الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيغفر لهم»
(1)
.
فلو لم يُقدِّر الذنوب والمعاصي فلمَنْ يغفر، وعلى مَنْ يتوب، وعمّن يعفو، ولمن يسامح ويعتق، ويُسقِط حقّه، ويُظهِر فضله وحلمه وجوده وكرمه، وهو واسع المغفرة، فكيف يعطّل هذه الصفة؟
أم كيف تتحقق بدون ما يُغْفَر، ومَنْ يغفر له، ومَنْ يتوب، وما يتاب منه؟
فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة، فكيف والحِكَم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال.
وكان بعض العُبَّاد يدعو في طوافه: اللهم اعصمني من المعاصي. ويُكْثِرُ من ذلك، فقيل له في المنام: أنت تسألني العصمة، وعبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم مِنَ الذنوب فلمَنْ أغفر، وعلى مَنْ أتوب، وعمَّنْ أعفو؟!
ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.
يوضحه
الوجه العشرون:
أنه قد ترتّب على خَلْق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحِكَم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك.
فلولا كُفْرُ قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان، وبقيت آية يتحدث بها الناس على ممر الزمان، ولولا كُفْرُ عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمّرت ما مرّت عليه، ولولا كُفْرُ قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة، ولولا كُفْرُ فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب التي تتحدث
(1)
تقدم تخريجه في (1/ 378).
بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى بها من شاء الله، فهلك بها من هلك عن بيّنة، وحَيَّ بها من حَيَّ عن بيّنة، وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته وآيات رسله وصدقهم.
فمعارضة الرسل، وكسر حججهم ودحضها، والجواب عنها، وإهلاك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه.
ولولا مجيء المشركين بالحَدّ والحديد والعُدد والشوكة يوم بدر؛ لما حصلت تلك الآية العظيمة التي ترتب عليها من الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلًا مع عدمها.
وقد بيّنا أن الموقوف على الشيء لا يوجد بدونه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
فلله كم عَمرتْ قصةُ بدر من رَبْعٍ أصبح آهلًا بالإيمان، وقد فَتَحَتْ لأولي النُّهى من باب وصلوا منه إلى الهدى والإيقان، وكم حصل بها من محبوب للرحمن، وغيظ للشيطان، وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدًّا بالنسبة إلى مصالحها وحِكَمها، وهي كمفسدة المطر إذا قَطَعَ المسافر، وبَلّ الثياب، وخرّب بعض البيوت؛ بالنسبة إلى مصلحته العامة.
وتأمّل ما حصل بالطوفان وغرق آل فرعون للأمم من الهدى والإيمان، الذي غمر مفسدة من هلك به، حتى تلاشت في جنب مصلحته وحكمته.
فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه، وأكرم فيها أولياءه، وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة.
ولهذا أمر سبحانه رسوله أن يذكّر بها أمته، فقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 5 - 6]، فذكَّرهم بأيامه وإنعامه، ونجاتهم من عدوهم، وإهلاكهم وهم ينظرون، فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم واضمحلت، فإنهم صاروا إلى النعيم، وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذا كبروا، وسَوْمِهِ لهم سوء العذاب، وكان الألم الذي ذاقه الأبوان عند الذبح أيسر من الآلام التي كانوا تجرعوها باستعباد فرعون وقومه لهم بكثير، فحظي بذلك الآباء والأبناء.
وأراد سبحانه أن يري عباده ما هو من أعظم آياته، وهو أن يُرَبَّى هذا المولود ـ الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه ـ في حِجْر فرعون، وفي بيته، وعلى فراشه.
فكم في ضمن هذه الآية من حكمة ومصلحة ورحمة وهداية وتبصرة، وهي موقوفة على لوازمها وأسبابها، ولم تكن لتوجد بدونها؛ فإنه ممتنع، فمصلحة تلك الآية وحكمتها غمرت مفسدةَ ذبح الأبناء، وجعلتها كأن لم تكن.
وكذلك الآيات التي أظهرها سبحانه على يد الكريم ابن الكريم ابن الكريم، والعجائب والحِكَم والمصالح والفوائد التي في تلك القصة التي تزيد على الألف= لم تكن لتحصل بدون ذلك السبب، الذي كان فيه مفسدة
جزئية في حق يعقوب ويوسف، ثم انقلبت تلك المفسدة مصالح اضمحلّت في جنبها تلك المفسدة بالكلية، وصارت سببًا لأعظم المصالح في حقه، وحق يوسف، وحق الإخوة، وحق امرأة العزيز، وحق أهل مصر، وحق المؤمنين إلى يوم القيامة.
فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله من هذه القصة من ثمرة، وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة.
وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب من مسّ الشيطان له بنُصْب وعذاب، اضمحلّت وتلاشت في جنب المصلحة والمنفعة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء، وتبدّله بالنعماء، بل كان ذلك السبب المكروه هو الطريق الموصل إليها، والشجرة التي جُنِيت منها ثمار تلك النعم.
وكذلك الأسباب التي أوصلت خليل الرحمن إلى أن صارت النار عليه بردًا وسلامًا؛ مِنْ كفر قومه وشركهم، وتكسيره أصنامهم، وغضبهم لها، وإيقاد النار العظيمة له، وإلقائه فيها بالمَنْجَنيق، حتى وقع في روضة خضراء
(1)
في وسط النار، وصارت آية وحجة وعبرة ودلالة للأمم قرنًا بعد قرن.
فكم لله سبحانه في ضمن هذه الآية من حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة وحجة وبيّنة، لو تعطّلت تلك الأسباب لتعطّلت هذه الحكم والمصالح والآيات، وحكمته وكماله المقدس يأبى ذلك، وحصول الشيء بدون لازمه ممتنع، وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية في هذه القصة، وبين
(1)
«خضراء» من «م» .
جَعْل صاحبها إمامًا للحنفاء إلى يوم القيامة، وهل تلك المفاسد الجزئية إلا دون مفسدة الحر والبرد والمطر والثلج بالنسبة إلى مصالحها بكثير.
ولكنّ الإنسان ــ كما قال الله ــ ظلومٌ جهولٌ، ظلومٌ لنفسه، جهولٌ بربّه وبعظمته وجلاله وحكمته وإتقان صنعه.
وكم بين إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة على تلك الحال، ودخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر سواه، جنودُ الله قد اكتنفته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به، والملائكة من فوقهم، والوحي من الله ينزل عليه، وقد أدخله حَرَمه ذلك الدخول، فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كان
(1)
كأن لم يكن.
ولولا معارضة السحرة لموسى بإلقاء العصي والحبال حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم= لما ظهرت آية عصا موسى حتى ابتلعت عصيهم وحبالهم، ولهذا أمرهم موسى عليه السلام أن يُلقوا أولًا، ثم يلقي هو بعدهم.
ومن تمام ظهور آيات الرب تعالى وكمال اقتداره وحكمته أن يخلق مثل جبريل صلوات الله وسلامه عليه، الذي هو أطيب الأرواح العلوية وأزكاها وأطهرها وأشرفها، وهو السفير في كل خير وهدى وإيمان وصلاح، ويخلق مقابله مثل روح اللعين إبليس، الذي هو أخبث الأرواح وأنجسها وشرها، وهو الداعي إلى كل شر وأصله ومادته.
وكذلك من تمام قدرته وحكمته أن خلق الضياء والظلام، والأرض
(1)
«د» : «التي كان» ، وهي ساقطة من «م» ، والصواب المثبت.