المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه السادس والثلاثون: - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌الباب العشرونفي ذِكْر مناظرة بين قدري وسُنّي

- ‌ أي قول التزمه الملتزم كان خيرًا من نفي الخلق

- ‌سر المسألة: الفرق بين تعلق الإرادة بفعل العبد، وتعلقها بفعله هو سبحانه بعبده

- ‌الباب الحادي والعشرونفي تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المَقْضي

- ‌الأصل الأول: إثبات عموم علمه سبحانه

- ‌الأصل الثاني: أنه سبحانه حيّ حقيقة

- ‌الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا

- ‌الباب الثاني والعشرونفي إثبات حكمة الربِّ تعالى في خَلْقه وأَمْره، وذِكْر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها

- ‌الباب الثالث والعشرونفي استيفاء شُبَه النافين للحكمة والتعليل، وذِكْر الأجوبة عنها

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌ الجواب الخامس:

- ‌ الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌ الجواب الحادي عشر:

- ‌الجواب الثاني عشر:

- ‌الجواب الثالث عشر:

- ‌الجواب الرابع عشر:

- ‌الجواب الخامس عشر:

- ‌الجواب السادس عشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌ الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الأول:

- ‌الجواب الثاني:

- ‌ الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الجواب الثاني:

- ‌الجواب الثالث:

- ‌الجواب الرابع:

- ‌الجواب الخامس:

- ‌الجواب السادس:

- ‌الجواب السابع:

- ‌الجواب الثامن:

- ‌الجواب التاسع:

- ‌الجواب العاشر:

- ‌الجواب الحادي عشر:

- ‌ الوجه الثاني عشر:

- ‌ الوجه الثالث عشر:

- ‌ الوجه الرابع عشر:

- ‌ الوجه الخامس عشر:

- ‌الوجه السادس عشر:

- ‌ الوجه السابع عشر:

- ‌ الوجه الثامن عشر:

- ‌ الوجه التاسع عشر:

- ‌ الوجه العشرون:

- ‌ الوجه الحادي والعشرون:

- ‌ الوجه الثاني والعشرون:

- ‌الوجه الثالث والعشرون:

- ‌ الوجه الخامس والعشرون:

- ‌الوجه السادس والعشرون:

- ‌الوجه السابع والعشرون:

- ‌الوجه الثامن والعشرون:

- ‌ الوجه التاسع والعشرون:

- ‌ الوجه الثلاثون:

- ‌الوجه الحادي والثلاثون:

- ‌الوجه الثاني والثلاثون:

- ‌الوجه الثالث والثلاثون:

- ‌ الوجه الرابع والثلاثون:

- ‌ الوجه الخامس والثلاثون:

- ‌الوجه السادس والثلاثون:

- ‌فصلالوجه السابع والثلاثون:

- ‌الوجه الثامن والثلاثون:

- ‌الوجه التاسع والثلاثون:

- ‌الوجه الأربعون:

- ‌الباب الرابع والعشرونفي معنى قول السلف: «من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه»

- ‌ما الفرق بين كون القدر خيرًا وشرًّا، وكونه حلوًا ومرًّا

- ‌الباب الخامس والعشرونفي امتناع إطلاق القول نفيًا وإثباتًا: «إن الربّ تعالى مريد للشرّ وفاعل له»

- ‌الباب السادس والعشرونفيما دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»…(1)من تحقيق القدر وإثباته، وما تضمّنه الحديث من الأسرار العظيمة

- ‌الباب السابع والعشرونفي دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد والحكمة تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك» وبيان ما في هذا الحديث من القواعد

- ‌فصلوقوله: «أسألك بكل اسم هو لك

- ‌الباب الثامن والعشرونفي أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه

- ‌كيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة

- ‌الباب التاسع والعشرونفي انقسام القضاء والحُكْم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجَعْل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والإنشاء إلى كوني متعلِّق بخلقه، وإلى ديني متعلِّق بأمره، وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال

- ‌القضاء في كتاب الله نوعان:

- ‌الباب الموفي ثلاثينفي ذِكْر الفطرة الأولى ومعناها، واختلاف الناس في المراد بها، وأنها لا تنافي القضاء والقدر بالشقاوة والضلال

- ‌ثبت مصادر الدراسة والتحقيق

الفصل: ‌الوجه السادس والثلاثون:

قدرته وربوبيته، فمِنْ أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل: هلّا كان خَلْقُهُ كلهم نوعًا واحدًا، فيكون العالم عُلْوًا كله، أو نورًا كله، أو الحيوان مَلَكًا كله؟

وقد يقع في الأوهام الفاسدة أنّ هذا كان أولى وأكمل، ويفرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنًا: كمالًا.

‌الوجه السادس والثلاثون:

قوله: «وأي حكمة في إيلام الحيوانات غير المكلفة؟» .

فهذه مسألة تكلم الناس فيها قديمًا وحديثًا، وتباينت طرقهم في الجواب عنها.

فالجاحدون للفاعل المختار الذي يفعل بمشيئته وقدرته يُحِيلون ذلك على الطبيعة المجرّدة، وأن ذلك من لوازمها ومقتضياتها، ليس بفعل فاعل، ولا قدرة قادر، ولا إرادة مريد.

ومنكرو الحكمة والتعليل يردّون ذلك إلى محض المشيئة، وصِرْف الإرادة التي تُخَصِّص مِثْلًا على مِثْل بلا موجِب ولا غاية ولا حكمة مطلوبة ولا سبب أصلًا.

وظنَّوا أنهم بذلك يتخلصون من السؤال، ويسدّون على نفوسهم باب المطالبة، وإنما سدّوا على نفوسهم باب معرفة الربّ وكماله، وكمال أسمائه وأوصافه وأفعاله، فعطّلوا حكمته وحقيقة إلهيته وحمده، وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار.

وأما من أثبت حكمة وتعليلًا لا يعود إلى الخالق بل إلى المخلوق؛

ص: 279

سلكوا

(1)

طريق

(2)

التعويض على تلك الآلام في حق من يُبعَث للثواب والعقاب.

وقالوا: قد يكون في ذلك إثابة، لإثابتهم

(3)

بصبرهم وتألمهم، وإثابة لهم وتعويضًا في القيامة بما نالهم من تلك الآلام، فلما أُورِد عليهم إيلامُ الحيوانات التي لا تُثاب ولا تعاقب

(4)

.

وأما المثبتون لحقائق أسماء الربّ وصفاته وحكمته التي هي وصفه، ولأجلها تسمَّى بالحكيم، وعنها صدر خلقه وأمره= فهم أعلم الفرق بهذا الشأن، ومسلكهم فيه أصح المسالك، وأسلم من التناقض والاضطراب؛ فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة والحكمة الشاملة التي هي غاية الفعل، وربطوا ذلك بالأسماء والصفات، فتصادق عندهم السمع والعقل والشرع والفطرة، وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة، وأنه من لوازمها، وأن لازم الحق حق، ولازم العدل عدل، ولوازم الحكمة من الحكمة.

فاعلم أن ههنا أمرين: نفسًا متحركة بالإرادة والاختيار، وطبيعةً متحركة بغير الاختيار والإرادة، وأن الشر منشؤه من هذين المتحركين، وعن هاتين الحركتين، وخُلِقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه، فهذه تتحرك

(1)

كذا في «د» «م» : «سلكوا» ، والجادة:«فسلكوا» بدخول الفاء على جواب «أما» .

(2)

«د» : «طريقة» .

(3)

مهملة في «د» «م» ، والقراءة محتملة.

(4)

بياض في «د» «م» ، وعلق في حاشية «م»:«في أصل المصنف بياض بعد: لا تثاب ولا تعاقب» .

ص: 280

لكمالها، وهذه تتحرك لكمالها، وينشأ عن الحركتين خير وشر، كما ينشأ عن حركة الأفلاك والشمس والقمر، وحركة الرياح، والماء والنار: خير وشر.

فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الأول، إما لِذَاتها وإما لكونها وسيلة إلى خيرات أتم منها، والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات، وإن قُصِدت قَصْد الوسائل واللوازم التي لا بدّ منها، فما جُبِلت عليه النفس من الحركة هو من لوازم ذاتها، فلا تكون النفس البشرية نفسًا إلا بهذا اللازم.

فإذا قيل: لِمَ خُلِقت متحركة على الدوام؟

فهو بمنزلة أن يقال: لِمَ كانت النفس نفسًا، ولِمَ كانت النار نارًا، والريح ريحًا؟ فلو لم تُخْلق هكذا ما كانت نفسًا، ولو لم تُخْلق الطبيعة هكذا ما كانت طبيعة، ولو لم يُخْلق الإنسان على هذه الصفة والخِلْقة ما كان إنسانًا.

فإن قيل: فلِمَ خُلِقت النفس على هذه الصفة؟

قيل: من كمال الوجود خَلْقها على هذه الصفة كما تقدم، وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خَلْقها على هذه الصفة؛ لما في ذلك من الحِكَم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه.

وإن كان في إيجاد هذه النفس شرًّا فهو شرّ جزئي بالنسبة إلى الخير الكلّي الذي في

(1)

إيجادها، فوجودها خير من أن لا توجد، فلو لم تُخْلَق مثل هذه النفس لكان في الوجود نقص وفوات حِكَم ومصالح عظيمة موقوفة على خَلْق مثل هذه النفس.

(1)

بياض في «د» ، والمثبت من «م» ، وفي «ط»:«هو سبب» .

ص: 281

ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]؛ أجابهم سبحانه بأن في خلقه من الحِكَم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة والخالق سبحانه يعلمه.

وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خَلْق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء من الحِكم والمصالح فغيرهم أولى أن لا يحيط به علمًا.

فخَلْق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة، وإن كان وجوده مستلزمًا لشر، فهو شر مغمور بما في إيجاده من الخير، كإنزال المطر والثلج، وهبوب الرياح، وطلوع الشمس، وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار.

وهذا كما أنه في خَلْقه فهو في شرعه ودينه وأمره؛ فإن ما أَمَر به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجح، وإن كان فيه شرّ فهو مغمور جدًّا بالنسبة إلى خيره، وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشرّه ومفسدته راجح، والخير الذي فيه مغمور جدًّا بالنسبة إلى شره.

فسنّته سبحانه في خلقه وأمره فِعْل

(1)

الخير الخالص والراجح، والأمر بالخير الخالص والراجح، فإذا تناقضت أسباب الخير والشر ــ والجمع بين النقيضين محال ــ قدّم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة، ولم يكن تفويت المرجوحة شرًّا، ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة، ولم يكن حصول المرجوحة شرًّا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشرّ الراجح.

(1)

«م» : «هو فعل» .

ص: 282

وكذلك سنّته في شرعه وأمره، فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شرٌّ مرجوح، ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح، هذه سنّته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه، وما يأمر به وينهى عنه، وكذلك سنّته في الآخرة.

وهو سبحانه وتعالى قد أحسن كل شيء خلقه، وقد أتقن كل ما صنع، وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة، ويتفاوتون في العلم بتفاصيله.

وإذا عُرِف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولّدها عن لذّات ونِعَم، يولّدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن يكون من لوازم العدل، أو لوازم الفضل والإحسان، فيكون من لوازم الخير التي إن عُطِّلتْ عُطِّلتْ ملزوماتها، وفات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام، والشرع والقدر أعدل شاهدين بذلك.

فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى، كما سمَّاه الله تعالى بقوله: {كَانَ

(1)

بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ} [النساء: 102]، وكم في هذا الحرِّ والبرد والرياح من أذى موجِب لأنواع من الآلام لصنوف الحيوانات.

وأعظم لذّات الدنيا لذّة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولّدة منها، بل الكمالات

(1)

«د» «م» : «وإن» .

ص: 283

الإنسانية لا تنال

(1)

إلا بالآلام والمشاقّ، كالعلم والشجاعة والزهد والعِفّة والحلم والمروءة والصبر والإحسان، كما قال:

لولا المشقةُ ساد الناسُ كلهمُ

الجودُ يُفْقِرُ والإقدامُ قَتَّالُ

(2)

وإذا كانت الآلام أسبابًا لِلَذّاتٍ أعظم منها وأدوم؛ كان العقل يقضي باحتمالها.

وكثيرًا ما تكون الآلام أسبابًا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت، وهذا شأن أكثر أمراض الأبدان.

فهذه الحمّى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفِجّة

(3)

وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها، وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمّى استبشر بها الطبيب.

وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمرٌ لا يحسّ به إلا من فيه حياة، فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها، وقد أُحْصِيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة.

وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره، وجعلها جسرًا موصلًا إليها، كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات، وجعلها جسرًا

(1)

«م» : «لا تتبين» .

(2)

البيت لأبي الطيب المتنبي، «شرح الديوان» للعكبري (1/ 163).

(3)

الفِج من كل شيء ما لم ينضج، كما في «تاج العروس» (6/ 137)، وانظر:«القانون» لابن سينا (2/ 627).

ص: 284

موصلًا إليها

(1)

.

ولهذا كانت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأن الراحة لا تنال بالراحة، وأن من آثر اللذات فاتته اللذات، فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم؛ إذ هي أسباب النعم.

وما ينال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدًّا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها، كما ينالها من حرِّ الصيف وبرد الشتاء، وحَبْس المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها، وغير ذلك، ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام.

فسنّة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزّته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، وقيل لكل منهم: ارجع بصر العقل؛ هل ترى من خلل؟ ثم ارجع البصر كَرّتين ينقلب إليك البصر خاسِئًا وهو حَسِير.

فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها، فأخرج الأضداد والأشياء من خلافها

(2)

، فأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس، واليابس من الرطب، فكذلك أنشأ اللذات من الآلام، والآلام من اللذات، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها.

(1)

من قوله: «كما حجب أعظم الآلام» إلى هنا ساقط من «م» .

(2)

جملة: «فأخرج الأضداد والأشياء من خلافها» زيادة من «م» .

ص: 285

وبعدُ؛ فاللذة والسرور والخير والنعيم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء أكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة، فأين آلام الحيوان من لذته؟ وأين سقمه من صحته؟ وأين جوعه وعطشه من شبعه وريِّه، وتعبه من راحته؟

قال تعالى: {(4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ} [الشرح: 5 - 6]، ولن يغلب عسرٌ يُسْرَين، وهذا لأنّ الرحمةَ غلبت الغضب، والعفوَ سبق العقوبة، والنعمةَ تقدمت المحنة.

والخير في الصفات والأفعال، والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلّها كمال، وأفعاله كلّها خيرات.

فإنْ ألِمَ الحيوانُ لم يعدم تألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم، أو تهيئة لقوة وصحة وكمال، أو عوضًا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما، فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير، وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة، والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سُدى، ولم يقدرهما عبثًا، ومن كمال قدرته وحكمته أن جَعل كل واحدة منهما تُثمر الأخرى.

هذا ولوازم الخِلْقة يستحيل ارتفاعها، كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق، فلا يكون المخلوق إلا فقيرًا محتاجًا ناقص العلم والقدرة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يألم في عالم الكَوْن والفساد لم يكن حيوانًا، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها دارًا ممتزجًا ألمُها بلذتها، وسرورُها بأحزانها، وغمومُها وصحتُها بسقمها؛ حكمةً منه بالغة.

ص: 286

فصل

ولمّا كانت الآلام كالأدوية للأرواح والأبدان كانت كمالًا للحيوان، خصوصًا لنوع الإنسان؛ فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه، وإنما ابتلاه ليعافيه، وإنما أماته ليحييه، فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب الكمال طورًا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بدّ له منها، وكماله موقوف على تلك الأسباب، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص ولوازم ذلك، ولوازم تلك اللوازم.

ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله، فتفرض أمورًا ممتنعة وتقدّرها تقديرًا ذهنيًا، وتحسب أنها أكمل من الممكن الواقع، ومع هذا فربّها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها، فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده، وقامت بمقتضى هذين الاعترافين؛ كان نصيبها من الرحمة أوفر.

والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد، وختم أمر هذا العالم بالحمد، فقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقال:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75]، وأنزل كتابه بالحمد، وشرع دينه بالحمد، وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد، فحمده من لوازم ذاته؛ إذ يستحيل أن يكون إلا محمودًا.

فالحمد سبب الخلق وغايته، الحمدُ أوجبه، وللحمد وُجِد.

فحمده واسع لما وسعه علمه ورحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلمًا، فلم يوجِدْ شيئًا ولم يقدّره ولم يشرَعْه إلا بحمده ولحمده.

ص: 287

وكل ما خلقه وشرعه فهو متضمن للغايات الحميدة، ولابد من لوازمها ولوازم لوازمها، ولهذا ملأ حمده سماواته وأرضه وما بينهما، وما شاء من شيء بعد، مما خلقه ويخلقه هناك بعد هذا الخلق، فحمده ملأ ذلك كله.

وحمده تعالى أنواع: حمد على ربوبيته، وحمد على تفرده بها، وحمد على ألوهيته وتفرده بها، وحمد على نعمته، وحمد على منّته، وحمد على حكمته، وحمد على عدله في خلقه، وحمد على غناه عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل، وحمد على كماله الذي لا يليق بغيره، فهو محمود على كل حال، وفي كل آن ونَفَس، وعلى كل ما فعل وكل ما شرع، وعلى كل ما هو متصف به، وعلى كل ما هو منزّه عنه، وعلى كل ما في الوجود من خير وشَرّ، ولذّة وألم، وعافية وبلاء.

فكما أن المُلك كله له، والقدرة كلها له، والعزة كلها له، والعلم كله له، والجمال كله له= فالحمد كله له، كما في الدعاء المأثور:«اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، وأنت أهل أن تُحمد»

(1)

.

وما عُمِرت الدنيا إلا بحمده، ولا الجنة إلا بحمده، ولا النار إلا بحمده، حتى إن أهلها ليحمدونه، كما قال الحسن:«لقد دخل أهلُ النارِ النارَ وإنّ قلوبهم لتحمده، ما وجدوا عليه من حجة ولا سبيل»

(2)

.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (7949)، وأحمد (23355)، والطبراني في «الدعاء» (1746) من حديث رجل ــ وفي رواية: رجل من أهل فدك، وفي أخرى: رجل من ولد حذيفة ــ عن حذيفة، في حكاية رويت مرفوعة وموقوفة، وإسناده ضعيف؛ لجهالة التابعي.

(2)

تقدم تخريجه في (1/ 442).

تنبيه: وقع بعد قول الحسن في نسخة «م» وحدها ما نصه: «هَبْ أن ما ذكره يتأتى في آلام الدنيا ومصائبها، فكيف يتأتى في آلام الآخرة ومصائبها» ، والظاهر من السياق أنها من اعتراضات بعض من طالع النسخة الأم؛ فأدخلها الناسخ سهوًا، والله أعلم.

ص: 288

فصل

فإن قيل: فأي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي لا ينقطع ولا يفتر عن أهله، بل أهله فيه أبد الآباد، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36]، ولا يُخفَّف عنهم طرفة عين؟

قيل: لعمر الله هذا سؤال يُقَلْقِلُ الجبال، فضلًا عن قلوب الرجال.

وعن هذا السؤال أنكر من أنكر من المُقرِّين بالمعاد حكمة العزيز الحكيم، وردّ الأمر إلى مشيئة محضة لا سبب لها ولا غاية، وجَوّز على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه، وينزلهم إلى أسفل الجحيم، وينعم أعداءه المشركين به، ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم أبد الآباد، وأن يدخل النار من يشاء بغير سبب ولا عمل أصلًا، وأن يفاوت بين أهلها مع تساويهم في الأعمال، ويسوّي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في الأعمال، وأن يعذب الرجل بذنب غيره، وأن يبطل حسناته كلّها فلا يثيبه بها، أو يثيب بها غيره، كل ذلك جائز عليه، لا نعلم أنه لا يفعله

(1)

إلا بخبر صادق؛ إذ نسبة ذلك وضدّه إليه على حد سواء.

وقالوا: ولا مَخْلص عن هذا السؤال إلا بهذا الأصل.

(1)

«م» : «أنه يفعله» بإسقاط حرف النفي.

ص: 289

وربما تمسكوا بظاهر من القول لم يضعوه على مواضعه، ولم يجمعوا بينه وبين أدلة العدل والحكمة، وتعليق الأمور بأسبابها، وترتيبها عليها، وآيات الموازنة والمقابلة، وأخطؤوا في فهم القرآن كما أخطؤوا في وصف الربّ بما لا يليق به، وفي التجويز عليه بما لا يجوز عليه.

وقابلهم مثبتو الأسباب والحِكَم من القدرية، وزعموا أنهم يتخلصون من قبيح هذا القول بما أثبتوه من الحكمة والتعليل، ولكن وقعوا في نظيره أو ما هو شر منه، حيث أوجبوا على الله سبحانه تخليد من أفنى عمره في طاعته، ثم ارتكب كبيرة واحدة ومات مُصِرًّا عليها في النار مع أعدائه الكفار أبد الآباد، ولم يرقبوا له طاعة، ولم يرعوا له إسلامًا.

وهم في هذا المذهب شرٌّ قولًا من إخوانهم الجبرية؛ فإن أولئك لم يوجبوا على الله ذلك الحُكْم، وإنما جوّزوه عليه، وجوّزوا أن لا يفعله، وهؤلاء أوجبوا عليه تخليد أهل الكبائر مع الكفار، ولم يجوّزوا عليه إخراجهم منها، وأصابهم في غلطهم على القرآن والسنة، وما يجوز على الرب وما لا يجوز عليه= ما أصاب إخوانهم من الجبرية.

ولمّا ظنَّ غيرهم من أهل النظر والبحث أن هذا هو المعاد الذي أخبرت به الرسل، وعلموا أن هذا منافٍ للحكمة والرحمة والعدل والمصلحة= قالوا: إن ذلك تخويف وتخييل لا حقيقة له، يَزَعُ النفوس السَّبْعِية والبهيمية عن عدوانها وشهواتها، فتقوم بذلك مصلحة الوجود.

وكان من أكبر أسباب إلحاد هؤلاء وكفرهم بالله واليوم الآخر نسبةُ أولئك مذاهبَهُم الباطلة وأقوالهم الفاسدة إلى الرسل، وإخبارَهُم أنهم دعوا

ص: 290

إلى الإيمان بها، كما أصابهم معهم في مسألة

(1)

حدوث العالم، حيث أخبروهم أن الرسل أخبرت عن الله تعالى أنه لم يزل معطَّلًا عن الفعل، والفعل غير ممكن منه، ثم انقلب من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي عند ابتدائه بلا تجدّد سبب، ولا أمر قام بالفاعل، وقالوا: من لم يعتقد هذا فليس بمؤمن، ولا مصدِّق للرسل، فهذا في المبدأ، وذاك في المعاد.

ثم جاءت طائفة أخرى فطووا بساط الخلق والأمر جملة، وقالوا: كل هذا محال وتلبيس، وما ثَمّ وجودان، بل الوجود كله واحد، ليس هناك خالق ومخلوق، وربّ ومربوب، وطاعة ومعصية، وما الأمر إلا نَسَق

(2)

واحد، والتفريق من أحكام الوهم والخيال، فالسماوات والأرض، والدنيا والآخرة، والأزل والأبد، والحسن والقبيح كله شيء واحد، وهو من عين واحدة، ثم استدركوا فقالوا: لا بل هو العين الواحدة.

ونشأ الناس ــ إلا من شاء الله ــ بين هؤلاء الطوائف الأربع، لا يعرفون سوى أقوالهم ومذاهبهم، فعظمت البليّة، واشتدت المصيبة، وصار أذكياءُ العالم زنادقةَ الناس، وأدناهم إلى الخلاص أهلُ البَلادة والبَلَه، والعقل والسمع عن هذه الفرق بمعزل، ومنازلهم منهما أبعد منزل.

فنقول والله المستعان، وعليه التكلان، وبيده التوفيق

(3)

:

قد دلَّ القرآن والسنة والفطرة وأدلة العقول أنه سبحانه خلق السماوات

(1)

«د» : «أصابهم تعميم في باب مسألة» دون إعجام.

(2)

«د» : «فسق» ، «م»:«فتق» ، كلاهما تحريف، انظر:«طريق الهجرتين» (2/ 566).

(3)

«د» : «فنقول وبالله والتوفيق، والله المستعان، وعليه التكلان» .

ص: 291

والأرض وما بينهما بالحق، ولم يخلق ذلك عبثًا ولا سُدى ولا باطلًا، وإنما أوجد العالم العلوي والسفلي ومن فيهما بالحق الذي هو وصفه واسمه وقوله وفعله، وهو سبحانه الحق المبين، فلا يصدر عنه إلا حق، ولا يقول إلا حقًّا، ولا يفعل إلا حقًّا، ولا يأمر إلا بالحق، ولا يجازي إلا بحق.

فالباطل لا يُضاف إليه، بل الباطل ما لم يُضَف إليه، كالحكم الباطل، والدين الباطل الذي لم يأذن فيه ولم يشرعه على ألسنة رسله، والمعبود الباطل الذي لا يستحق العبادة وليس أهلًا لها، فعبادته باطلة، ودعوته باطلة، والقول الباطل هو الكذب والزور، والمحال من القول الذي لا يتعلق بحق موجود، بل متعلَّقه باطل لا حقيقة له.

وهو سبحانه إنما خلق خلقه لعبادته ومعرفته، وأصل عبادته محبته على آلائه ونعمه، وعلى كماله وجلاله، وذلك أمر فطري ابتدأ الله عليه خلقه، وهي فطرته التي فطر الناس عليها، كما فطرهم على الإقرار به، كما قالت الرسل صلوات الله عليهم لأممهم:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [إبراهيم: 10]، فالخلق مفطورون على معرفته وتوحيده، فلو خُلّوا وهذه الفطرة لنشؤوا على معرفته وعبادته وحده.

وهذه الفطرة أمر خَلْقي خُلِقوا عليه، ولا تبديل لخَلْقه، فمضى الناس على هذه الفطرة قرونًا عديدة، ثم عرض لها موجِب فسادِها وخروجِها عن الصحة والاستقامة، بمنزلة ما يعرض للبدن الصحيح والطبيعة الصحيحة مما يوجب خروجهما عن الصحة إلى الانحراف.

فأرسل الله رسله بردِّ الناس إلى فطرتهم الأولى التي فُطِروا عليها، فانقسم الناس معهم ثلاثة أقسام:

ص: 292

منهم من استجاب لهم كل الاستجابة، وانقاد إليهم كلّ الانقياد، فرجعت فطرتُهُ إلى ما كانت عليه، مع ما حصل لها من الكمال والتمام في قُوَّتَي العلم النافع والعمل الصالح، فازدادت فطرتهم كمالًا إلى كمالها، فهؤلاء لا يحتاجون في المعاد إلى تهذيب وتأديب، ونار تذيب فضلاتهم الخبيثة، وتطهّرهم من الأدران والأوساخ؛ فإن انقيادهم للرسل أزال عنهم ذلك كله.

وقسم استجابوا لهم من وجه دون وجه، فبقيت عليهم بقية من الأدران والأوساخ التي تنافي الحق الذي خُلِقوا له

(1)

، فهيَّأ لهم العليم الحكيم من أدوية الابتلاء والامتحان بحسب تلك الأدواء التي قامت بهم، فإن وَفَتْ بالخلاص منها في هذه الدار وإلا ففي البرزخ، فإن وَفَى بالخلاص وإلا ففي موقف القيامة وأهوالها ما يخلصهم من تلك البقية، فإن وَفَى بها وإلا فلابدّ من المداواة بالدواء الأعظم، وآخر الطب الكي، فيدخلون كِيْرَ التمحيص والتخليص، حتى إذا هُذّبوا ونُقّوا ولم يبق للدواء فائدة؛ أُخْرِجوا من مارَسْتان المرضى إلى دار أهل العافية، كما دلّ على ذلك السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصَرَّح به في قوله:«حتى إذا هُذّبوا ونُقّوا أذن لهم في دخول الجنة»

(2)

، فذلك قوله تعالى:{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، فلم يأذن لهم في دخولها إلا بعد طيبهم؛ فإنها دار الطيبين، فليس فيها شيء من الخَبَث أصلًا، ولهذا يلبث هؤلاء في النار على قدر حاجتهم إلى التطهير وزوال الخَبَث.

(1)

هكذا في الأصول: «خلقوا له» ، ولعل الأشبه بالمعنى:«خلقوا عليه» .

(2)

جزء من حديث أخرجه البخاري (6535) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 293

القسم الثالث: قوم لم يستجيبوا للرسل، ولا انقادوا لهم، بل استمروا على الخروج عن الفطرة، ولم يرجعوا إليها، واستحكم فسادها فيهم أتم استحكام، بحيث لا يُرْجَى لهم صلاح، فهؤلاء لا تفي محنُ الدنيا ومُصَابُ الموت وما بعده وأهوالُ القيامة بزوال أوساخهم وأدرانهم، ولا يليق بحكمة العليم الحكيم أن يجاور بهم الطيبين في دارهم، ولم يُخْلَقوا للفناء، فهؤلاء أهل دار الابتلاء والامتحان، باقون فيها ببقاء ما معهم من درن الكفر والشرك، والنار إنما أُوْقِدت عليهم بأعمالهم الخبيثة، فعذابهم بنفس أعمالهم، أُنشِئ لهم منها صورٌ من العذاب تناسبها وتشاكلها

(1)

، فالعذاب باقٍ عليهم ما بقيت حقائق تلك الأعمال وما تولد منها، فما دامت موجِبات العذاب باقية فالعذاب باقٍ.

يبقى أن يقال: فهل ذهب أثر الفطرة الأولى بالكلية، بحيث صارت كأن لم تكن، وبطلت بالكلية، وانتقل الأمر إلى العارض المفسد لها، وعلى هذا فلا سبيل إلى خلاصهم من العذاب؛ إذ هو أثر ذلك الفساد الذي أزال الفطرة؟

أو يقال: الفطرة لم تذهب بالكلية، وإنما استحكم مرضها وفسادها وأصلها باقٍ، كما يستحكم مرض البدن وفساده والحياة قائمة به، لكنها حياة لا تنفع، فإذا قُدّر دواءٌ كريه صعب التناول لا سبيل إلى الصحة إلا بتكرّر تناوله مرارًا كثيرة العدد جدًّا تزيل ذلك المرض العارض، فيظهر أثر الفطرة الأولى، فلا يحتاج بعده إلى الدواء؟

ص: 294

هذا سر المسألة، ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني فإنه يقول: العقل لا يدل على امتناع ذلك، أو ليس فيه ما يحيله.

ونقول: بل قد دلّ العقل والنقل والفطرة على أن الربّ تعالى حكيم رحيم، والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس في العذاب سرمدًا أبد الآباد، بحيث يدوم عذابها بدوام الله، فهذا ليس في الحكمة والرحمة

(1)

.

قالوا: وقد دلَّت الدلائل الكثيرة من النصوص والاعتبار، على أن ما شرعه الله في هذه الدار، أو قدَّره من العذاب والعقوبات، فإنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ، وفَطْمًا للنفوس عن المعاودة، وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت خلا التعذيب عن الحكمة والمصلحة فيبطل؛ فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم لا يعذّب سدى، ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب، بل كلا الأمرين محال، فإذًا لا يقع التعذيب إلا لمصلحة المعذِّب أو مصلحة غيره، ومعلوم أنه لا مصلحة له ولا لغيره في بقائه في العذاب سرمدًا أبد الآباد.

قالوا: فمما دَلّ عليه القرآن والسنة أنّ جنس الآلام لمصلحة بني آدم قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، وقوله تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، فأخبر أنّ ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص، أي تطهير وتصفية للمؤمنين، وبَشَّر الصابرين على ألم الجوع

(1)

ناقش المؤلف هذه المسألة وذيولها في عدة مواضع من مصنفاته، من أوفاها ما حرره في «الصواعق المرسلة - المختصر» (2/ 635 - 690).

ص: 295

والخوف والفقر وفَقْد الأحباب وغيرهم بصلاته عليهم ورحمته وهدايته.

وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وأيّنا لم يعمل سوءًا؟ فقال:«يا أبا بكر، ألستَ تَنْصَب؟ ألستَ تحزن؟ أليس يصيبك الأذى؟» قال: بلى، قال:«فذلك مما تُجْزَون به»

(1)

.

وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وفي هذا تبشير وتحذير، إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا، وهو أرحم أن يُثَنّي العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«من بُليَ بشيء من هذه القاذورات فستره الله، فأمره إلى الله: إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له، ومن عُوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يُثَنّي العقوبة على عبده»

(2)

.

وفي الحديث: «الحدود كفارات لأهلها»

(3)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور في «السنن - التفسير» (4/ 1381 - 1397)، وأحمد (68)، والترمذي (3039)، والطبري (7/ 522 - 523) بألفاظ مختلفة من عدة أوجه عن الصدّيق، قال الترمذي: «هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال

وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي بكر، وليس له إسناد صحيح أيضًا، وفي الباب عن عائشة»، وانظر:«علل الدارقطني» (74).

وفي الباب من حديث أبي هريرة عند مسلم (2574).

(2)

لم أقف عليه بهذا السياق، وأخرجه بنحوه أحمد (775)، والترمذي (2626)، وابن ماجه (2604)، قال الترمذي:«حديث حسن غريب» .

وفي الباب عن عبادة بن الصامت وغيره، انظر:«فتح الباري» (1/ 67).

(3)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإن كان معناه قد جاء في غير ما حديث كما سيذكره المصنف.

وعن أبي هريرة يرفعه: «ما أدري: الحدود كفارات لأهلها أم لا؟» أخرجه البزار (8519) والحاكم (104)، وأعله البخاري وغيره إسنادًا ومتنًا، انظر:«التاريخ الكبير» (1/ 153)، «السنن الكبرى» للبيهقي (8/ 570)، «فتح الباري» لابن رجب (1/ 78 - 79).

ص: 296

وفي «الصحيحين»

(1)

من حديث عبادة: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفَّارة له» .

وفي «الصحيح»

(2)

عنه صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب، ولا هَمٍّ ولا حَزَن، ولا أذى حتى الشوكة يُشاكها= إلا كَفّر الله بها من خطاياه» .

وقال: «لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة»

(3)

.

وفي حديث آخر: «إن المؤمن إذا مرض خرج مثل البَرَدة في صفائها ولونها»

(4)

.

وفي الحديث الآخر: «إن الحمّى تنفي الذنوب كما ينفي الكِيْرُ خَبَث

(1)

البخاري (3892)، ومسلم (1709).

(2)

البخاري (5641)، ومسلم (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.

(3)

أخرجه أحمد (7859)، والترمذي (2399)، من حديث أبي هريرة، قال الترمذي:«حسن صحيح» .

(4)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «المرض والكفارات» (22)، والبزار (6355) من حديث أنس، وهو حديث باطل، تفرد به الوليد الموَقّري وهو متهم، انظر:«الضعفاء» للعقيلي (4/ 140)، «الموضوعات» لابن الجوزي (3/ 481).

ص: 297

الحديد»

(1)

.

وفي حديث آخر: «لا تسبّي الحمّى؛ فإنها تُذْهِب خطايا بني آدم»

(2)

.

ومن أسماء الحمّى: مكفرة الذنوب.

وفي الحديث الصحيح: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: عبدي، مرضتُ فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: مرض عبدي فلان فلم تعده، أما لو عدتَه لوجدتني عنده»

(3)

. وهذا أبلغ من قوله في الإطعام والإسقاء: «لوجدتَ ذلك عندي» ، فهو سبحانه عند المبتلَى بالمرض رحمةً منه له وجبرًا وقربًا منه لكسر قلبه بالمرض، فإنه عند المنكسرة قلوبهم.

وهذا أكثر من أن يُذْكَر.

وربّ الدنيا والآخرة واحد، وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا والآخرة، بل ظهور رحمته في الآخرة أعظم، فعذاب المؤمنين بالنار في الآخرة هو من هذا الباب كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود، وكذلك حبسهم بين الجنة والنار حتى يُهذَّبوا ويُنقَّوا.

وقد عُلِم بالنصوص الصحيحة الصريحة أن عذابهم في النار متفاوت قدْرًا ووقتًا بحسب ذنوبهم، وأنهم لا يخرجون منها جملةً واحدة، بل شيئًا

(1)

ذكره بهذا اللفظ أبو عبيد في «غريب الحديث» (2/ 192)، ولم أقف عليه مسندًا، وسيأتي في سياق الحديث التالي نحوه.

(2)

أخرجه مسلم (2575) من حديث أم السائب أو أم المسيب، وتمامه:«كما يذهب الكير خبث الحديد» .

(3)

أخرجه مسلم (2569) بنحوه من حديث أبي هريرة.

ص: 298

بعد شيء، حتى يبقى رجل هو آخرهم خروجًا منها.

وكذلك عذاب الكفار فيها متفاوت تفاوتًا عظيمًا، فالمنافقون في دركها الأسفل، وأبو طالب أخفّ أهلها عذابًا في ضَحْضاح من نار

(1)

، يغلي منه دماغه، وآل فرعون في أشد العذاب.

قالوا: فإذا كان العذاب في الدار التي فيها رحمة واحدة من مائة رحمة، هو رحمة بأهله ومصلحة لهم ولطف بهم؛ فكيف في الدار التي تظهر فيها مائة رحمة، كل رحمة منها طِبَاق ما بين السماء والأرض؟!

وقد قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، فأخبر أنه يعذبهم رحمةً بهم ليردّهم العذاب إليه، كما يعذِّب الأبُ الشفيقُ الرحيمُ ولدَه إذا فرّ منه إلى عدوه؛ ليرجع إلى بِرّه وكرامته.

وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، وأنت تجد تحت هذه الكلمات أنّ تعذيبه لكم لا يزيد في ملكه ولا ينتفع به، ولا هو سُدى خالٍ من حكمة ومصلحة، وأنكم إذا بدّلتم الشكر والإيمان بالكفر كان عذابكم منكم، وكان كفركم هو الذي عُذِّبتم به، وإلا فأي شيء يلحقه سبحانه من عذابكم، وأي نفع يصل إليه منكم

(2)

؟

قالوا: وحينئذ فالحكمة تقتضي أن النفوس الشريرة لا بدّ لها من عذاب

(1)

الضَّحْضاح في الأصل: ما رقّ من الماء على وجه الأرض مما يبلغ الكعبين، «النهاية في غريب الحديث» (3/ 75).

(2)

«د» : «منه» .

ص: 299

يهذّبها بحسب ذنوبها، كما دلّ على ذلك السمع والعقل، وذلك يوجب الانتهاء لا الدوام.

قالوا: والله تعالى لم يخلق الإنسان عبثًا، وإنما خلقه ليرحمه لا ليعذبه، وإنما اكتسب موجِب العذاب بعد خلقه له، فرحمته له سبقت غضبه، وموجِب الرحمة فيه سابق على موجِب الغضب وغالب له، وتعذيبه ليس هو الغاية بخلقه، وإنما تعذيبه بحكمة ورحمة، والحكمة والرحمة تأبى أن يتصل عذابه سرمدًا إلى غير نهاية.

أما الرحمة فظاهر، وأما الحكمة فلأنه إنما عُذِّب على أمر طرأ على الفطرة وغَيَّرها، ولم يُخلَق عليه من أصل الخِلْقة، ولا خُلِق له، فهو لم يُخْلَق للإشراك ولا للعذاب، وإنما خُلِق للعبادة والرحمة، ولكن طرأ عليه موجِب العذاب فاستحق عليه العذاب، وذلك الموجِب لا دوام له، فإنه باطل، بخلاف الحق الذي هو موجِب الرحمة، فإنه دائم بدوام الحق سبحانه وهو الغاية، وليس موجِب العذاب غاية، كما أن العذاب ليس بغاية، بخلاف الرحمة فإنها غاية، وموجِبها غاية، فتأمله حق التأمل، فإنه سرّ المسألة.

قالوا: والرب تعالى تسمّى بالغفور الرحيم، ولم يتسمّ بالمعذِّب ولا بالمعاقِب، بل جعل العذاب والعقاب في أفعاله، كما قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِيَ أَنِّيَ أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]، وقال تعالى:{إِنَّ سَرِيعُ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ} [الأنعام: 165]، وقال:{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهْوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 12 - 14]، وقال:{(1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي} [غافر: 1 - 3]، وهذا كثير في القرآن.

ص: 300

فإنه سبحانه يتمدّح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم، ويتسمّى بها، ولم يتمدّح بأنه المعاقِب ولا الغضبان ولا المعذِّب ولا المنتقِم إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى، ولم يثبت

(1)

.

وقد كتب على نفسه كتابًا أنّ رحمته سبقت غضبَه، وكذلك هو في أهل النار، فإن رحمته فيهم سبقت غضبَه، فإنه رحمهم أنواعًا من الرحمة قبل أن أغضبوه بشركهم، ورحمهم في حال شركهم، ورحمهم بإقامة الحجة عليهم، ورحمهم بدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم، وأمهلهم ولم يعاجلهم، بل وسعتهم رحمتُه، فرحمته غلبت غضبه، ولولا ذلك لخرب العالم، وسقطت السماوات على الأرض، وخرّت الجبال.

وإذا كانت الرحمة غالبة للغضب سابقة عليه؛ امتنع أن يكون موجِب الغضب دائمًا بدوامه، غالبًا لرحمته.

قالوا: والتعذيب إما أن يكون عبثًا أو لمصلحة وحكمة، وكونه عبثًا مما يُنزَّه أحكم الحاكمين عنه، ونسبته إليه نسبةٌ لما هو من أعظم النقائص إليه.

وإن كان لمصلحة فالمصلحة هي المنفعة ولوازمها وملزوماتها، وهي إما أن تعود على الرب تعالى ــ وهو يتعالى عن ذلك ويتقدّس عنه ــ، وإما أن تعود إلى المخلوق، وذلك المخلوق إما نفس المعذَّب وإما غيره، أو هما، والأول ممتنع؛ إذ لا مصلحة له في دوام العقوبة بلا نهاية، وأما مصلحة غيره: فإن كانت هي الاتعاظ والانزجار فقد حصلت، وإن كانت تكميل لذته

(1)

أخرجه الترمذي (3507)، وابن ماجه (3861) من حديث أبي هريرة، وقد أعل بالاضطراب والإدراج، انظر:«فتح الباري» (11/ 214) وما بعدها.

ص: 301

وبهجته وسروره بأن يرى عدوه في تلك الحال وهو في غاية النعيم؛ فهذا لو كان أقسى الخلق لرقّ لعدوه من طول عذابه ودوام ما يقاسيه= فلم يبق إلا كسر تلك النفوس الجبّارة العنيدة ومُداواتها بما يصل إلى مادة أدوائها وأمراضها فيَحْسمها، وتلك المادة شر طارئ على خير خُلِقت عليه في ابتداء فطرتها.

قالوا: والأقسام الممكنة في الخلق خمسة لا مزيد عليها: خير محض ومقابله، وخير راجح ومقابله، وخير وشر متساويان، والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها، وهما الخير الخالص والراجح.

وأما الشر الخالص أو الراجح فإن الحكمة لا تقتضي وجوده، بل تأبى ذلك؛ فإن كل ما خلقه الله تعالى فإنما خلقه بحكمةٍ وجودها أولى من عدمها، وخَلَق الدواب الشرّيرة والأفعال التي هي شر لما يترتّب على خَلْقها من الخير المحبوب، فلم تُخْلَق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرًا بوجه ما، هذا غاية المحال، فالخير هو المقصود بالذات وبالقصد الأول، والشر إنما قُصِد قَصْد الوسائل والمبادئ لا قَصْد الغايات والنهايات.

وحينئذ فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال، كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها، كما هو معلوم بالحسّ والعقل.

وعلى هذا فالعذاب شرّ وله غاية تُطلب به، وهو وسيلة إليها، فإذا حصلت غايته كان بمنزلة الطريق الموصلة إلى القصد، فإذا وصل بها السائر

(1)

إلى مقصده لم يبق لسلوكها فائدة.

ص: 302

وسر المسألة: أن الرحمة غاية الخلق والأمر لا العذاب، فالعذاب من مخلوقاته، وذلك يقتضي أنه خلقه لغاية محمودة، ولا بدّ من ظهور أسمائه وأثر صفاته عمومًا وإطلاقًا، فإن هذا هو الكمال، والربّ جل جلاله موصوف بالكمال، مُنزّه عن النقص.

قالوا: وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107]، وقال:{النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128].

قال أبو سعيد الخدري: «هذه تقضي على كل آية في القرآن» ، ذكره البيهقي وحرب وغيرهما

(1)

.

وقال عبد الله بن مسعود: «ليأتينّ على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا»

(2)

.

وعن عمر بن الخطاب وأبي هريرة مثله

(3)

، ذكره جماعة من المصنفين في السنة.

(1)

«الأسماء والصفات» للبيهقي (337)، «مسائل حرب ــ من كتاب النكاح إلى نهاية الكتاب» (1868) بنحوه، ورواه عبد الرزاق في «التفسير» (1251) ــ ومن طريقه الطبري (12/ 581) ــ، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1310).

والآية المقصودة هي: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .

(2)

أسنده ابن المنذر وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» (4/ 478).

(3)

سيذكرهما المصنف قريبًا (2/ 309 - 310).

ص: 303

وهذا يقتضي أن الدار التي لا يبقى فيها أحد هي التي يلبث فيها أهلها أحقابًا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: «أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار»

(1)

.

قالوا: ويكفينا ما في سورة الأنعام من قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} إلى قوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 128 - 130]، وهذا خطاب للكفار من الجن والإنس من وجوه:

أحدها: استكثارهم منهم، أي: من إغوائهم وإضلالهم، وإنما استكثروا من الكفار.

الثاني: قوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ} وأولياؤهم هم الكفار، كما قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، فحزب الشيطان هم أولياؤه.

(1)

أسنده الطبري (12/ 582).

ص: 304

الثالث: قوله تعالى: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} ومع هذا فقال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ، ثم ختم الآية بقوله:{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}

(1)

، فتعذيبهم متعلق بعلمه وحكمته، وكذلك الاستثناء صادر عن علم وحكمة، فهو عليم بما يفعل بهم، حكيم في ذلك.

قالوا: وقد أكثر في القرآن أنه سبحانه إذا ذكر جزاء أهل رحمته وأهل غضبه معًا أبَّدَ جزاء أهل الرحمة، وأطلق جزاء أهل الغضب، كقوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 106 - 108].

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 6 - 8].

وقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 - 107].

وقد يقرن بينهما في الذكر ويقضي لهما بالخلود، وقد يفرد أهل الغضب

(1)

«د» «م» : «عليم حكيم» .

ص: 305

بالذكر ويقضي لهم بالخلود

(1)

،كقوله:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]، وقوله:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14].

ولكن مجرد ذكر الخلود والتأبيد لا يقتضي عدم النهاية، بل الخلود هو المكث الطويل، كقولهم:«قَيْد مُخَلّد» و «تأبيد كل شيء بحسبه» ، فقد يكون التأبيد لمدة الحياة، وقد يكون لمدة الدنيا، قال تعالى عن اليهود:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95]، ومعلوم أنهم يتمنّونه في النار حيث يقولون:{يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77].

وإنما استفيد عدم انتهاء نعيم الجنة بقوله تعالى: {(53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ} [ص: 54]، وقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، وقوله:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الإنشقاق: 25]، أي غير مقطوع

(2)

، ومَن قال: لا يُمَنُّ به عليهم، فقد أخطأ أقبح الخطأ. ولم يجئ مثل ذلك في عذاب أهل النار.

وقوله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقوله تعالى:{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقوله تعالى:{أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ} [السجدة: 30] في موضعين من القرآن، وقوله:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] غير مصروف عن ظاهره وحقيقته على الصحيح.

(1)

جملة: «وقد يفرد أهل الغضب بالذكر ويقضي لهم بالخلود» ساقطة من «د» .

(2)

«د» : «أي مقطوع» .

ص: 306

وقد زعمت طائفة أن إطلاق هذه الآيات مُقيّد بآيات التقييد بالاستثناء بالمشيئة، فيكون من باب تخصيص العموم، وهذا كأنه قول مَنْ قال مِنَ السلف في آية الاستثناء: إنها تقضي على كل وعيد في القرآن.

والصحيح أن هذه الآيات على عمومها وإطلاقها، ولكن ليس فيها ما يدل على أن نفس النار دائمة بدوام الله لا انتهاء لها، هذا ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه بوجه ما، وفرق بين أن يكون عذاب أهلها دائمًا بدوامها، وبين أن تكون هي أبدية لا انقطاع لها، فلا تستحيل ولا تضمحل، فهذا شيء، وهذا شيء.

ولا يقال: فلا فرق على هذا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؛ إذ كان كل منهما يضمحل وينقطع.

قيل: ما أظهر الفرق بينهما، والأمر أبين من أن يحتاج إلى فرق.

وأيضًا: فعذاب الدنيا ينقطع بموت المعذَّب وإقلاع العذاب عنه، وأما عذاب الآخرة فلا يموت من استحق الخلود فيه، ولا يُقلع العذاب عنه، ولا يدفعه عنه أحد، كما قال تعالى:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]، وهو لازم لا يفارق، قال تعالى:{عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65] أي لازمًا، ومنه سُمّي الغريم غريمًا لملازمته غريمه.

فصل

(1)

وأما الآثار في هذه المسألة، فقال الطبراني: حدثنا عبد الرحمن بن سَلْم،

(1)

سيقتبس المؤلف كثيرًا في هذا الفصل وما يليه من رسالة شيخ الإسلام: «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» .

ص: 307

حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الله بن مِسْعَر بن كِدَام، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليأتينّ على جهنم يوم كأنها وَرَق

(1)

هاجَ واحمَرَّ، تخفق أبوابها»

(2)

.

وقال حرب في «مسائله»

(3)

: سألت إسحاق، قلت: قول الله عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.

حدثنا عبد الله بن معاذ، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا أبو نَضْرة، عن جابر أو أبي سعيد، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، قال المعتمر: قال أبي: كل وعيد في القرآن.

ثم تأوّل حرب ذلك، فقال: معناه عندي ــ والله أعلم ــ أنها تأتي على كل وعيد في القرآن لأهل التوحيد.

وكذلك قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناء من أهل القبلة الذين يخرجون من النار

(4)

.

(1)

كذا في «د» «م» ، وفي مصادر التخريج:«زرع» .

(2)

«المعجم الكبير» (7969)، وبنحوه الخطيب في «تاريخ بغداد» (10/ 177)، وهو حديث موضوع، ابن مسعر متروك، وابن الزبير كذاب، كما في «الميزان» (1/ 406)(2/ 502)، وانظر:«الموضوعات» (3/ 268).

(3)

برقم (1867).

(4)

«مسائل حرب» (3/ 1157 - 1158).

ص: 308

وهذا التأويل لا يصح؛ لأن الاستثناء إنما هو في وعيد الكفار، فإنه سبحانه قال:{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} الآية [هود: 105 - 106]، ثم قال:{وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود: 108]، فأهل التوحيد من الذين سُعِدوا لا من الذين شَقُوا، وآية الأنعام صريحة في حق الكفار، كما تقدم بيانه.

قال حرب: وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، ثنا شعبة، عن أبي بَلْج

(1)

، سمع عمرو بن ميمون يحدِّث عن عبد الله بن عمرو، قال:«ليأتينّ على جهنم يوم تصطفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا»

(2)

.

حدثنا عبيد الله، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال:«أما الذي أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} الآية» .

قال عبيد الله: كان أصحابنا يقولون: يعني بها الموحّدين

(3)

.

وقد تقدم أن هذا التأويل لا يصح.

(1)

اضطربت نسخة «د» «م» في رسمها وإعجامها، والمثبت من كتب التراجم والرواية.

(2)

«مسائل حرب» (1869)، ورواه الفسوي في «المعرفة» (2/ 103)، والبزار (2478)، ورجاله ثقات خلا أبا بَلْج يحيى بن سليم فمختلف فيه، وعد الذهبي في «الميزان» (4/ 385) هذا الحديث من بلاياه، ونقل الفسوي عقيب روايته عن ثابت قال: سألت الحسن عن هذا الحديث فأنكره.

(3)

«مسائل حرب» (1870).

ص: 309

وقال عَبْد بن حميد في «تفسيره» : أخبرنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن، قال: قال عمر رضي الله عنه: «لو لبث أهل النار في النار بقدر رَمْل عالِج

(1)

لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه».

وقال: أخبرنا حجّاج بن مِنْهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«لو لبث أهل النار في النار عدد رَمْل عالِج لكان لهم يوم يخرجون فيه»

(2)

.

ورواة هذا الأثر أئمة ثقات كلهم، والحسن سمعه من بعض التابعين، ورواه غير مُنكِر له، فدلّ على أن هذا الحديث كان متداولًا بين هؤلاء الأئمة لا ينكرونه، وقد كانوا ينكرون على من خرج عن السنة أدنى شيء، ويرْوُون الأحاديث المُبطِلة لقوله

(3)

.

وكان الإمام أحمد يقول: «أحاديث حماد بن سلمة هي الشَّجا في حلوق المبتدعة»

(4)

.

(1)

رمل عالِج: كثبان صحراوية عظيمة في شمال نجد من جزيرة العرب، وتعرف اليوم بالنفود الكبير، انظر:«معجم البلدان» (4/ 69)، «معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية» (197).

(2)

أورده ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 541) من طريق عبد: ثنا سليمان: ثنا حماد، عن حميد به، قال ابن كثير:«فيه انقطاع بين الحسن وعمرَ، فإنَّه لم يَسْمع منه، وفيه غرابة جدًّا» ، وعزاه في «الدر المنثور» (4/ 478) إلى ابن المنذر.

(3)

«د» : «لفعله» .

(4)

انظر: «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 303)، «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» (54 - 55).

والشجا ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، كما في «تاج العروس» (38/ 352).

ص: 310

فلو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للسنة والإجماع لسارعوا إلى رده وإنكاره.

وفي تفسير علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، قال:«لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا»

(1)

.

قال الطبري: «وروي عن ابن عباس أنه كان يتأوّل في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء في مَبْلغ عذابه إياهم إلى مشيئته»

(2)

.

وهذا التفسير من ابن عباس يُبطِل قول من تأوّل الآية على أن معناها: سوى ما شاء الله من أنواع العذاب. أو قال: المعنى: إلا مدة مقامهم قبل الدخول من حين بُعِثوا إلى أن دخلوا. أو أنها في أهل القبلة، «وما» بمعنى «مِن» أو أنها بمعنى الواو، أي: وما شاء الله.

وهذه كلها تأويلات باردة ركيكة، لا تليق بالآية، ومَن تأمّلها جزم ببطلانها.

وقال السُّدِّي في قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23]، قال:«سبعمائة حُقْب، كل حُقْب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا، كل يوم كألف سنة مما تعدون»

(3)

.

(1)

رواه الطبري (9/ 557)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (7897).

(2)

«جامع البيان» (9/ 557).

(3)

نسبه إليه ابن تيمية في «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» (63)، و ابن كثير (8/ 306)، وانظر في تقدير الأحقاب:«الدر المنثور» (8/ 394 - 395).

ص: 311

وتقييد لُبْثهم فيها بالأحقاب يدل على مدة مقدّرة يحصرها العَدّ

(1)

، وهذا قول الأكثرين.

ولهذا تأوّل الزجّاج الآية على أن الأحقاب تقييد لقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ: 24]، وأما مدة لُبْثهم فيها فلا تتقدَّر بالأحقاب

(2)

.

وهذا تأويل فاسد؛ فإنه يقتضي أن يكونوا بعد الأحقاب ذائقين للبرد والشراب.

وقالت طائفة أخرى: الآية منسوخة بقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقوله:{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39]، وهذا فاسد أيضًا إنْ أرادوا بالنسخ الرفع، فإنه لا يدخل في الخَبَر إلا إذا كان بمعنى الطلب، وإنْ أرادوا بالنسخ البيان فهو صحيح، وهو إنما يدل على أن عذابهم دائم مستمر ما دامت باقية، فهم فيها خالدون، وما هم بمخرجين، وهذا حقٌّ معلومٌ دلالة القرآن والسنة عليه.

ولكن الشأن في أمر آخر، وهو أن النار أبدية دائمة بدوام الرب، فأين الدليل على هذا من القرآن أو السنة بوجه من الوجوه؟

وقالت طائفة: هي في أهل التوحيد.

وهذا أقبح مما قبله، وسياق الآيات يرده ردًّا صريحًا.

(1)

«د» : «العدد» .

(2)

«معاني القرآن وإعرابه» (5/ 273).

ص: 312

ولما رأى غيرهم بطلان هذه التأويلات قال: لا يدل ذِكْر الأحقاب على النهاية؛ فإنها غير مقدّرة بالعدد، فإنه لم يقل: عشرة، ولا مائة، ولو قُدِّرت بالعدد لم يدل على النهاية إلا بالمفهوم، فكيف إذا لم تُقَدّر؟

قالوا: ومعنى الآية: أنه كلما مضى حُقْب تبعه حُقْب لا إلى نهاية.

وهذا الذي قالوه لا تدل الآية عليه بوجه.

وقولهم: «إن الأحقاب فيها غير مُقَدّرة» ، فيقال: لو أريد بالآية بيان عدم انتهاء مدة العذاب لم تُقَيّد بالأحقاب؛ فإنّ ما لا نهاية له لا يقال: هو باقٍ أحقابًا ودهورًا وأعصارًا ونحو ذلك، ولهذا لا يقال ذلك في نعيم أهل الجنة، ولا يقال للأبدي الذي لا يزول: هو باقٍ أحقابًا أو آلافًا من السنين.

فالصحابة أفهمُ الأمة لمعاني القرآن، وقد فَهِم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلاف فَهْم هؤلاء، كما فَهِم ابن عباس من آية الاستثناء خلاف فَهْم أولئك، وفَهْم الصحابة في القرآن هو الغاية التي عليها المُعَوَّل.

وقد قال ابن مسعود: «ليأتينّ على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا»

(1)

.

وقال ابن جرير: حُدِّثتُ عن المُسيّب، عمن ذكره، عن ابن عباس:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] قال: أمر الله النار أن تأكلهم.

(1)

تقدم عزوه (2/ 303).

ص: 313

قال: وقال ابن مسعود فذكره

(1)

.

وقال: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال:«جهنم أسرع الدارَيْن عمرانًا، وأسرعهما خرابًا»

(2)

.

قلت: لا يدلُّ قوله: «أسرعهما خرابًا» على خراب الدار الأخرى، كما في قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، وقوله:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وقوله في الحديث:«الله أعلى وأجلّ»

(3)

.

وقوله: «أسرعهما عمرانًا» يحتمل معنيين:

أحدهما: مسارعة الناس إلى الأعمال التي يدخلون بها جهنم، وإبطاؤهم عن أعمال الدار الأخرى.

والثاني: أن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل الجنة إليها، فإن أهل الجنة إنما يدخلونها بعد عبورهم على الصراط، وبعد حبسهم على القنطرة التي وراءه، وأهل النار قد تبوَّؤوا منازلهم منها، فإنهم لا يَجُوزون على الصراط، ولا يُحْبسون على تلك القنطرة.

وأيضًا ففي الحديث الصحيح أنه لما ينادي المنادي: «لتتَّبِع كلُّ أمة ما كانت تعبد، فيتبع المشركون أوثانهم وآلهتهم، فتتساقط بهم في النار، وتبقى هذه الأمة في الموقف حتى يأتيها ربها عز وجل، ويقول: ألا تنطلقون حيث

(1)

«جامع البيان» (12/ 582).

(2)

«جامع البيان» (12/ 582).

(3)

جزء من حديث أخرجه البخاري (3039) من حديث البراء بن عازب.

ص: 314

انطلق الناس»

(1)

.

وقد ذكر الخطيب في «تاريخه»

(2)

في ترجمة سهل بن عبيد الله بن داود بن سليمان أبي نصر البخاري: حدثنا محمد بن نوح الجُنْدَيْسَابوري، حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الناقد، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الله بن مِسْعر بن كِدَام، عن جعفر، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد، تخفق أبوابها، كأنها أبواب الموحدين» ، وليس العمدة على هذا وحده؛ فإن إسناده ضعيف.

وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود قد تقدم

(3)

.

فصل

(4)

والذين قطعوا بأبدية النار وأنها لا تفنى لهم طرق:

أحدها: الآيات والأحاديث الدالة على خلودهم فيها، وأنهم لا يموتون، وما هم منها بمخرجين، وأن الموت يُذْبح بين الجنة والنار، وأن الكفار لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمّ الخِيَاط، وأمثال هذه النصوص، وهذه الطريق لا تدل على ما ذكروه، وإنما تدل على أنها ما دامت باقية فهم

(1)

قطعة من حديث اختصرها المؤلف، وهو عند البخاري (4581)، ومسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

(10/ 177)، وقد تقدم تخريجه وبيان وضعه (2/ 308).

(3)

انظر: (2/ 303).

(4)

انظر: «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» (71 - 79).

ص: 315

فيها، فأين فيها ما يدل على عدم فنائها؟

الطريق الثاني: دعوى الإجماع على ذلك، وقد ذكرنا من أقوال الصحابة والتابعين ما يدل على أن الأمر بخلاف ما قالوا، حتى لقد ادُّعِي إجماع الصحابة من هذا الجانب استنادًا إلى تلك النقول التي لا يُعْلم عنهم خلافُها.

الطريق الثالث: إنه كالمعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الجنة والنار لا تفنيان، بل هما باقيتان، ولهذا أنكر أهل السنة كلهم على أبي الهُذَيل وجَهْم وشيعتهما ممن قال بفناء الجنة والنار، وعدوا أقوالهم من أقوال أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذا من أقوال أهل البدع

(1)

التي خرجوا بها عن السنة.

ولكن من أين تصح دعوى العلم النظري أن النار باقية ببقاء الله، دائمة بدوامه؟ فضلًا عن العلم الضروري، فأين في الأدلة الشرعية أو العقلية دليل واحد يقتضي ذلك؟

الطريق الرابع: أن السنة المستفيضة أو المتواترة أخبرت بخروج أهل التوحيد من النار دون الكفار، وهذا معلوم من السنة قطعًا، وهذا الذي قالوه حق لا ريب فيه، ولكن أهل التوحيد خرجوا منها وهي باقية لم تفنَ ولم تعدم، والكفار لا يحصل لهم ذلك، بل هم باقون فيها ما بقيت.

الطريق الخامس: أن العقل يدل على خلود الكفار فيها، وعدم خروجهم منها، فإن نفوسهم غير قابلة للخير، فإنهم لو خرجوا منها لعادوا كفارًا كما كانوا، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:

(1)

من قوله: «المخالفة لما جاء» إلى هنا ساقط من «م» .

ص: 316

28]، وهذا يدل على غاية عُتُوِّهم وإصرارهم، وعدم قبول الخير فيهم بوجه من الوجوه، فلا تصلح نفوسهم الشرّيرة الخبيثة إلا للعذاب، ولو صلحت لصلحت على طول العذاب.

فحيث لم يؤثّر عذابهم تلك الأحقاب الطويلة في نفوسهم، ولم يطيّبها؛ عُلِم أنه لا قابلية فيهم للخير أصلًا، وأن أسباب العذاب لم تطفأ من نفوسهم، فلا يُطفَأ العذاب المترتب عليها.

وهذه الطريق وإن أُنْكِرت ببادئ الرأي فهي طريق قوية، وهي ترجع إلى طريق الحكمة، وأن الحكمة التي اقتضت دخولهم هي التي اقتضت خلودهم.

ولكن هذه الطريق مُحَرّم سلوكها على نفاة الحكمة، وعلى مثبتيها من المعتزلة والقدرية، أما النفاة فظاهر، وأما المثبتة فالحكمة عندهم أن عذابهم لمصلحتهم، وهذا إنما يصح إذا كان لهم حالتان: حالة يُعَذَّبون فيها لأجل مصلحتهم، وحالة يزول عنهم العذاب لتحصل لهم تلك المصلحة، وإلا فكيف تكون مصلحتهم في عذاب لا انقطاع له أبدًا؟!

وأما من يثبت حكمة راجعة إلى الرب تعالى، فيمكنهم سلوك هذه الطريق، لكن يقال: الحكمة لا تقتضي دوام عذابهم بدوام بقائه سبحانه، وهو لم يخبر بأنه خلقهم لذلك، وإنما يُعذّبون لغاية محمودة إذا حصلت حصل المقصود من عذابهم، وهو سبحانه لا يعذّب خلقه سُدى، وهو قادر على أن ينشئهم بعد العذاب الطويل نشأة أخرى مجرّدة عن تلك الشرور والخبائث التي كانت في نفوسهم، وقد أزالها طولُ العذاب، فإنهم خُلِقوا قابلين للخير على الفطرة، وهذا القبول لازم لخلقتهم، وبه أقرّوا بصانعهم وفاطرهم،

ص: 317

وإنما طرأ عليه ما أبطل مقتضاه، فإذا زال ذلك الطارئ بالعذاب الطويل بقي أصل القبول بلا معارض.

وأما قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فهذا قبل مباشرتهم للعذاب، قال تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27 - 28]، فتلك الخبائث والشرور قائمة بنفوسهم لم تُزِلها النار، فلو رُدّوا لعادوا؛ لقيام المُقتضِي للعَوْد، ولكن أين أخبر سبحانه أنه لو رَدّهم بعد العذاب الطويل السّرمد لعادوا لما نهوا عنه؟

وسر المسألة أن الفطرة الأصلية لابدّ أن تعمل عملها، كما عمل الطارئ عليها عمله، وهذه الفطرة عامة لجميع بني آدم، كما في «الصحيحين»

(1)

من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ــ وفي لفظ ــ على هذه الملة» .

وفي «صحيح مسلم»

(2)

من حديث عياض بن حمار المُجَاشِعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه قال:«وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا» .

فأخبر أن الأصل فيهم الحنيفية، وأنهم خُلِقوا عليها، وأن ضدّها عارض فيهم باقتطاع الشياطين لهم عنها، فمن الممتنع أن يَعْمل أثرُ اقتطاع الشياطين

(1)

تقدم تخريجه (1/ 103)، واللفظ المشار إليه عند مسلم (2658).

(2)

تقدم تخريجه (2/ 65).

ص: 318

عمَلَهُ ولا يَعْمل أثرُ خَلْق الرحمن جل جلاله عمَلَه، والكل خَلْقه سبحانه، فلا خالق سواه، ولكن ذاك خَلْق يحبه ويرضاه، ويضاف أثره إليه، وهذا خَلْق يبغضه ويسخطه، ولا يضاف أثره إليه؛ فإن الشر ليس إليه، والخير كله في يديه.

فإن قيل: فقد قال سبحانه: {(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وهذا يقتضي أنه لا قابلية فيهم، ولا خير عندهم البتّة، ولو كان عندهم خير لخرجوا به من النار مع الموحدين؛ فإنه سبحانه يُخْرِج مِن النار مَن في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من خير، فعُلِم أن هؤلاء ليس معهم هذا القدر اليسير من الخير.

قيل: الخير في هذا الحديث هو الإيمان بالله ورسله، كما في اللفظ الآخر:«أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان»

(1)

، وهو تصديقُ رسله والانقياد لهم بالقلب والجوارح.

وأما الخير في الآية فالمراد به: القبول والزكاة والنور ومعرفة قدر النعمة وشكر المنعِم عليها، فلو علم الله سبحانه ذلك فيهم لأسمعهم إسماعًا ينتفعون به؛ فإنهم قد سمعوا سماعًا تقوم به عليهم الحجة، فتلك القابلية ذهب أثرها، وتعطّلت بالكفر والجحود، وعادت كالشيء المعدوم الذي لا يُنْتَفع به، وإنما ظهر أثرها في قيام الحجة عليهم، ولم يظهر أثرها في انتفاعهم بما علموه وتيقنوه.

فإن قيل: فالغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا.

(1)

أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) من حديث أنس.

ص: 319

وقال نوح عليه السلام عن قومه: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27].

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي

(1)

مرفوعًا: «إن بني آدم خُلِقوا على طبقات شَتَّى، فمنهم من يولد مؤمنًا، ويحيى مؤمنًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيى كافرًا، ويموت كافرًا» الحديث.

قيل: هذا لا يناقض كونه مولودًا على الفطرة؛ فإنه طُبِع ووُلِد مقدَّرًا كفرُه إذا عقل، وإلا ففي حال ولادته لا يَعرف كفرًا ولا إيمانًا، فهي حال مقدَّرة لا مقارِنة للعامل، فهو مولود على الفطرة ومولود كافرًا باعتبارين صحيحين ثابتين له، هذا بالقبول وإيثار الإسلام لو خُلِّي، وهذا بالفعل والإرادة إذا عقل، فإذا جَمَعْتَ بين الفطرة السابقة، والرحمة السابغة الغالبة، والحكمة البالغة، والغنى التام، وقَرَنْتَ بين فطرته ورحمته، وحكمته وغناه= تبيّن لك الأمر.

الطريق السادس: قياس دار العدل على دار الفضل، وأن هذه كما أنها أبدية فالأخرى كذلك؛ لأن هذه توجب رحمته، وهذه توجب عدله، وعدله ورحمته من لوازم ذاته.

وهذه الطريق غير نافذة؛ فإنّ العدلَ حقُّهُ سبحانه، لا يجب عليه أن يستوفيه، ولا يلحقه بتركه نقصٌ ولا ذمٌّ بوجه من الوجوه، والفضلَ وعدُهُ الذي وَعَد

(1)

أحمد (11143)، والترمذي (2191) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي:«حسن صحيح» ، وفي إسناده علي بن جدعان ضعيف، وقد انفرد بهذا السياق، انظر:«السلسلة الضعيفة» (2927).

ص: 320

به عباده، وأحقّه على نفسه، والفرق بين الدارين من وجوه عديدة شرعًا وعقلًا

(1)

:

أحدها: أن الله سبحانه أخبر بأن نعيم الجنة ما له من نفاد، وأن عطاء أهلها غير مجذوذ، وأنه غير ممنون، ولم يجئ ذلك في عذاب أهل النار.

الثاني: أنه أخبر بما يدل على انتهاء عذاب أهل النار في عدة آيات، كما تقدم، ولم يخبر بما يدل على انتهاء نعيم أهل الجنة، ولهذا احتاج القائلون بالتأبيد الذي لا انقطاع له إلى تأويل تلك الآيات، ولم يجئ في نعيم أهل الجنة ما يحتاجون إلى تخصيصه بالتأويل.

الثالث: أن الأحاديث التي جاءت في انتهاء عذاب النار لم يجئ شيء منها في انتهاء نعيم الجنة.

الرابع: أن الصحابة والتابعين إنما ذكروا انقطاع العذاب، ولم يذكر أحد منهم انقطاع النعيم.

الخامس: أنه قد ثبت أن الله سبحانه يُدْخِل الجنة بلا عمل أصلًا، بخلاف النار.

السادس: أنه سبحانه يُنْشِئ في الجنة خلقًا ينعّمهم فيها، ولا يُنْشِئ في النار خلقًا يعذّبهم بها.

السابع: أن الجنة من مقتضى رحمته، والنار من مقتضى غضبه، وأن الذين يدخلون النار أضعاف أضعاف الذين يدخلون الجنة، فلو دام عذاب

ص: 321

هؤلاء كدوام نعيم هؤلاء لغلب غضبُهُ رحمتَه، فكان الغضب هو الغالب السابق، وهذا ممتنع.

الثامن: أن الجنة دار فضله، والنار دار عدله، وفضلُهُ يغلب عدلَه.

التاسع: أن النار دار استيفاء حقه الذي له، والجنة دار وفاء حقه الذي أحقّه هو على نفسه، وهو سبحانه يترك حقّه ولا يترك الحق الذي أحقّه على نفسه.

العاشر: أن الجنة هي الغاية التي خُلِقوا لها في الآخرة، وأعمالها هي الغاية التي خُلِقوا لها في الدنيا، بخلاف النار؛ فإنه سبحانه لم يخلق خلقه للكفر به والإشراك، وإنما خلقهم لعبادته، وليرحمهم.

الحادي عشر: أن النعيم من موجَب أسمائه وصفاته، والعذاب إنما هو من أفعاله، قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِيَ أَنِّيَ أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]، وقال:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ} [الأعراف: 167]، وقال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، وما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامه.

فإن قيل: فإنّ العذاب صادر عن عزّته وحكمته وعدله، وهذه أسماء حسنى وصفات كمال، فيدوم ما صدر عنها بدوامها.

قيل: لعَمرُ الله؛ إن العذاب صدر عن عزّة وحكمة وعدل، وانتهاؤه عند حصول المقصود منه يصدر عن عزّة وحكمة وعدل، فلم يَخرج العذاب ولا انقطاعه عن عزّته وحكمته وعدله، ولكن عند انتهائه تكون عزّة مقرونة

ص: 322

برحمة، وحكمة مقرونة بجود وإحسان وعفو وصفح، فالعزّة والحكمة لم تزولا ولم تنقصا، بل يصدر جميع ما خلقه ويخلقه، وأمر به ويأمر: عن عزّته وحكمته.

الثاني عشر: أن العذاب مقصود لغيره لا لنفسه، وأما الرحمة والإحسان والنعيم فمقصود لنفسه، فالنعيم والإحسان غاية، والعذاب والألم وسيلة، فكيف يُقاس

(1)

أحدُهما بالآخر؟

الثالث عشر: أنه سبحانه أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه كتب على نفسه الرحمة، فلابد أن تسع رحمتُه هؤلاء المعذَّبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمتُه، وهذا ظاهر جدًّا.

فإن قيل: فقد قال سبحانه عقيبها: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى آخر الآية [الأعراف: 156]، فخرج غيرهم منها لخروجهم من الوصف الذي تُسْتحق به.

قيل: الرحمة المكتوبة لهؤلاء هي غير الرحمة الواسعة لجميع الخلق، بل هي رحمة خاصة خصّهم بها دون غيرهم، وكتبها لهم دون من سواهم، وهم أهل الفلاح الذين لا يُعذَّبون، بل هم أهل الرحمة والفوز والنعيم، وذُكِرَ الخاصُّ بعد العام استطرادًا، وهو كثير في القرآن، بل قد يُسْتطرَد من الخاص إلى العام، كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ

(1)

«م» : «يقابل» .

ص: 323

آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189 - 190]، فهذا استطراد من ذِكْر الأبوين إلى ذِكْر الذرّية.

ومن الاستطراد قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ

(1)

وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، فالتي جُعِلتْ رجومًا ليست هي التي زُيِّنتْ بها السماء، ولكن استطرد من ذكر النوع إلى نوع آخر، وأعاد ضمير الثاني على الأول؛ لدخولهما تحت جنس واحد.

فهكذا قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]، فالمكتوب للذين يتقون نوع خاص من الرحمة الواسعة.

والمقصود أن الرحمة لابد أن تسع أهلَ النار، ولابد أن تنتهي حيث ينتهي العلم، كما قالت الملائكة:{كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ} [غافر: 7].

الرابع عشر: أنه قد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قول أولي العزم: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله»

(2)

، وهذا صريح في أن ذلك الغضب العظيم لا يدوم، ومعلوم أن أهل النار إنما دخلوها بذلك الغضب، فلو دام ذلك الغضب لدام عذابهم؛ إذ هو

(1)

«د» «م» : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ [الدُّنْيَا] بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، وهو سهو من المؤلف فيما يظهر جمع فيه بين آيتي الصافات والملك، بدلالة إشارته إلى عود الضمير الثاني، وهذا ينطبق على آية الملك فحسب.

(2)

تقدم تخريجه (2/ 263).

ص: 324

موجَب ذلك الغضب، فإذا رضي الرب تبارك وتعالى وزال ذلك الغضب زال موجَبه.

وهذا كما أن عقوبات الدنيا العامة وبلاؤها آثار غضبه، فإذا استمر غضبه استمر ذلك البلاء، فإذا رضي وزال غضبه زال البلاء، وخَلَفتْه الرحمة.

الخامس عشر: أنّ رضاه أحبُّ إليه من غضبه، وعفوَهُ أحبُّ إليه من عقوبته، ورحمتَهُ أحبُّ إليه من عذابه، وعطاءَهُ أحبُّ إليه من منعه، وإنما يقع الغضب والعقوبة والمنع بأسباب تناقض موجَب تلك الصفات والأسماء.

وهو سبحانه كما يحب أسماءه وصفاته فإنه يحب آثارها وموجبَها، كما في الحديث:«إنه وتر يحب الوتر»

(1)

، «جميل يحب الجمال»

(2)

، «نظيف يحب النظافة»

(3)

، «عفو يحب العفو»

(4)

، وهو شكور يحب الشاكرين، عليم يحب العالِمين، جواد يحب أهل الجود، حَيِيّ سِتِّير يحب أهل الحياء والستر، صبور يحب الصابرين، رحيم يحب الرحماء.

فهو يكره ما يضاد ذلك، ولذلك كره الكفر والفسوق والعصيان والظلم والجهل؛ لمضادة هذه الأوصاف لأوصاف كماله، فلا بدّ أن يكون المترتب

(1)

جزء من حديث أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة.

(2)

جزء من حديث أخرجه مسلم (91) من حديث عبد الله بن مسعود.

(3)

جزء من حديث أخرجه الترمذي (2799)، وأبو يعلى (790) من حديث سعد بن أبي وقاص، قال الترمذي:«هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس يُضعّف» ، وانظر:«الكامل» لابن عدي (4/ 239).

(4)

هو بهذا اللفظ عند أحمد (3977) وغيره بإسناد ليّن، ويشهد له حديث عائشة الصحيح في دعاء ليلة القدر عند الترمذي (3531) وغيره.

ص: 325

على هذه الأوصاف أكره إليه من الأثر الذي يترتب على الأوصاف

(1)

الموافقة لأسمائه وصفاته، ولكن يريده سبحانه لاستلزامه ما يحبه ويرضاه، فهو مراد له إرادة اللوازم المقصودة لغيرها، إذ هي مفضية إلى ما يُحب، فإذا حصل بها ما يحبّه، وأدت إلى الغاية المقصودة له سبحانه؛ لم تبق مقصودة لا لنفسها ولا لغيرها، فتزول وتخلفها أضدادها التي هي أحب إليه سبحانه منها، وهي موجَب أسمائه وصفاته.

فإن فهمتَ سرّ هذا الوجه وإلا فجاوزه إلى ما قبله، ولا تعجل بإنكاره.

هذا، وسرّ المسألة أنه سبحانه حكيم رحيم إنما يخلق بحكمة ورحمة، فإذا عَذّب من يعذبه بحكمة كان هذا جاريًا على مقتضاها، كما يوجد في الدنيا من العقوبات الشرعية والقدرية، إذ فيها

(2)

من التهذيب والتأديب والزجر والرحمة واللطف ما يزكّي النفوس ويطيبها ويمحّصها ويخلّصها من شرها وخبثها.

والنفوس الشريرة الظالمة التي لو رُدَّت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نُهِيت عنه لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والشرّ والظلم، فإذا عُذِّبت هذه النفوس بالنار عذابًا يخلّصها من ذلك الشر، ويُخرِج خبثها؛ كان هذا معقولًا في الحكمة، كما يوجد في عذاب الدنيا.

وخَلْق مَنْ فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة.

أما خَلْق نفوس شرّيرة لا يزول شرّها البتّة، وإنما خُلِقت للشر المحض،

(1)

من قوله: «فلابد أن يكون» إلى هنا ساقط من «د» .

(2)

«إذ فيها» من «م» .

ص: 326

وللعذاب السّرْمَد الدائم بدوام خالقها سبحانه= فهذا لا تظهر موافقته للحكمة والرحمة، وإن دخل تحت القدرة، فدخوله تحت الحكمة والرحمة ليس بالبيّن.

فهذا ما وصل إليه النظر في هذه المسألة التي تَكِع

(1)

فيها عقول العقلاء.

وكنت سألتُ عنها شيخ الإسلام ــ قدّس الله روحه ــ فقال لي: «هذه مسألة عظيمة كبيرة» ، ولم يُجِب فيها بشيء.

فمضى على ذلك زمن حتى رأيت في «تفسير عَبْد بن حُمَيد الكَشِّي» بعض تلك الآثار التي ذَكرْتُ، فأرسلتُ إليه الكتاب وهو في محبسه

(2)

الآخِر، وعلّمتُ على ذلك الموضع، وقلتُ للرسول: قل له: إن هذا الموضع يُشكل عليه، ولا يدري ما هو؟

فكتب فيها مصنَّفه المشهور رحمة الله عليه

(3)

.

فمن كان عنده فَضْل علم فلْيَجُدْ به، فإنّ فوق كل ذي علم عليم.

وأنا في هذه المسألة على قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه ذَكَر دخول أهلِ الجنةِ الجنةَ، وأهلِ النارِ النارَ، ووصف ذلك أحسن صفة، ثم قال:«ويفعل الله بعد ذلك في خلقه ما يشاء»

(4)

.

(1)

من كَعَّ عن الشيء إذا ارتد عنه هيبة، كما في «جمهرة اللغة» (1/ 156)، ورسمت في «م»:«بلغ» بإهمال أوله.

(2)

«د» : «مجلسه» تحريف.

(3)

وهي الرسالة المعنونة بـ «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» والله أعلم.

(4)

لم أقف عليه، وقد أورده المؤلف في «الصواعق - مختصره» (663)، و «حادي الأرواح» (2/ 791).

ص: 327

وعلى مذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: «لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا» ، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى:{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128]

(1)

.

وعلى مذهب أبي سعيد الخدري، حيث يقول:«انتهى القرآن كله إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]»

(2)

.

وعلى مذهب قتادة حيث يقول في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} : «الله أعلم بثَنِيّته

(3)

على ما وقعت»

(4)

.

وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول: «أخبَرَنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار»

(5)

.

والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله عز وجل بما يفعله، فإن لم يكن مطابقًا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولًا عليه بغير علم، والنصوص لا تُفْهِم ذلك، والله أعلم.

(1)

تقدم تخريجه (2/ 311).

(2)

تقدم تخريجه بنحوه (2/ 303).

(3)

الثَنِيّة والثُّنْيا بمعنى: ما استثنيته من الشيء، كما في «المحكم» (10/ 200).

وتحرّفت في «م» إلى: «بمشيئته» ، وفي «ط»:«بتبيّنه» .

(4)

أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (1250)، وابن جرير (12/ 579)، وابن أبي حاتم (11237).

(5)

أخرجه ابن جرير (12/ 583).

ص: 328

فصل

وههنا مذاهب أخرى باطلة:

منها قول من قال: إنهم يعذَّبون في النار مدة لُبْثهم في الدنيا.

وقول من قال: إنها تنقلب عليهم طبيعة نارية يلتذّون بها، كما يلتذّ صاحب الجَرَب بالحكّ.

وقول من يقول: إنها تفنى هي والجنة جميعًا، وتعودان عدمًا محضًا.

وقول من يقول: تفنى حركاتهما، ويبقى أهلهما

(1)

في سكون دائم.

ولم يوفَّق للصواب في هذا الباب غير الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ ومَن سلك سبيلهم، وبالله التوفيق.

فصل

فإن قيل: فما الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين، وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة، كما قال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقال:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وبعْثُ النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وواحد إلى الجنة؟

(1)

«د» : «تفنى حركاتها، ويبقى أهلها» على الإفراد، والمثبت من «م» موافق لما ذكره المؤلف في «حادي الأرواح» (2/ 733) من أن أبا الهذيل العلاف كان يرى ذلك في الجنة والنار طردًا لامتناع حوادث لا نهاية لها.

ص: 329

وكيف نشأ هذا عن الرحمة الواسعة الغالبة، وعن الحكمة البالغة، وهلّا كان الأمر بالضدّ من ذلك؟!

قيل: هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة، وأنّ الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وسبقت الغضب وغلبته، وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية.

ثم نقول: المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني، كما في «المسند» و «الترمذي»

(1)

عنه صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خَلَق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فكان منهم الخبيث والطيب، والسَّهْل والحَزْن، وغير ذلك» ، فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم.

ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحبّ والبغض ولوازمها، وابتلاه بعدوّه الذي لا يألوه خبالًا، ولا يغفل عنه، ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا، وبالهوى الذي أُمِر بمخالفته، هذا على ضعفه وحاجته، وزَيّن له حُبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المُقَنْطرة من الذهب والفضة والخيل المُسَوَّمة والأنعام والحرث، وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدَة إلى دار أخرى، غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها.

وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد، وأنْ يذهب الناس كلهم مع مَيْل الطبع، وداعي الغضب والشهوة، فلم يَحُل بينهم

(1)

تقدم تخريجه (2/ 246).

ص: 330

وبين ذلك خالقُهم وفاطرُهم، بل أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه، ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم، فلم تَقْوَ عقولُ الأكثرين على إيثار الآجل المنتظَر بعد زوال الدنيا على هذا الحاضر العاجل المشاهَد.

وقالوا: كيف يباع نقد حاضر ــ وهو قَبْض باليد ــ بنسيئة مؤخَّرة وُعِدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم؟

ولسان حال أكثرهم يقول:

خُذ ما تراه ودع شيئًا سمعتَ به

(1)

فساعدَ التوفيقُ الإلهي مَنْ عَلِم أنه يصلح لمواقع فضله، فأمدّه بقوة إيمان وبصيرة، رأى في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها، وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، ورأى حقيقةَ الدنيا وسرعةَ انقضائها وقلّةَ وفائها وظلمَ شركائها، وأنها كما وصفها الله تعالى لعبٌ ولهو وزينة، وتفاخر بين أهلها، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنها كغيث أعجب الكفارَ نباتُه، ثم يهيج فتراه مصفرًّا، ثم يكون حطامًا.

فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها، لا نألف غيرها، وحَكَمت العاداتُ، وقَهَر سلطانُ الهوى، وساعده داعي النفوس، وتقاضاه موجِب الطباع، وغلب الحسُّ على العقل، وكانت الدولة له، والناس على دين الملك.

ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب كلها، ويقطع هذه العلائق،

(1)

تقدمت نسبته (2/ 77).

ص: 331

ويخالف العوائد، ولا يستجيب لداعي الطبع، ويعصي سلطان الهوى= لا يكون إلا الأقل.

ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية؛ لخفة النار وطيشها، وكثرة تقلّبها، وسرعة حركتها، وعدم ثباتها، وأما المادة المَلَكية فبريئة من ذلك، فلذلك كان المخلوق منها خيرًا كله، فالعقلاء المخاطَبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث.

واقتضت الحكمة أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة، ولو كانوا على غير ذلك لم يحصل مقصود الامتحان والابتلاء، وتنوّع العبودية، وظهور آثار الأسماء والصفات، فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجَلّ أنواع العبودية، وفات الكمال المترتّب على ذلك، فلا أحسن مما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد.

ثم إنه سبحانه يُخَلّص ما في المخلوق من تَيْنك المادّتين من الخَبَث والشر، ويمحّصه ويستخرج طَيّبه إلى دار الطيبين، ويلقي خبيثه حيث تُلْقَى الخبائث والأوساخ، وهذا غاية الحكمة، كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفَع بها من الذهب والفضة والحديد والصُّفْر، فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبيثها، والناس زَرْع الأرض، والجزء الصافي من الزرع بعد زُوَانِه وقَصْله وعَصْفه وتِبْنه

(1)

أقل من بقية الأجزاء؛ وتلك

(1)

الزُوَان والقَصْل والعَصْف والتِبْن: ما يُرمى من القشور والعوالق ونحوها عند نَخْل الحبوب بالغِرْبال، وهي من رديء الطعام، على فروق بينها تنظر في المظان، كـ «المخصص» (3/ 181، 184 - 185).

ص: 332