الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإرادته ومشيئته، وما يصدر عن الذات من غير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلًا، وإن كان أثرًا من آثارها ومتولّدًا عنها، كتأثير النار في الإحراق، والماء في الإغراق، والشمس في الحرارة، فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام، وليست أفعالًا لها، وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها، فالفعل والعمل من الحيّ العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته.
وكون الربّ تعالى حيًّا فاعلًا مختارًا مريدًا مما اتفقت عليه الرسل والكتب، ودلّ عليه العقل والفطرة، وشهدت به الموجودات ناطقها وصامتها، جمادها وحيوانها، علويّها وسفليّها، فمن أنكر فعل الربّ الواقع بمشيئته واختياره فقد جحد ربّه وفاطره، وأنكر أن يكون للعالم ربّ.
الأصل الرابع: أنه سبحانه ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا
، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي، وأمره الكوني القدري، ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات، وقدح في العقول والفطر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء.
فقد جعل الله تعالى مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب، والحدود والكفارات، والأوامر والنواهي، والحِلّ والحرمة، كل ذلك مرتبطًا بالأسباب قائمًا بها، بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، بل الموجودات كلها أسباب ومسبَّبات، والشرع كله أسباب ومسبَّبات، والمقادير أسباب ومسبَّبات، والقدر جارٍ عليها، متصرف فيها، فالأسباب محل الشرع والقدر.
والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، كقوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15]، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39]، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ
يَدَاكَ} [الحج: 10]، {فَبِمَا
(1)
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمِ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161]، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمِ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} إلى قوله:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [النساء: 155 - 157]، وقوله:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، وقوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} [غافر: 22]، وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله:{(2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 3]، وقوله:{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]،
وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48]، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16]، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، وقوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55 - 56]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا
(2)
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، وقوله: {إِذَا أَقَلَّتْ أَقَلَّت سَّحَابًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ مَّيْتٍ بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
(1)
في الأصول: «بما» .
(2)
في الأصول: «وأنزلنا» ، وكشُطِت الألف في «ج» ، وشددت الزاء.
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ} [الأعراف: 57]، وقوله:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وقوله:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} الآية [التوبة: 14]، وقوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 14 - 16].
وكل موضع رُتِّب فيه الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف أفاد كونه سببًا له، كقوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقوله:{تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ} [الأعراف: 170]، وقوله:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، وهذا أكثر من أن يُستوعَب.
وكل موضع تضمّن الشرط والجزاء أفاد سببية الشرط والجزاء، وهو أكثر من أن يُستوعَب، كقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقوله:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ. عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
وكل موضع رُتِّب فيه الحكم على ما قبله بحرف الفاء أفاد التسبيب، وقد تقدم.
وكل موضع ذُكِرت فيه الباء تعليلًا لما قبلها بما بعدها أفاد التسبيب.
وكل موضع صُرِّح فيه: بأن كذا جزاء لكذا أفاد التسبيب.
وكل موضع ذُكِرت فيه حكمة الحُكْم وعلّته الغائية أفاد التسبيب؛ فإن العلّة الغائية علّة للعلّة الفاعلية.
ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة، ويكفي شهادة الحسِّ والعقل والفِطَر.
ولهذا قال مَن قال من أهل العلم: تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم
(1)
. وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد، فشابهوا المعطلة الذين أنكروا صفات الربّ، ونعوت كماله، وعلوّه على خلقه، واستواءه على عرشه، وتكلّمَه بكتبه، وتكليمه لملائكته وعباده، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد، فما أفادهم إلا تكذيب الله ورسله، وتنزيهه عن كل كمال، ووصفه بصفات المعدوم والمستحيل.
ونظير من نزَّه الله عن أفعاله، وأن يقوم به فِعْل البتّة، وظنّ أنه ينصر بذلك حدوث العالم، وكونَه مخلوقًا بعد أن لم يكن، وقد أنكر أصل الفعل والخلق جملة.
ثم من أعظم الجناية على الشرائع والنبوات والتوحيد إيهام الناس أن التوحيد لا يتم إلا بإنكار الأسباب، فإذا رأى العقلاء أنه لا يمكن إثبات توحيد الربّ إلا بإبطال الأسباب ساءت ظنونهم بالتوحيد وبمن جاء به، وأنت لا تجد كتابًا من الكتب أعظم إثباتًا للأسباب من القرآن.
ويالله العجب! إذا كان الله خالق السبب والمسبَّب، وهو الذي جعل هذا سببًا لهذا، والأسباب والمسبَّبات طوع مشيئته وقدرته، منقادة لحكمه، إن شاء أن يبطل سببية الشيء أبطلها، كما أبطل إحراق النار على خليله إبراهيم،
(1)
حكى شيخ الإسلام هذه الجملة عن بعض الفضلاء كما في «مجموع الفتاوى» (8/ 137).
وإغراق الماء على كَلِيمه وقومِه، وإن شاء أقام لتلك الأسباب موانع تمنع تأثيرها مع بقاء قواها، وإن شاء خلّى بينها وبين اقتضائها لآثارها، فهو سبحانه يفعل هذا وهذا وهذا، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد، وأي شرك يترتب على ذلك بوجه من الوجوه!
ولكن ضعفاء العقول إذا سمعوا أن النار لا تُحْرِق، والماء لا يُغرِق، والخبز لا يُشبِع، والسيف لا يقطع، ولا تأثير لشيء من ذلك البتّة، ولا هو سبب لهذا الأثر، وليس فيه قوة، وإنما الخالق المختار يشاء حصول كل أثر من هذه الآثار عند ملاقاة كذا لكذا= قال
(1)
: هذا هو التوحيد، وإفراد الربّ بالخلق والتأثير، ولم يدر هذا القائل أن هذا إساءة ظن بالتوحيد، وتسليط لأعداء الرسل على ما جاؤوا به، كما تراه عيانًا في كتبهم، ينفّرون به الناس عن الإيمان، ولا ريب أن الصديق الجاهل قد يضر ما لا يضره العدو العاقل.
وقد قال تعالى عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:«علمًا»
(2)
.
قال قتادة وابن زيد وابن جُرَيْج والضحاك: «علمًا يتسبّب به إلى ما يريد»
(3)
.
وكذلك قال أبو إسحاق: «علمًا يوصله إلى حيث يريد»
(4)
.
(1)
كذا في «د» و «م» ، وفي «ج»:«قالت» ، والأشبه بالسياق:«قالوا» .
(2)
أخرجه الطبري (15/ 371).
(3)
نسبه إليهم مكي في «الهداية» (6/ 4449)، والواحدي في «البسيط» (14/ 130).
(4)
«معاني القرآن» (3/ 308).
قال المبرّد: «وكل ما وَصَل شيئًا بشيء فهو سبب»
(1)
.
وقال كثير من المفسرين: آتيناه من كل ما بالخلق إليه حاجة علمًا ومعونة له.
وقد سمَّى سبحانه الطريق سببًا في قوله: {فَاَتَّبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85]، قال مجاهد:«طريقًا»
(2)
.
وقيل: السبب الثاني هو الأول، أي: اتَّبَعَ سببًا من تلك الأسباب التي أوتيها، مما يوصله إلى مقصوده.
وسَمَّى تعالى أبواب السماء أسبابًا، إذ منها يُدخَل إلى السماء، قال تعالى عن فرعون:{لَّعَلِّيَ أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 - 37]، أي: أبوابها التي أدخل منها إليها.
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينَلْنَهُ
…
ولو رام أسباب السماء بسُلَّمِ
(3)
وسُمِّي الحبل سببًا لإيصاله إلى المقصود، قال تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15].
قال بعض أهل اللغة: السبب من الحبال القوي الطويل.
(1)
نسبه إليه في «البسيط» (14/ 130)، وانظر:«العين» (7/ 204).
(2)
أسنده بنحوه الطبري (15/ 373)، وانظر:«تفسير مجاهد» (450).
(3)
«شرح القصائد العشر» للتبريزي (194).
قال: ولا يُدعى الحبلُ سببًا حتى يُصعَد به ويُنزَل
(1)
، ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب، يقال: ما بيني وبين فلان سبب، أي: آصرة رحم أو عاطفة مودة.
وقد سمَّى تعالى وَصْل الناس بينهم أسبابًا، وهي التي يتسببون بها إلى قضاء حوائجهم
(2)
بعضهم من بعض، قال تعالى:{إِذ تَّبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، يعني: الوُصلات التي كانت بينهم في الدنيا.
قال ابن عباس وأصحابه: «يعني أسباب المودة والوُصلات التي كانت بينهم في الدنيا»
(3)
.
وقال ابن زيد: «هي الأعمال التي كانوا يؤمّلون أن يصلوا بها إلى ثواب الله» .
وقيل: هي الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها
(4)
.
وبالجملة فسمى الله سبحانه ذلك كله أسبابًا؛ لأنها كانت يُتَوصَّل بها إلى مسبَّباتها، وهذا كله عند نفاة الأسباب مجاز لا حقيقة له، وبالله التوفيق.
(1)
حكاه في «تهذيب اللغة» (12/ 314) عن خالد بن جَنْبَة، والفقرة مقتبسة من «البسيط» (3/ 479).
(2)
«د» : «حوائج» .
(3)
هذه الفقرة ساقطة من «م» .
(4)
انظر: «جامع البيان» (3/ 26 - 29)، «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 278 - 279).