغضبية. ومنهم من معه نوع من التألّه والمحبة والطلب والإرادة والأخلاق الجميلة، لكن مع

(1)

كذا في «د» ، ولعل الصواب:«وأكوانها» .

(2)

البيت لمؤيد الدين الحسين بن علي الطغرائي من قصيدته المشهورة بـ «لامية العجم» ، في ديوانه (309) وفيه:«قد رشحوك» ، انظر:«معجم الأدباء» (3/ 1113).

ص: 465

ضلال وجهل بالحق، وهذا يغلب على الأمة الضالة.

فالأولى اليهود، والثانية النصارى.

وفي «صحيح ابن حبان» و «المسند» و «الترمذي»

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون» .

وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه.

وإذا كان كذلك، والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا ففطرته السليمة إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العمل به ومحبته، أو لمحبته دون معرفته، أو لا تقتضي لا هذا ولا هذا، أو تقتضي الأمرين، والأقسام الثلاثة باطلة؛ فتعيّن الرابع، فإنها لو لم تقتض لا هذا ولا هذا كان الصدق والكذب، والإحسان والإساءة، والبر والفجور، والشكر والكفر؛ عندها سواء، وكذلك يكون اعتقاد الباطل واعتقاد الحق، وإرادة الخير وإرادة الشر بالنسبة إليها سواء، وذلك من أبطل الباطل، وهو خلاف ما هو معلوم بالحسِّ الباطن والظاهر والشرع والعقل، وخلاف ما فطر الله عليه عباده.

ولا يجوز أن تكون مفطورة على المحبة والعمل دون العلم؛ فإن ذلك يوجب أن يستوي عندها العلم والجهل، والاعتقاد الصحيح والباطل، وذلك محال.

(1)

«صحيح ابن حبان» (6246)، «المسند» (19381)، «الترمذي» (2954) من حديث عدي بن حاتم.

ص: 466

وكذلك لا يجوز أن تكون مفطورة على الشعور والعلم بالخير النافع دون محبته وإرادته، وعلى معرفة بارئها وفاطرها دون محبته والإخلاص له والإنابة إليه؛ فإن ذلك يستلزم أن يستوي عندها إرادة الخير والشر، والشكر والكفر به

(1)

، وجحود نعمه، وهذا أيضًا خلاف الحسّ والعقل، وما يجده كل أحد في فطرته.

فتبين بالضرورة أنه لا يستوي عندها هذان الأمران، بل لا بدّ أن يترجّح عندها معرفة الحق واعتقاده ومحبته وإيثاره على غيره.

وحينئذ فلا تكون مفطورة على يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية، بل على الحنيفية السمحة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32].

ونختم الـ

(2)

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به في قيام الليل: «اللهم رب جبريل و [ميكائيل، وإسرافيل] فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم [بين عبادك] فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهد [ي من تشاء] إلى صراط مستقيم»

(3)

.

(1)

«د» : «ومحبة فاطرها، والإعراض

وتعظيمه وإجلاله والكفر به».

(2)

خرم في «د» .

(3)

أخرجه مسلم (770) من حديث عائشة، وما بين المعقوفات مستدرك منه.

ص: 467

آخر الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على

(1)

.

تم بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وله الحمد والمنة وصلواته على محمد وآله.

والحمد لله رب العالمين.

(1)

من قوله: «ونختم» إلى هنا من «د» فقط.

ص: 468