الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الباب يتصل
(1)
بـ
الباب الثاني والعشرون
في إثبات حكمة الربِّ تعالى في خَلْقه وأَمْره، وذِكْر الغايات المطلوبة له بذلك، والعواقب الحميدة التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها
فنقول: قد دلت أدلة العقول الصحيحة والفِطَر السليمة على ما دلَّ عليه القرآن والسنة
(2)
؛ أنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دلّ كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها، فنذكر بعض أنواعها:
النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منه، كقوله:{فَمَا تُغْنِ} [القمر: 5]، وقوله:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وقوله:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح، وسُمّي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلّقيهما، وأوصلا إلى غايتيهما.
(1)
«م» : «يبطل» .
(2)
من قوله: «وهذا الباب» إلى هنا ساقط من «ج» و «ط» ، وفي موضعه:«فصل الأصل الخامس» !، ومن هنا وقع الخلط في تعداد أبواب الكتاب الآتية.
ولذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلًا إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة، فيكون مرشدًا إلى العلم النافع والعمل الصالح، فتحصل الغاية المطلوبة، فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هُداهم، ولا إيصالهم إلى سعادتهم، ودلالتهم على أسبابها وتوابعها، ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة، ولا تكلَّم لأجلها، ولا أَرسل الرسلَ وأَنزل الكتبَ لأجلها، ولا نَصب الثوابَ والعقابَ لأجلها= لم يكن حكيمًا، ولا كلامه حكمة، فضلًا عن أن تكون بالغة.
النوع الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا، وأنه أمر بكذا لكذا، كقوله:{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، وقوله:{(11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقال:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وقوله:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله:{أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا} [النساء: 105]، وقوله:{أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ} [الحديد: 29]، وقوله:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، وقوله:{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 27 - 28] أي: ليتمكنوا بهذا الحفظ والرصد من تبليغ
رسالاته، فيعلم الله بذلك واقعًا، وقوله: {وَيُنزِلُ عَلَيْكُمْ
(1)
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، وقوله:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8]، وقوله:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126]، وقوله:{لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، وقوله:{(30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المدثر: 31]، وقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقوله:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]، وقوله:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسْلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]، وقوله:{(74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ} [الأنعام: 75]، وقوله:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، وهذا في القرآن كثير جدًّا.
فإن قيل: اللام في هذا كله لام العاقبة، كقوله:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
(1)
{عَلَيْكُمْ} ساقطة من الأصول ..
بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، وقوله:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]، وقوله:{مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، وقوله:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113]، فإنّ ما بعد اللام في هذا ليس
(1)
هو الغاية المطلوبة، ولكن لما كان الفعل منتهيًا إليه، وكان عاقبة الفعل؛ دخلت عليه لامُ التعليل، وهي في الحقيقة لام العاقبة.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن لام العاقبة إنما تكون في حق من هو جاهل بالعاقبة، أو عاجز عن دفعها، فالأول كقوله:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، والثاني كقول الشاعر:
لِدُوا للموت، وابنُوا للخرابِ
…
فكلكمُ يصير إلى ذهابِ
(2)
وأما مَن هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، فيستحيل في حقه دخول هذه اللام، وإنما اللام الواردة في أفعاله وأحكامه لام الحكمة والغاية المطلوبة.
الجواب الثاني: إفراد كل موضع من تلك المواضع بالجواب.
(1)
«ليس» ساقط من «د» .
(2)
البيت في «ديوان أبي العتاهية» (33) تحقيق شكري، وهو أيضًا في «ديوان أبي نواس» (1/ 410) تحقيق فاغنر، وصدره عجز بيت منسوب لعلي بن أبي طالب كما في «الديوان» (46) المنسوب إليه، و «خزانة الأدب» (9/ 530).
أما قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} فهو تعليل لقضاء الله سبحانه بالتقاطه، وتقديره له؛ فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره، فهو سبحانه قدّر ذلك وقضى به؛ ليكون لهم عدوًّا وحزنًا، وذكَرَ فعلهم دون قضائه؛ لأنه أبلغ في كونه حَزَنًا لهم وحسرة عليهم؛ فإن من اختار أخْذ ما يكون هلاكه على يديه إذا أصيب به كان أعظم لحزنه وغمّه وحسرته من أن لا يكون له فيه صنع ولا اختيار، فإنه سبحانه أراد أن يظهر لفرعون وقومه ولغيرهم من خلقه كمال قدرته وعلمه وحكمته الباهرة، وأن هذا الذي يذبح فرعونُ الأبناءَ في طلبه؛ هو الذي يتولّى تربيته في حِجْره وبيته باختياره وإرادته، ويكون في قبضته وتحت تصرّفه، فذِكْر فِعْلهم به في هذا أبلغ وأعجب من أن يذكر القضاء والقدر، وقد أعلمنا الله سبحانه أن أفعال عباده كلها واقعة بقضائه وقدره.
وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، فلا ريب أن هذا تعليل لفعله المذكور، وهو امتحان بعض خلقه ببعض، كما امتحن السادات والأشراف بالعبيد والضعفاء والموالي، فإذا نظر الشريف والسيد إلى العبد والضعيف والمسكين قد أسلم أَنِفَ وحمي أن يسلم معه أو بعده، ويقول: أهذا يسبقني إلى الخير والفلاح وأتخلّف أنا؟! فلو كان ذلك خيرًا وسعادة ما سبقنا هؤلاء إليه. فهذا القول منهم هو بعض الحِكَم والغاية المطلوبة بهذا الامتحان؛ فإن هذا القول دالٌّ على إباء واستكبار، وترْكِ الانقياد للحق بعد المعرفة التامة به.
وهذا وإن كان علّة فهو مطلوب لغيره، والعلل الغائية تارة تُطلب لنفسها، وتارة تُطلب لغيرها، فتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه، وقول هؤلاء
ما قالوه
(1)
وما يترتب على هذا القول موجبٌ لآثارٍ مطلوبةٍ للفاعل من إظهار عدله وحكمته وعزّه وقهره وسلطانه، وعطائه مَن يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده، ومنعه من يستحق المنع ولا يليق به غيره، ولهذا قال تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] الذين يعرفون قدر النعمة، ويشكرون المنعم عليهم بها، فيَمُنّ عليهم مِن بين مَن لا يعرفها ولا يشكر ربه عليها، فكانت فتنة بعضهم ببعض سببًا لحصول هذا التمييز الذي ترتب عليه شكْر هؤلاء وكفْر هؤلاء.
فصل
وأما قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53]، فهي على بابها، وهي لام الحكمة والتعليل، أخبر الله سبحانه أنه جعل ما ألقاه الشيطان في أُمْنِيّة الرسول محنة واختبارًا لعباده، فافتتن به فريقان: وهم الذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وعلم المؤمنون أن القرآن والرسول حق، وأن إلقاء الشيطان باطل، فآمنوا بذلك فأخبتت له قلوبهم، فهذه غاية مطلوبة مقصودة بهذا القضاء والقدر.
فالله سبحانه جعل القلوب على ثلاثة أقسام: مريضة وقاسية ومُخْبِتة، وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافًا وإذعانًا، أو لا تكون كذلك.
فالأول: حال القلوب القاسية الحجرية
(2)
، التي لا تقبل ما يُكتَب
(1)
«ما» هنا موصولة، ووقع في «ج»:«ما قالوا» .
(2)
«م» : «المحجوبة» .
فيها
(1)
، ولا ينطبع فيها الحق، ولا ترتسم فيها العلوم النافعة، ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة.
وأما النوع الثاني: فلا يخلو إما أن يكون الحق ثابتًا فيه ولا يزول عنه؛ لقوته مع لينه، أو يكون لينه مع ضعف وانحلال، والثاني هو القلب المريض، والأول هو الصحيح المُخْبِت، وهو الذي جمع الصلابة والصفاء واللين، فيبصر الحق بصفائه، ويشتد فيه بصلابته، ويرحم الخلق بلينه، كما في أثر مروي:«القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها»
(2)
، كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم، واشتدوا على الكفار بصلابتها، وتراحموا فيما بينهم بلينها.
وذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن، وهو أشرف أعضائه، وملكها المطاع، وكل عضو كاليد مثلًا إما أن تكون جامدة يابسة، لا تلتوي ولا تبطش، أو تبطش بعنف، فذلك مثل القلب القاسي، أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة؛ لضعفها ومرضها، فذلك مثل الذي فيه مرض، أو تكون باطشة بقوة ولين، فذلك مثل القلب العليم الرحيم، فبالعلم خرج عن المرض الذي
(3)
ينشأ من الشهوة والشبهة، وبالرحمة خرج عن القسوة، ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب القلوب المريضة والقاسية بالعلم والإيمان والإخبات.
(1)
قراءة محتملة من «د» «ج» ، وفي «م»:«ما يَلْبث فيها» مجوّدة.
(2)
تقدم تخريجه في (1/ 347).
(3)
«الذي» من «ج» .
فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه القلوب، وهم كل الأمة، فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم، كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون
(1)
: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وكلا الموضعين موضع شبهة، فكان حظهم منه الإيمان، وحظ أرباب القلوب
(2)
المنحرفة عن الصحة الافتتان.
ولهذا جعل سبحانه إحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات، فالإحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك، ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك، والنسخ ههنا رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرعه الربّ سبحانه.
وللنسخ معنى آخر، وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يُرِدْه، ولا دلّ اللفظ عليه، وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة رضي الله عنهم النسخ على قوله:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِر لِّمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ}
(3)
[البقرة: 284]، قالوا: نسخها قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية [البقرة: 286]، فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت؛ فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضًا، ولهذا عمهم بالمحاسبة، ثم أخبر أنه بعدها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ففَهْم المؤاخذة التي هي المعاقبة
(4)
من الآية تحميل لها
(1)
«د» : «أنهم يقولون في المتشابه» .
(2)
«د» : «العلوم» .
(3)
{وَيُعَذِّب مَّن يَشَاءُ} من «م» .
(4)
«د» «م» : «العاقبة» ، والصواب من «ج» .
فوق وسعها. فرَفَع هذا المعنى مِن فهم مَن فهمه بقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخرها.
فهذا رفْعٌ لفهمِ غير المراد من إلقاء المَلَك، وذاك رفعٌ لما ألقاه غير المَلَك في أسماعهم، أو في التمني.
وللنسخ معنى ثالث عند الصحابة والتابعين، وهو ترك الظاهر إما بتخصيص عام، وإما بتقييد مطلق، وهذا كثير في كلامهم جدًّا.
وله معنى رابع، وهو الذي يعرفه المتأخرون، وعليه اصطلحوا، وهو رفع الحكم بجملته بعد ثبوته بدليل رافع له، فهذه أربعة معان للنسخ.
والإحكام له ثلاثة معانٍ
(1)
:
أحدها: الإحكام الذي في مقابلة المتشابه، كقوله تعالى:{ا مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: (7)].
الثاني: الإحكام في مقابلة نسخ ما يلقي الشيطان، كقوله:{ا فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52]، وهذا الإحكام يعمُّ جميع آياته، وهو إثباتها وتقريرها وبيانها، ومنه قوله:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1].
الثالث: إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة، كما يقوله السلف كثيرًا: هذه الآية محكمة غير منسوخة.
(1)
«د» «م» : «ثلاث معان» ، والمثبت من «ج» .
وذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل، فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان في أُمنِية المبلِّغ، أو في سمع المبلَّغ، فالمُحْكَم ههنا هو المنزّل من عند الله، أحكمه الله: أي فصّله من اشتباهه بغير المنزّل، وفصّل منه ما ليس منه بإبطاله، وتارة يكون في إبقاء المنزّل واستمراره، فلا يُنسخ بعد ثبوته، وتارة يكون في معنى المنزّل وتأويله، وهو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى لا يشتبه به.
والمقصود أن قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53]، هي لام التعليل على بابها، وهذا الاختبار والامتحان مُظْهِر لمختلف القلوب الثلاثة، فالقاسية والمريضة ظهر خِبْؤها من الشك والكفر، والمُخْبِتة ظهر خِبْؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته، وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه، وهذا من أعظم حِكَم هذا الإلقاء.
فصل
وأما اللام في قوله: {مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، فلام التعليل على بابها، فإنها مذكورة في بيان حكمته في جمع أوليائه وأعدائه على غير ميعاد، ونصرة أوليائه مع قلتهم ورقّتهم وضعف عَددهم وعُدَدهم على أصحاب الشوكة والعَدد والحدّ والحديد، الذين لا يَتوهّم بشرٌ أنهم يُنصرون عليهم، فكانت تلك آية من أعظم آيات الربّ تعالى، صَدّق بها رسولَه وكتابَه، ليهلك بعدها من اختار لنفسه الكفر والعناد عن بَيّنة، فلا يكون له على الله حجة، ويحيى من حَيّ بالإيمان بالله ورسوله عن بَيّنة، فلا يبقى عنده شك ولا ريب، وهذا من أعظم الحِكَم.
ونظير هذا قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70].
فصل
وأما اللام في قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآية [الأنعام: 113]، فهي على بابها للتعليل، فإنها إن كانت تعليلًا لفعل العدو ـ وهو إيحاء بعضهم إلى بعض ـ فظاهر، وعلى هذا فيكون عطفًا على قوله:{غُرُورًا} ، فإنه مفعول لأجله، أي: ليغروهم بهذا الوحي، ولتصغى إليه أفئدة مَن يُلقى إليه فيرضاه ويعمل بموجبه، فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء المذكور، وهو أربعة أمور: غرور من يوحون إليه، وإصغاء أفئدتهم إليهم، ومحبتهم لذلك، وانفعالهم عنه بالاقتراف
(1)
.
وإن كان ذلك تعليلًا لجَعْله سبحانه لكل نبي عدوًّا فتكون هذه الحِكَم
(2)
من جملة الغايات والحِكَم المطلوبة له بهذا الجَعْل، وهي غايات وحِكَم مقصودة لغيرها؛ لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للربّ تعالى، وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها.
وعلى التقديرين فاللام لام التعليل والحكمة.
فصل
النوع الثالث: الإتيان بـ «كي» الصريحة في التعليل، كقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، فعلّل سبحانه قسمة الفيء بين هذه الأصناف كي لا يتداوله الأغنياء دون الفقراء، والأقوياء دون الضعفاء.
وقوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا أَتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23]، فأخبر سبحانه أنه قدّر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن يبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع، وهو الأحسن، ثم أخبر أنّ مصدر ذلك قدرتُه عليه، وأنه يسيرٌ عليه، وحكمتُه
(1)
البالغة التي منها أن لا يَحزن عباده على ما فاتهم، ولا يفرحوا بما آتاهم، فإنهم إذا علموا أن المصيبة فيه مقدّرة كائنة
(2)
ولا بدّ، وقد كُتِبت قبل خلقهم؛ هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه، ولم يفرحوا بالحاصل؛ لعلمهم أن المصيبة مقدّرة في كل ما على الأرض، فكيف يُفرَح بشيء قد قُدِّرت المصيبةُ فيه قبل خلقه.
ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب، أو خوف فواته، أو حصول مكروه، أو خوفه= نبَّه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله، وعلى فواته حيث لم يحصل، ونبَّه بعدم الفرح به إذا وُجِد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها، وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع،
(1)
«د» : «وأنه ميسر [محتملة] عليه حكمته» ، وفي «م»:«هيّن» بدل «يسير» ، والمثبت من «ج» .
(2)
«د» : «بقدره كائنة» .
وهذه هي أنواع المصائب، فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدّرة، وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ هانت عليه، وخفّ حملها، وأنزلها منزلة الحر والبرد.
فصل
النوع الرابع: ذِكْر المفعول له، وهو علة للفعل المعلَّل به، كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
(1)
الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، ونَصْبُ ذلك على المفعول له أحسن من غيره، كما صرح به في قوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وفي قوله:{وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ} [البقرة: 150]، فإتمام النعمة هو الرحمة.
وقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 208 - 209]، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]، أي لأجل الذكر، كما قال:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقوله:{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5 - 6] أي للإعذار والإنذار. وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154].
فهذا كله مفعول لأجله.
وقوله: {إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32]، والمتاع واقع موقع التَّمْتِيع، كما يقع السلام موقع التسليم،
(1)
«د» «م» : «وأنزلنا إليك» .
والعطاء موقع
(1)
الإعطاء.
وأما قوله تعالى: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24]، فيحتمل أن يكون من ذلك، أي: إخافةً لكم وإطماعًا، وهو أحسن.
ويحتمل أن يكون معمولَ فعلٍ محذوف
(2)
، أي: فيرونهما
(3)
خوفًا وطمعًا، فيكونان حالًا.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ
(4)
يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] إلى قوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] أي لأجل التبصرة والذكرى، والفرق بينهما: أن التبصرة توجب العلم والمعرفة، والذكرى توجب الإنابة والانقياد، وبهما تتم الهداية.
فصل
النوع الخامس: الإتيان بأنْ والفعلِ المستقبل بعدها تعليلًا لما قبله، كقوله:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]، وقوله:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا} [الزمر: 56]، وقوله:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذْكِرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ونظائره.
وفي ذلك طريقان
(5)
:
(1)
«د» : «موضع» .
(2)
«م» : «مفعول فعل محذوف» .
(3)
كذا في الأصول، والأشبه بالسياق:«فيرونه» أي البرق.
(4)
في جميع الأصول: «أولم» .
(5)
انظر: «البحر المحيط» (4/ 695 - 696).
أحدهما للكوفيين: والمعنى: لئلا تقولوا، ولئلا تقول نفس.
والثاني للبصريين: أن المفعول له محذوف، أي: كراهةَ أن تقولوا، أو حِذارَ أن تقولوا.
فإن قيل: فكيف يستقيم الطريقان في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، فإنك إن قدَّرتَ:«لئلا تضل إحداهما» لم يستقم العطف «فتذكر إحداهما» عليه، وإن قدَّرتَ:«حِذارَ أن تضل إحداهما» لم يستقم العطف
(1)
أيضًا، وإن قدَّرتَ:«إرادةَ أن تضل» لم تصح أيضًا؟
قيل: هذا من الكلام الذي ظهور معناه مزيل للإشكال، فإن المقصود إذكار
(2)
إحداهما للأخرى إذا ضلت ونسيت، فلما كان الضلال سببًا للإذكار جُعِل موضع العلة، كما تقول: أعددتُ هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه بها، فإنما أعددتَها للدعم لا للميل، وأعددتُ هذا الدواء أن أمرض فأتداوى به، ونحوه.
هذا قول سيبويه والبصريين.
وقال أهل الكوفة: تقديره: كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت «أن» .
(3)
.
(1)
من قوله: «فتذكر إحداهما» إلى هنا ساقط من «د» .
(2)
فوقها في «د» : «تذكير» .
(3)
«معاني القرآن» (1/ 184) بتصرف.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا يَقُولُوا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) يَقُولُوا تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 - 173]، فذكَر سبحانه من حِكَم أخذ الميثاق عليهم أن لا يحتجوا يوم القيامة بغفلتهم عن هذا الأمر، ولا بتقليد الأسلاف.
ومنه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70]، فالضمير في «به» للقرآن و «أن تُبْسَل» في محلّ نصب على أنه مفعول له، أي: حِذارَ أن تسلم نفس إلى الهلكة والعذاب، وترتهن بسوء عملها.
فصل
النوع السادس: ذِكْر ما هو من صرائح التعليل، وهو:«من أجل» ، كقوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وقد ظنت طائفة أن قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} تعليل لقوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ} [المائدة: 31]، أي: من أجل قتله لأخيه، وهذا ليس بشيء؛ لأنه يشوّش صحةَ النظم، وتقلُّ الفائدةُ بذكره، ويذهبُ شأنُ التعليل بذلك للكتابة
(1)
المذكورة، وتعظيم شأن القتل، حين
(2)
جُعل علة لهذه الكتابة،
(1)
«د» «م» : «الكتابة» ، والمثبت من «ج» أقرب للمعنى.
(2)
«د» «م» : «حتى» ، والمثبت من «ج» ، والفقرة قلقة، وفي «البسيط» (7/ 347) عن ابن الأنباري:«مَنْ جعله مِنْ صلة الندم أسقط العلة للكتابة، ومَنْ جعله مِنْ صلة الكتابة لا يسقط معنى الندم؛ إذ قد تقدم ما كشف سببه، فكان هذا أولى» ، وهو بنحوه في «الإيضاح» لابن الأنباري (2/ 617 - 618).
فتأمله.
فإن قلت: كيف يكون قتلُ أحد ابني آدم للآخر علةً لحكمه على أمة أخرى بذلك الحكم؟ وإذا كان علة فكيف كان قاتل نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلهم؟
قلت: الربّ تعالى يجعل أقضيته وأقداره عللًا وأسبابًا لشرعه وأمره، فجَعَل حكمه الكوني القدري علةً لحكمه الديني الأمري، وذلك أن القتل عنده لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد فَخّم أمره وعَظّم شأنه، وجعل إثمه أعظم من إثم غيره، ونَزّل قاتلَ النفس الواحدة منزلةَ قاتل الأنفس كلها
(1)
.
ولا يلزم من التشبيه أن يكون المشبَّه بمنزلة المشبَّه به من كل الوجوه، فإذا كان قاتل الأنفس كلّها يصلى النار، وقاتل النفس الواحدة يصلاها؛ صَحّ تشبيهه به. كما يأثم من شرب قطرة واحدة من الخمر، ومَن شرب عدة قناطير، وإن اختلف مقدار الإثم. وكذلك من زنى مرة واحدة، وآخر زنا مرارًا كثيرة كلاهما آثم وإن اختلف قدر الإثم.
وهذا معنى قول مجاهد: «من قتل نفسًا محرّمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها من قتل الناس جميعًا»
(2)
.
وعلى هذا فالتشبيه في أصل العذاب لا في وصفه، وإن شئت قلت:
(1)
هذه الفقرة وسابقتها اقتبسها الزركشي في «البرهان» (3/ 98 - 99).
(2)
أسنده بنحوه في «جامع البيان» (8/ 352).
التشبيه في أصل العقوبة الدنيوية وقدرها، فإنها لا تختلف بقلة القتل وكثرته، كما لو شرب قطرة، فإنّ حَدّه حَدّ من شرب راوية، ومن زنى بامرأة واحدة حَدّه حَدّ من زنى بألف، وهذا تأويل الحسن وابن زيد، قالا:«يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعًا»
(1)
.
ولك أن تجعل التشبيه في الأذى والغم الواصل إلى المؤمنين بقتل الواحد منهم، فقد جعلهم كلهم خصماءه، وأوصل إليهم من الأذى والغم ما يشبه القتل
(2)
، وهذا تأويل ابن الأنباري، وفي الآية تأويلات أخر
(3)
.
فصل
النوع السابع: التعليل بلعل، وهي في كلام الله سبحانه للتعليل مجردة من معنى الترجّي، فإنها إنما يقارنها معنى الترجّي إذا كانت من المخلوق، وأما في حق من لا يصح عليه الترجّي فهي للتعليل المحض، كقوله:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فقيل هو تعليل لقوله:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وقيل تعليل لقوله: {خَلَقَكُمْ} ، والصواب أنه تعليل للأمرين: لشرعه وخلقه.
ومنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقوله:{تَذَكَّرُونَ تَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 57]،
(1)
انظر: «البسيط» (7/ 348 - 349).
(2)
من قوله: «فقد جعلهم» إلى هنا ساقط من «م» .
(3)
انظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 169)، «البسيط» (7/ 349).
{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فـ «لعل» في هذا كله قد أُخلِصت للتعليل، والرجاء الذي جاء فيها متعلّق بالمخاطبين.
فصل
النوع الثامن: ذِكْر الحُكم الكوني أو الشرعي عقيب الوصف المناسب له، فتارة يُذكر بـ «إنّ» ، وتارة يُقرن بالفاء، وتارة يُذكر مجرّدًا.
فالأول كقوله: {وَزَكَرِيَّاءَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89 - 90]، وقوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16]، وقوله:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلِصِينَ} [يوسف: 24]، وقوله:{تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ} [الأعراف: 170].
والثاني كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
والثالث كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 277]، وهذا في التنزيل يزيد على عدة آلاف موضع، بل القرآن مملوء منه.
فإن قيل: هذا إنما يفيد كون تلك الأفعال أسبابًا لما رُتِّب عليها، لا تقتضي إثبات التعليل في فعل الرب وأمره، فأين هذا من هذا؟
قيل: لمّا جعل الرب سبحانه هذه الأوصاف عللًا لهذه الأحكام، وأسبابًا لها؛ دل ذلك على أنه حَكَم بها شرعًا وقدرًا لأجل تلك الأوصاف، وأنه لم يحكم بها لغير علة ولا حكمة.
ولهذا كان كل مَن نفى التعليل والحِكَم نفى الأسباب، ولم يجعل لحُكْم الرب الكوني والديني سببًا ولا حكمة هي العلّة الغائية
(1)
، فهؤلاء ينفون الأسباب والحِكَم.
ومن تأمل شرعَ الربّ تعالى وقدرَه وجزاءه جزَمَ جزمًا ضروريًا ببطلان قول النفاة، والله تعالى قد رتّبَ الأحكام على أسبابها وعللها، وبيّن ذلك خبرًا وحسًّا وفطرة وعقلًا، ولو ذكرنا ذلك على التفصيل لقام منه عدّة أسفار.
فصل
النوع التاسع: تعليله سبحانه عدم الحُكْم القدري أو الشرعي بوجود المانع منه، كقوله:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية [الزخرف: 33]، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقوله:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، أي: آيات الاقتراح، لا الآيات الدالة على صدق الرسل التي يقيمها هو
(1)
«د» : «الحكمة الغائية» ، وطمست في «م» ، والصواب من «ج» .
سبحانه ابتداء، وقوله:{(43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آاعْجَمِيٌّ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، وقوله:{مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9]، فأخبر سبحانه عن المانع الذي منع من إنزال المَلَك عيانًا بحيث يشاهدونه، وأن حكمته وعنايته بخلقه منعت من ذلك؛ فإنه لو أنزل المَلَك ثم عاينوه ولم يؤمنوا لعُوجِلوا بالعقوبة ولم يُنظَروا.
وأيضًا فإنه جعل الرسول بشرًا ليمْكنهم التلقّي عنه والرجوع إليه، ولو جعله مَلَكًا فإما أن يدعه على هيئة الملائكة، أو يجعله على هيئة البشر. والأول يمنعهم من التلقّي عنه، والثاني لا يُحصِّل مقصودَهم؛ إذ كانوا يقولون: هو بشر، لا مَلَك!
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذ جَّاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94 - 95]، فأخبر سبحانه عن المانع من إنزال الملائكة، وهو أنه لم يجعل الأرض مسكنًا لهم، ولا يستقرون فيها مطمئنين، بل يكون نزولهم لتنفيذ أوامر الربّ، ثم يعرجون إليه.
ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، فأخبر سبحانه عن حكمته في الامتناع من إرسال رسله بآيات الاقتراح والتشهّي، وهي أنها لا توجب الإيمان، فقد سألها الأولون فلمّا أوتوها كذبوا بها فأهلكوا، فليس لهم مصلحة في الإرسال بها، بل حكمته تعالى تأبى ذلك كل الإباء.
ثم نبّهَ على ما أصاب ثمود من ذلك بأنهم اقترحوا الناقة، فلمّا أُعطوا ما سألوا ظلموا ولم يؤمنوا، فكان في إجابتهم إلى ما سألوا هلاكُهُم واستئصالُهُم.
ثم قال: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، أي: لأجل التخويف، فهو منصوب نصب المفعول لأجله.
قال قتادة: «إنّ الله يخوّف الناس بما شاء من آياته لعلهم يُعْتِبون أو يذّكرون أو يرجعون»
(1)
.
وهذا يعم آياته التي تكون مع الرسل، والتي تقع بعدهم في كل زمان، فإنه سبحانه لا يزال يُحْدِث لعباده من الآيات ما يخوّفهم بها، ويذكّرهم بها.
ومن ذلك قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، أي لا يعلمون حكمته تعالى ومصلحة عباده في الامتناع من إنزال الآيات التي يقترحها الناس على الأنبياء، وليس المراد أنّ أكثر الناس لا يعلمون أنّ الله قادر؛ فإنه لم ينازع في قدرة الله في الجملة أحد من المقرّين بوجوده سبحانه، ولكن حكمته في ذلك لا يعلمها أكثر الناس.
فصل
النوع العاشر: إخباره عن الحِكَم والغايات التي جعلها في خلقه وأمره، كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ
(1)
أخرجه الطبري (14/ 638).
مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، وقوله:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 6 - 11]، إلى قوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 14 - 16]، وقوله:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 25 - 27]، وقوله:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعَنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 80 - 81]، وقوله:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32]، وقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 32 - 33]، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ
(1)
الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12].
إلى أضعاف أضعاف ذلك في القرآن، مما يفيد من له أدنى تأمل القطعَ بأنه سبحانه فعَل ذلك للحِكَم والمصالح التي ذكرها، وغيرها مما لم يذكره.
وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
(1)
{لَكُمُ} ساقطة من الأصول.
(68)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69]، وقوله:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون: 21]، وقوله:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8]، فهل يستقيم ذلك ويصح ممن لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لغاية هي مقصودة بالفعل؟!
ومعلوم بالضرورة أن هذا الإثبات وهذا النفي متقابلان أعظم التقابل.
فصل
النوع الحادي عشر: إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة، كقوله:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، وقوله:{أَيَحْسِبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقوله:{ا (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا} [الدخان: 38 - 39]، وقال:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [الحجر: 85].
والحق هو الحِكَم والغايات المحمودة التي لأجلها خَلَق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة:
منها: أن يُعرف اللهُ تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته.
ومنها: أنه يحب أن يُعبد ويُشكر ويُذكر ويُطاع.
ومنها: أن يأمر وينهى، ويشرع الشرائع.
ومنها: أن يدبّر الأمر، ويبرم القضاء، ويتصرف في المملكة بأنواع التصرف.
ومنها: أن يثيب ويعاقب، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فيوجَدُ أثرُ عدله وفضله موجودًا مشهودًا، فيُحمد على ذلك ويُشكر.
ومنها: أن يَعْلم خلقُه أنه لا إله غيره ولا ربّ سواه.
ومنها: أن يُصدِّقَ الصادقَ ويكرمه، ويكذِّبَ الكاذبَ ويهينه.
ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي، فيعلم عباده ذلك علمًا مطابقًا لما في الواقع.
ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها.
ومنها: ظهور أثر كماله المقدس، فإنّ الخلق والصنع لازم كماله، فإنه حيّ عليم قدير
(1)
، ومن كان كذلك لم يكن إلا فاعلًا مختارًا.
ومنها: أن يَظهر أثرُ حكمته في المخلوقات، بوضع كلٍّ منها في موضعه الذي يليق به، ومجيئه على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه، فتشهدَ حكمتَه الباهرة.
ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم، ويعفو ويغفر ويسامح، فلا بدّ
(1)
«م» : «قادر» .
من لوازم ذلك خلقًا وشرعًا.
ومنها: أنه يحب أن يُثنَى عليه ويُمدَح ويُمجَّد ويُسبَّح ويُعظَّم.
ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته.
إلى غير ذلك من الحِكَم التي تضمّنها الخَلْق.
فخَلْق مخلوقاته بسبب الحق، ولأجل الحق، وخَلْقُها ملتبِسٌ بالحق، وهو في نفسه حق، فمصدره حق، وغايته حق، وهو متضمّن للحق.
وقد أثنى تعالى على عباده المؤمنين حيث نَزّهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية، فقال تعالى:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191].
وأخبر أن هذا ظَنُّ أعدائه به، لا ظنُّ أوليائه، فقال:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]
(1)
.
فكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أَمَر لحكمة، ولا نهى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة، لا لحكمة ولا غاية مقصودة؟!
(2)
، وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده؟!
بل الخلق والأمر إنما قام بالحِكَم والغايات، فهما مظهران لحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره، فإنّ الذي أثبته المنكرون من ذلك يُنزَّه عنه الربُّ ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقًا
(1)
من قوله: «فقال» إلى هنا ساقط من «د» .
(2)
من قوله: «وإنما يصدر» إلى هنا ساقط من «م» .
وأمرًا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم ــ أو يقع ــ أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتَّة، وينهى عما فيه مصلحته، والجميع بالنسبة إليه سواء.
ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا بمجرد الأمر والنهي.
ويجوز عندهم أن يعذب مَن لم يعصه طرفة عين، بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، ويُنعِّم مَن لم يطعه طرفة عين، بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، ولا سبيل إلى أن يُعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول، وإلا فهو جائز عليه.
وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالربّ تعالى، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.
والعجب العجاب أنّ كثيرًا من أرباب هذا المذهب يُنزِّهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال، ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه، ولا يُنزِّهونه عن هذا الظلم والجور، ويزعمون أنه عدل وحق، وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به، كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه، وعلوّه فوق سماواته، وتكلّمه وتكليمه، وصفات كماله، فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات، والله ولي التوفيق.
فصل
النوع الثاني عشر: إنكاره سبحانه أن يُسوِّيَ بين المختلفَيْن، أو يُفرِّقَ بين المتماثلَيْن، وأن حكمته وعدله تأبى ذلك.
أما الأول: فكقوله: {(34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ} [القلم: 35 - 36]، فأخبر أن هذا حكم باطل جائر يستحيل نسبته إليه، كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه، ومنكرو الحكمة والتعليل يجوِّزون نسبة ذلك إليه، بل يقولون بوقوعه.
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، فجعل سبحانه ذلك حُكْمًا سيّئًا يتعالى ويتقدس عن أن يجوز عليه، فضلًا أن يُنسب إليه.
بل أبلغ من هذا أنه أنكر على من حسب أن يدخل الجنة بغير امتحان له وتكليف يتبين به صبره وشكره، وأن حكمته
(1)
تأبى ذلك، كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وقال:{ا آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ} [البقرة: 214]، وقال:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16]، فأنكر عليهم هذا الظن والحسبان لمخالفته لحكمته.
وأما الثاني: وهو أنه لا يفرق بين المتماثلَيْن، فكقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
(1)
«م» : «كلمته» .
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، وقوله:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]، وقوله:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، وقوله:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، وقوله:{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43]، وقوله:{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، وقوله:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُّسْلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77]، وقوله:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، وقوله:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38]، فسنته سبحانه عادته المعلومة في أوليائه وأعدائه بإكرام هؤلاء وإعزازهم ونصرهم، وإهانة أولئك وإذلالهم وكبتهم.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5].
والقرآن مملوء من ذلك، يخبر تعالى أنّ حُكم الشيء في حكمته وعدله حُكم نظيره ومماثله، وضد حُكم مضاده ومخالفه.
وكل نوع من هذه الأنواع لو استوعبناه لجاء كتابًا مفردًا.
فصل
النوع الثالث عشر: أمْره سبحانه بتدبر كلامه والتفكر فيه، وفي أوامره ونواهيه وزواجره، ولولا ما تضمنه من الحِكَم والمصالح والغايات المطلوبة
والعواقب الحميدة التي هي محل الفكر لما كان للتفكير فيه معنى، وإنما دعاهم إلى التفكّر والتدبّر ليطلعهم ذلك على حكمته البالغة، وما فيه من المصالح والغايات المحمودة التي توجب لمن عرفها إقراره بأنه تنزيل من حكيم حميد.
فلو كان الحق ما يقوله النفاة، وأنّ مرجع ذلك كلّه ومصدره مجرّدُ القدرة والمشيئة التي يجوز عليها تأييدُ الكاذب بالمعجزة ونصرُه وإعلاؤه، وإهانةُ المحقِّ وإذلالُه وكسرُه= لما كان في التدبر والتفكر ما يدلهم على صدق رسله، ويقيم عليهم حجته، وكان
(1)
غاية ما دعوا إليه القَدَر المحض، وذلك مشترك بين الصادق والكاذب، والبر والفاجر.
فهؤلاء بإنكارهم الحكمة والتعليل سدّوا على نفوسهم باب الإيمان والهدى، وفتحوا عليهم باب المكابرة وجَحْد الضروريات
(2)
، فإن ما في خلق الله وأمره من الحِكَم والمصالح المقصودة بالخلق والأمر، والغايات المحمودة
(3)
= أمر تشهد به الفطر والعقول، ولا ينكره سليم الفطرة، وهم لا ينكرون ذلك وإنما يقولون: وقع بطريق الاتفاق لا بالقصد، كما تسقط خشبة عظيمة فيتفق عبور حيوان مؤذ تحتها فتهلكه.
ولا ريب أن هذا ينفي حمد الربِّ تعالى على حصول هذه المصالح والمنافع والحِكَم؛ لأنها لم تحصل بقصده وإرادته، بل بطريق الاتفاق الذي لا يُحمَد عليه صاحبه، ولا يُثنى عليه به، بل هو عندهم بمثابة ما لو رمى رجل
(1)
«د» : «وإن كان» .
(2)
«م» : «وجحدوا الضروريات» .
(3)
«م» : «الحميدة» .
درهمًا لا لغرض ولا لفائدة، بل لمجرّد قدرته ومشيئته على طرحه، فاتفق أن وقع في يد محتاج انتفع به، فهذا من شأن الحِكَم والمصالح عند المنكرين.
فصل
النوع الرابع عشر: إخباره عن صدور الخلق والأمر عن حكمته وعلمه، فيذكر هذين الاسمين عند ذكر مصدر خلقه وشرعه، تنبيهًا على أنهما إنما صدرا عن حكمة مقصودة مقارِنة للعلم المحيط التام، كقوله:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، وقوله:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، فذَكَر العزةَ المتضمنة لكمال القدرة والتصرف، والحكمةَ المتضمنة لكمال الحمد والعلم.
وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، وسمع بعض الأعراب قارئًا يقرؤها:«والله غفور رحيم» ، فقال: ليس هذا كلام الله! فقال: أتكذّب بالقرآن؟ فقال: لا، ولكن لا يحسن هذا. فرجع القارئ إلى حفظه، فقال:«عزيز حكيم» ، فقال: صدقت
(1)
.
وإذا تأملت ختْم الآيات بالأسماء والصفات وجدتَ كلامه مختتمًا بذكر الصفة التي تقتضي ذلك، حتى كأنها ذُكِرت دليلًا عليه وموجِبة له، وهذا كقوله:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِر لَّهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، أي فإنّ مغفرتك لهم تصدر عن عزّة هي كمال القدرة، وحكمة هي
(1)
حكاها الواحدي في «البسيط» (7/ 373) عن الأصمعي، وأسندها في «الأغاني» (21/ 386) عن الأصمعي قال: سمع الفرزدق رجلًا يقرأ
…
فذكر القصة بنحوها.
كمال العلم، لا عن عجز وجهل.
وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} في ثلاث
(1)
مواضع من القرآن [الأنعام: 96، يس: 38، فصلت: 12]، يذكر ذلك عقيب ذكره الأجرام العلوية، وما تضمنته من فَلْق الإصباح، وجَعْل الليل سكنًا، وإجراء الشمس والقمر بحساب لا يعدوانه، وتزيين السماء الدنيا بالنجوم وحراستها بها، فأخبر أن هذا التقدير المحكم المتقن صادر عن عزته وعلمه، ليس أمرًا اتفاقيًا لا يُمدَح به فاعله، ولا يُثنى عليه به كسائر الأمور الاتفاقية.
ومن هذا ختْمه سبحانه قصص الأنبياء وأممهم في سورة الشعراء بقوله عقيب كل قصة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهْوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9]، فإن ما حَكَم به لرسله وأتباعهم ولأعدائهم صادر عن عزة ورحمة، فوضَعَ الرحمة في محلها، وانتقم من أعدائه بعزّته، ونجَّى رسله وأتباعهم برحمته، والحكمة الحاصلة من ذلك أمر مطلوب مقصود، وهو غاية الفعل، لا أنها أمر اتفاقي.
فصل
النوع الخامس عشر: إخباره بأن حُكْمه أحسن الأحكام، وتقديره أحسن التقادير، ولولا مطابقته للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك؛ إذ لو كان حُسْنه لكونه مقدورًا معلومًا ـ كما يقوله النفاة ـ لكان هو وضده سواء؛ فإنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، فكان كلّ معلوم مقدور أحسن الأحكام وأحسن التقادير، وهذا ممتنع.
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال:
(1)
كذا في الأصول، والوجه:«ثلاثة» ، وتقدمت نظائره.
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهْوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، فجعل هذا هو أحسن الأديان، ولهذا اختاره لنفسه وارتضاه لعباده، ويمتنع عليه أن يختار لهم دينًا سواه، أو يرتضي دينًا غيره، كما يمتنع عليه الحيف والظلم.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقال:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]، وقال:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فلا أحسن من تقديره وخلقه لوقوعه على الوجه الذي اقتضته حكمته ورحمته وعلمه.
وقال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، ولولا مجيئه على أكمل الوجوه وأحسنها ومطابقته للغايات المحمودة، والحِكَم المطلوبة؛ لكان كله متفاوتًا، أو كان عدم تفاوته أمرًا اتفاقيًا لا يُحمَد فاعله؛ لأنه لم يُرِده ولم يقصده، وإنما اتفق أن جاء كذلك.
فصل
النوع السادس عشر
(1)
: إخباره سبحانه أنه على صراط مستقيم في موضعين من كتابه:
أحدهما: قوله حاكيًا عن نبيه هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
والثاني: قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهْوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
(1)
«د» : «السابع عشر» ، سهو.
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
قال أبو إسحاق: «أخبر أنه وإن كانت قدرته تنالهم بما يشاء، فهو لا يشاء إلا العدل»
(1)
.
قال ابن الأنباري: لما قال: {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى: لا تخرج عن قبضته، فإنه قاهر بعظيم سلطانه كل دابة، فأتبع ذلك قوله:{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إنه على الحق.
قال: وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلًا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا: فلان على طريقة حسنة، وليس ثَمَّ طريق
(2)
.
وذُكِر في معنى الآية أقوال أُخَر هي من لوازم هذا المعنى وآثاره.
كقول بعضهم: إن ربي يدلّ على صراط مستقيم، فدلالته على الصراط من موجِبات كونه في نفسه على صراط مستقيم، فإن تلك الدلالة والتعريف من تمام رحمته وإحسانه وعدله وحكمته.
وقال بعضهم: معناه لا يخفى عليه مشتبه
(3)
، ولا يعدل عنه هارب.
وقال بعضهم: المعنى لا مسلك لأحد ولا طريق له إلا عليه، كقوله:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]
(4)
.
(1)
«معاني القرآن وإعرابه» (3/ 58).
(2)
أورده في «البسيط» (11/ 449).
(3)
في «البسيط» (11/ 449): «عليه مستتر» .
(4)
انظر: «البسيط» (11/ 449 - 450).
وهذا المعنى حق، ولكن كونه هو المراد بالآية ليس بالبيّن؛ فإن الناس كلهم لا يسلكون الصراط المستقيم حتى يقال: إنهم يصلون بسلوكه إليه، ولما أراد سبحانه هذا المعنى قال:{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس: 70]، {(24) إِنَّ إِلَيْنَا} [الغاشية: 25]، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
وأما وصفه سبحانه بأنه على صراط مستقيم فهو كونه يقول الحق، ويفعل الصواب، فكلماته صدق وعدل، وفعله كله صواب وخير، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، فلا يقول إلا ما يُحمد عليه، ولا يفعل إلا ما يُحمد عليه؛ لكونه حقًّا وعدلًا وصدقًا وحكمة في نفسه، وهذا معروف في كلام العرب.
قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراطٍ
…
إذا اعوجَّ المواردُ مستقيمِ
(1)
إذا عُرف هذا، فمن ضرورة كونه على صراط مستقيم أنه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة يُحمد عليها، وغاية هي أولى بالإرادة من غيرها، فلا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والإحسان والرحمة والعدل والصواب، كما لا تخرج أقواله عن العدل والصدق.
فصل
النوع السابع عشر: حَمْدُه سبحانه لنفسه على جميع ما فعله، وأمْرُه
(1)
«ديوان جرير» بشرح ابن حبيب (1/ 218).
عباده بحمده، وهذا لما في أفعاله من الغايات والعواقب الحميدة التي يستحق فاعلها
(1)
الحمد، فهو يُحمد على نفس الفعل، وعلى قصد الغاية الحميدة به، وعلى حصولها، فههنا ثلاث أمور
(2)
.
ومنكرو الحِكَم والتعليل ليس عندهم محمودًا على قصد الغاية، ولا على حصولها؛ إذ قصْدها عندهم مستحيل عليه، وحصولها عندهم أمر اتفاقي غير مقصود، كما صرّحوا به، فلا يُحمد على ما لا يجوز قصده
(3)
، ولا على حصوله، فلم يبقَ إلا نفس الفعل، ومعلوم أن الفاعل لا يُحمد على فعله إن لم يكن له فيه غاية مطلوبة هي أولى به من عدمها، وإلا فمجرد الفعل الصادر عن الفاعل إذا لم يكن له غاية يقصده بها لا يُحمد عليه، بل وقوع هذا الفعل من القادر المختار الحكيم محال، ولا يقع الفعل على هذا الوجه إلا من عابث، والله منزّه عن العبث.
فحَمْدُه سبحانه من أعظم الأدلة على كمال حكمته، وقصْده بما فعل نفع خلقه والإحسان إليهم ورحمتهم، وإتمام نعمته عليهم، وغير ذلك من الحِكَم والغايات التي تعطيلها تعطيل لحقيقة حمده.
فصل
النوع الثامن عشر: إخباره بإنعامه على خلقه وإحسانه إليهم، وأنه خلق لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة
ليتم نعمته عليهم.
ومعلوم أن المُنعِم المُحسِن لا يكون كذلك، ولا يستحق هذا الاسم حتى يقصد الإنعام على غيره والإحسان إليه، فلو لم يفعل سبحانه لغرض الإنعام والإحسان لم يكن مُنعِمًا في الحقيقة ولا مُحسِنًا؛ إذ يستحيل أن يكون كذلك من لم يقصد الإنعام والإحسان، وهذا غني عن التقرير.
يوضحه أنه سبحانه حيث ذَكَر إنعامه وإحسانه فإنما يذكره مقرونًا بالحِكَم والمصالح والمنافع التي خَلَق الخلق وشَرَع الشرائع لأجلها، كقوله في آخر سورة النِّعَم
(1)
: {(80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ} [النحل: 81]، فهذا في الخلق.
وقال في الشرع في أمره باستقبال الكعبة: {(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ} [البقرة: 150].
وقال في أمره بالوضوء والتيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، فجعل تمام نعمته في أنْ خَلَقَ ما خلق للإحسان، وأَمَرَ بما أمر لذلك.
(1)
في حاشية «م» : «أي النحل» .
فصل
النوع التاسع عشر: اتصافه بالرحمة، وأنه أرحم الراحمين، وأن رحمته وسعت كل شيء، وذلك لا يتحقق إلا بأن يقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم، وبما أمرهم به، فلو لم تكن أوامره لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إليهم لما كانت رحمة، ولما كان رسوله رحمة للعالمين، فلو خلت أحكامه عن الحِكَم والمصالح لما كانت رحمة
(1)
، ولو حصلت بها الرحمة لكانت اتفاقية لا مقصودة، وذلك لا يوجِب أن يكون الآمر سبحانه أرحم الراحمين، فتعطيل حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها يفعل إنكارٌ لرحمته في الحقيقة، وتعطيل لها.
وكان شيخ هذا المذهب جهم بن صفوان يقف على الجَذْمى
(2)
، ويشاهد ما هم فيه من البلاء، ويقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا!
(3)
.
يعني: أنه ليس ثَمّ رحمة في الحقيقة، وإنما الأمر راجع إلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة، فلا حكمة عنده ولا رحمة؛ فإن الرحمة لا تُعقل إلا مِن فِعْل مَن يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه والإحسان إليه، فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة لم يفعل لرحمة ولا لإحسان.
(1)
من قوله: «ولما كان رسوله» إلى هنا ساقط من «د» .
(2)
جمع أَجْذَم، وهو مَنْ تهافتت أطرافه من مرض الجُذَام، «تاج العروس» (31/ 383).
(3)
حكاه شيخ الإسلام في عدة مواضع من كتبه، منها:«النبوات» (2/ 915)، «منهاج السنة» (3/ 32)، وكذا تكرّرت عند المصنف كما تراه في «إغاثة اللهفان» (2/ 920) وغيره.
فصل
النوع العشرون: جوابه سبحانه لمن سأله عن التخصيص والتمييز الواقع في أفعاله بأنه لحكمة يعلمها هو سبحانه، وإن كان السائل لا يعلمها، كما أجاب الملائكة لما قال لهم:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ، فأجابهم بقوله:{إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ولو كان فعله مجرّدًا عن الحِكَم والغايات والمصالح لكان الملائكة أعلم مِنْ
(1)
أن يسألوا هذا السؤال، ولم يصح جوابهم بتفرّده بعلم ما لا يعلمونه من الحِكَم والمصلحة التي في خلق هذا الخليفة.
ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه الحكمة، ولم يكن اعتراضًا على الربّ تعالى، ولو قُدِّر أنه على وجه الاعتراض فهو دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، فلما رأوا أن خلق هذا الخليفة منافٍ للحكمة في الظاهر سألوه عن ذلك.
ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ} [الأنعام: 124]، فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبى أن يضع رسالاته في غير محلها، وعند غير أهلها، ولو كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جواب، بل كان الجواب أن أفعاله لا تُعلَّل، وهو يرجِّح مِثْلًا على مِثْل بغير مرجِّح، والأمر عائد إلى مجرّد القدرة كما يقوله المنكرون.
(1)
«د» : «به» .
وكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، فلما سألوا عن التخصيص بمنّة الله، وأنكروا ذلك؛ أجيبوا بأن الله أعلم بمن يصلح لمنّته، وهو أهل لها، وهم الشاكرون الذين يعرفون قدر النعمة، ويشكرون عليها المنعم، فهؤلاء يصلحون لمنّته، ولو كان الأمر عائدًا إلى محض المشيئة لم يحسن هذا الجواب.
ولهذا يذكر سبحانه صفة العلم حيث يذكر التخصيص والتفضيل تنبيهًا على أنه إنما حصل بعلمه سبحانه بما في المُخصَّص المُفضَّل مما يقتضي تخصيصه وتفضيله، وهو الذي جعله أهلًا لذلك، كما قال تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81]، فذَكَر علمه عقيب ذكر تخصيصه سليمان بتسخير الريح له، وتخصيصه الأرض المذكورة بالبركة.
ومنه قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، فذَكَر صفة العلم التي اقتضت تخصيص هذا المكان وهذا الزمان بأمرٍ اختصَّا به دون سائر الأمكنة والأزمنة.
ومن ذلك قوله سبحانه: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26]، فأخبر أنه وضع هذه الكلمة عند أهلها، ومَنْ هم أحق بها، وأنه أعلم بمن يستحقها من غيرهم، فهل هذا وصف من يَخص بمحض المشيئة
لا لسبب
(1)
ولا لغاية؟!
فصل
النوع الحادي والعشرون: إخباره سبحانه عن تركه بعض مقدوره أن يفعله لما يستلزمه من المفسدة، وأن المصلحة في تركه، ولو كان الأمر راجعًا إلى محض المشيئة لم يكن ذلك علّة للحكم، كقوله تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} [الأنفال: 22 - 23]، فعلّل سبحانه عدم إسماعهم السماع الذي ينتفعون به ـ وهو سماع الفهم ـ بأنهم لا خير فيهم يحسن معه أن يسمعهم، وبأن فيهم مانعًا آخر يمنع من الانتفاع بالمسموع لو سمعوه وهو الكبر والإعراض، فالأول من باب تعليل عدم الحُكْم بعدم مقتضيه، والثاني من باب تعليله بوجود مانعه، وهذا إنما يصح ممن يأمر وينهى ويفعل للحِكَم والمصالح، وأما من تجرّد فعله عن ذلك فإنه لا يضاف عدم الحكم إلا إلى مجرّد مشيئته فقط.
ومن هذا تنزيهه نفسه سبحانه عن كثير مما يقدر عليه فلا يفعله؛ لمنافاته لحكمته وحمده، كقوله:{كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ} [آل عمران: 179]، وقوله:{(32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ} [الأنفال: 33]، وقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
(1)
«د» : «بسبب» .
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ
(1)
الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59]، فنزّه نفسه عن هذه الأفعال؛ لأنها لا تليق بكماله، وتنافي حكمته وحمده.
وعند النفاة إنها ليست مما يُنزَّه الربّ عنه؛ لأنها مقدورة له، وهو إنما يُنزَّه عما لا يقدر عليه، ولكن علمنا أنها لا تقع لعدم مشيئته لها، لا لقبحها في نفسها!
فصل
النوع الثاني والعشرون: أن تعطيل الحكمة والغاية المطلوبة بالفعل إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها أو بتفاصيلها، وهذا محال في حق من هو بكل شيء عليم.
وإما لعجزه عن تحصيلها، وهذا ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير.
وإما لعدم إرادته ومشيئته الإحسان إلى غيره وإيصال النفع إليه، وهذا مستحيل في حق أرحم الراحمين، ومَن إحسانُهُ مِن لوازم ذاته فلا يكون إلا محسنًا مُنعِمًا منّانًا.
وإما لمانع يمنع من إرادتها وقصدها، وهذا مستحيل في حق من لا يمنعه مانع عن فعل ما يريد.
وإما لاستلزامها نقصًا ومنافاتها كمالًا، وهذا باطل، بل هو قلب للحقائق
(1)
في الأصول: «ليهلك» .
وعكس للفِطَر
(1)
، ومناقضة لقضايا العقول؛ فإن مَنْ يفعل لحكمة وغاية مطلوبة يُحمد عليها أكمل ممن يفعل لا لشيء البتّة، كما أن مَنْ يخلق أكمل ممن لا يخلق، ومَنْ يعلم أكمل ممن لا يعلم، ومَنْ يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومَنْ يقدر ويريد أكمل ممن لا قدرة له ولا إرادة، ومَنْ يسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، ويحب ويبغض؛ أكمل ممن لا يتصف بذلك، وهذا مركوز في الفِطَر، مستقر في العقول، فنفي حكمته بمنزلة نفي هذه الأوصاف عنه، وذلك يستلزم وصفه بأضدادها، وهي أنقص النقائص.
ولهذا صرّح كثيرٌ من النفاة كالجويني والرازي بأنه لم يقم على نفي النقائص عن الله دليل عقلي، وإنما مستند النفي السمع والإجماع
(2)
.
وحينئذ فيقال لهؤلاء: إن لم يكن في إثبات الحكمة نقص لم يجز نفيها، وإن كانت نقصًا فأين في السمع أو في الإجماع نفي هذا النقص؟
وجمهور الأمة يثبت حكمته سبحانه والغايات المحمودة في أفعاله إجمالًا، فليس مع النفاة سمع ولا عقل ولا إجماع، بل السمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد ببطلان قولهم، والله الموفق للصواب.
وجماع ذلك أن كمال الربّ تعالى وجلاله وحكمته وعلمه ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق أسمائه الحسنى= تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة، وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك، وتشهد ببطلانه، وإنما نبّهنا على بعض طرق القرآن، وإلا فالأدلة التي
(1)
«م» : «الفطر» .
(2)
انظر: «الشامل» (74)، «الأربعين» (1/ 242).
تضمنها على إثبات ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وبالله التوفيق.
فصل
وكيف يتوهم ذو فطرة صحيحة خلاف ذلك، وهذا الوجود شاهد بحكمته وعنايته بخلقه أتم عناية، وما في مخلوقاته من الحِكَم والمصالح والمنافع والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف، أو يحصره عقل.
ويكفي الإنسانَ فكرُه في نفسه وخلقه وأعضائه ومنافعها وقواه وصفاته وهيئاته، فإنه لو استنفد عمره لم يحط علمًا بجميع ما تضمنه خلقه من الحِكَم والمنافع على التفصيل، والعالم كله علويّه وسفليّه بهذه المثابة.
ولكن لشدّة ظهور الحكمة ووضوحها وجَدَ الجاحد السبيل إلى إنكارها، وهذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة، كما أنكرتْ وجود الصانع تعالى مع فرط ظهور آياته ودلائل ربوبيته، بحيث استوعبت كل موجود، ومع هذا فسمحت بالمكابرة في إنكاره!
وهكذا أدلة علوّه سبحانه فوق مخلوقاته مع شدة ظهورها وكثرتها، سمحت نفوس الجهمية بإنكارها!
وهكذا شواهد صدق أنبيائه ورسله، ولاسيما خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه، فإن أدلة صدقه في الوضوح للعقول كالشمس في دلالتها على النهار، ومع هذا فلم يأنف الجاحدون والمكابرون من الإنكار!
وهكذا أدلة ثبوت صفات الكمال لمعطي الكمال، هي من أظهر الأشياء وأوضحها، وقد أنكرها مَن أنكرها!
ولا يُستنكر هذا؛ فإنك تجد الرجل منغمِسًا في النّعم، وقد أحاطت به من كل جانب وهو يشتكي حاله، ويتسخَّط مما هو فيه، وربما أنكر النعمة، فَضَلَال النفوس وغيّها لا حدّ له ينتهي إليه، ولاسيما النفوس الجاهلة الظالمة.
ومن أعجب العجب أن تسمح نفس بإنكار الحِكَم والعلل الغائية والمصالح التي تضمّنتها هذه الشريعة الكاملة، التي هي من أدل الدلائل على صِدْق مَن جاء بها، وأنه رسول الله حقًا، ولو لم يأت بمعجزة سواها لكانت كافية شافية، فإن ما تضمّنته من الحِكَم والمصالح والغايات الحميدة، والعواقب السديدة، شاهدة بأن الذي شرعها وأنزلها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وشهود ذلك في تضاعيفها ومضمونها كشهود الحِكَم والمصالح والمنافع في المخلوقات العلويّة والسفليّة، وما بينهما من الحيوان والنبات والعناصر والآثار التي بها انتظام مصالح المعاش.
فكيف يرضى أحدٌ لنفسه إنكارَ ذلك وجحْدَه؟!
وإن تَجمّل واستحيا من العقلاء قال: ذلك أمر اتفاقي غير مقصود بالخلق والأمر!
وسبحان الله! كيف يستجيز أحدٌ أن يظنّ بربِّ العالمين وأحكم الحاكمين أنه يعذّب كثيرًا من خلقه بأشدّ العذاب الأبدي لغير غاية ولا حكمة ولا بسبب، وإنما هو محض مشيئة مجرّدة عن الحكمة والسبب، فلا سبب هناك ولا حكمة ولا غاية، وهل هذا إلا من أسوأ الظن بالربّ تعالى؟!
وكيف يستجيز أن يظنّ بربّه أنه أمَر ونهى، وأباح وحرّم، وأحبّ وكره، وشرع الشرائع، وأمر بالحدود لا لحكمة ولا لمصلحة يقصدها، بل ما ثَمّ إلا
مشيئة محضة رجَّحتْ مِثْلًا على مِثْل بغير مرجِّح، وأي رحمة تكون في هذه الشريعة، وكيف يكون المبعوث بها رحمة مهداة للعالمين لو كان الأمر كما يقول النفاة، وهل يكون الأمر والنهي إلا عقوبة وكُلْفة وعبثًا؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ولو ذهبنا نذكر ما يطّلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا، ونقص علومنا ومعارفنا وتلاشيها، بل وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب، وإلا فالأمر فوق ذلك.
وهل إبطال الحِكَم والمناسبات والأوصاف التي شُرِعت الأحكام لأجلها إلا إبطال للشرع جملة؟!
وهل يمكن فقيهًا على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل، وقصْد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟
وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات؛ فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحِكَم والمصالح والعلل الغائية، فإذا رأوا أن هذا لا يمكن القول به مع موافقة الشرائع، ولا يمكنهم دفعه عن نفوسهم؛ خلّوا الشرائع وراء ظهورهم، وأساؤوا بها الظن، وقالوا: لا يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا، ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا، ورأوا أن القول بالفاعل المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحِكَم والقُوى والطبائع، ولا سبيل إلى نفيها، فنفوا الفاعل المختار، وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار، ورأوا أنهم لا يمكنهم إثباته مع إثبات الأسباب والحِكَم والقُوى والعلل فنفوها، وبين الطائفتين بُعد المشرقين.
ولا تستهن بأمر هذه المسألة؛ فإن شأنها أعظم، وخطرها أجلّ، وفروعها كثيرة جدًّا.
ومن فروعها: أنهم لما تكلموا فيما يُحدِثه الله سبحانه من المطر والنبات والحيوان، والحر والبرد، والليل والنهار، والإهلال والإبدار والكسوف، والاستِسْرار
(1)
، وحوادث الجو، وحوادث الأرض= انقسموا قسمين، وصاروا طائفتين:
فطائفة جعلت الموجِب لذلك مجرّد ما رأوه علّة وسببًا من الحركات الفلكية، والقُوى الطبيعية، والنفوس والعقول، فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد.
وقابلهم طائفة من المتكلمين فلم يثبتوا لذلك سببًا إلا مجرد المشيئة والقدرة، وأن الفاعل المختار يُرجِّح مِثْلًا على مِثْل بلا مُرجِّح ولا سبب ولا حكمة، ولا غاية يفعل لأجلها.
ونفوا الأسباب والقُوى والطبائع والغرائز والحِكَم والغايات، حتى يقول مَن أثبت الجوهر الفرد منهم: إن الفَلَك والرَّحا ونحوهما مما يدور يتفكك عند الدوران دائمًا، والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان، وإن الألوان والمقادير والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات
(2)
، والقادر
(1)
هو اختفاء القمر آخر الشهر ليلة أو ليلتين، مشتق من استسرّ، انظر:«الصحاح» (2/ 682).
(2)
مصطلح كلامي يطلق على أجزاء الزمان غير المنقسمة، انظر:«المواقف» (1/ 530).
المختار يعيدها كل وقت، وإن ملوحة ماء البحر كل لحظة تعدم وتذهب، ويعيدها القادر المختار، كل ذلك بلا سبب ولا حكمة ولا علّة غائية.
ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص من قول الفلاسفة أعداء الرسل إلا بذلك، ورأى أعداء الرسل أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة إلا بالتزام أصول هؤلاء.
ولم تهتدِ الطائفتان للحق الذي لا يجوز غيره، وهو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته، ويفعل ما يفعله بأسباب وحِكَم وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القُوى والطبائع والغرائز والأسباب والمسبّبات ما به قام الخلق والأمر.
وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة، إلا من خلّى الفقه ناحية وتكلم بأصول النفاة، فعادى فقهُهُ أصولَ دينِه
(1)
.
(1)
الضبط من «د» و «م» .