الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
…
بين يدي الكتاب.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] .
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد
…
فإن توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة هو غاية خلق العالمين، وهو أصل دعوة المرسلين، وهو ما يخاطب به الناس من أصول الدين، وهو سبب العصمة والأمن في الدنيا والنجاة والفوز في الآخرة، وهو الشرط لصحة وقبول سائر الطاعات.
أما أنه غاية خلق العالمين، فلقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
وأما إنه دعوة الرسل أجمعين فلقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ، وقوله
سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، فالتوحيد حق الله على العبيد.
وأما إنه أول ما يخاطب به الناس من أمور الدين فلقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن: "يا معاذ: إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم
…
" 1.
وأما إنه سبب العصمة والأمن في الدنيا؛ فلأن الإقرار بالتوحيد يعصم الدم والمال، ويثبت عقد الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله"2. والتوحيد يثمر الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
وأما إنه سبب النجاة والفوز في الآخرة فلقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .
ولقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: وما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار" 3، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى:"يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة"4.
1 أخرجه البخاري "1425"، ومسلم "19".
2 أخرجه البخاري "1400، 6924، 7285"، ومسلم "20، 21"، واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3 أخرجه مسلم "93"، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
4 أخرجه الترمذي "3540" بسند صحيح.
وأما إنه الشرط لصحة وقبول سائر العبادات، فلقوله تعالى في حق المؤمنين العاملين:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، ولقوله جل وعلا عن أعمال الكافرين:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ، فالشرط محبط لجميع الطاعات، قال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، فكما لا تقبل صلاة بغير وضوء، لا تقبل عبادة بغير توحيد.
فالتوحيد أول ما يتعلمه المسلم، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، وأوجب ما يدعو الناس إليه، قال تعالى على لسان أنبيائه:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] ، فهو عمدة الأصول التي ينطلق منها الداعية في دعوته إلى الله، وخلافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسل الله عامة.
والتوحيد أصل كل صلاح في هذه الحياة، كما أن الشرك أصل كل فساد، يقول ابن تيمية رحمه الله: فأصل الصلاح: التوحيد والإيمان، وأصل الفساد: الشرك والكفر1.
ولأجل ذلك كله كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يعتنون بالتوحيد علما وتعليمًا، كما يعتنون به عملا وتطبيقا ودعوة، وكان عمدتهم في التعليم والتلقين آيات الكتاب الكريم، وأحاديث النبي الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فلم تقم لديهم حاجة إلى التدوين لتعويلهم على الوحيين، فلما نبتت البدع وظهرت الفرق، اضطر السلف إلى كتابة الردود على أهل الأهواء، بجمع الآثار والأحاديث المروية في الأبواب التي وقعت فيها المخالفة، ثم كتبت كتب تجمع الآثار مرتبة على مسائل الاعتقاد نصرة للحق، وبيانا لصحيح المعتقد.
1 مجموع الفتاوى لابن تيمية "18/ 163".
ثم دونت مسائل العقيدة عند أهل السنة مستدلا عليها مع مناقشة مذاهب أهل البدع والرد عليها، وكان هذا في مقابل ما ألفه أهل الأهواء في تقرير انحرافاتهم.
ثم إن المتأخرين عنوا بتدوين مقدمات ومفاتيح للعلوم، تتضمن عشرة مبادئ للتعريف بالعلم، لتنشط الطالب في تحصيله، وتعينه في طريقه.
فقال قائلهم:
إن مبادئ كل فن عشرة
…
الحد والموضوع ثم الثمرة
فضله ونسبة والواضع
…
الاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى
…
ومن درى الجميع حاز الشرفا
وكان علم التوحيد من العلوم التي كتبت فيها تلك المقدمات، والمبادئ الممهدات، فكان العجب لا ينقضي حين قدم المتكلمون لعلم التوحيد فسموه بغير اسمه! وعرفه بما يزيده إبهاما! وقربوه للطالب فصعبوا مناله، وأقاموا أدلته بما يملؤه التباسًا، وموهوا بأن واضعه بعدما جاءت به المرسلون، بعض المتأخرين عن عصر التابعين وتابعي التابعين، وألبسوا حلل فضله -زورا وبهتانا- لما أسموه بعلم الكلام، المقتبس من منطق وفلسفة اليونان.
فأردت أن أصل مؤلفات أهل السنة العظيمة في علم التوحيد، بمقدمة في التعريف به، تعيد الحق إلى نصابه، وتدفع عن مبادئ علم التوحيد شبهاته، فاستعنت بالله تعالى وهو خير مستعان، فكتبت معرفا بأهل السنة والجماعة، وبينت حقيقة منهجهم، وبم تتم النسبة إليهم، ونسجت على تلك المبادئ العشرة لعلم التوحيد على طريقتهم، فليس بين ما كتبه المتكلمون، وبين ما في هذا الكتاب من مبادئ علم التوحيد إلا الأسماء.
ثم أردفت ببيان خصائص عقيدة أهل السنة والجماعة، ثم أردفت ببيان قواعد وضوابط الاستدلال على مسائل الاعتقاد.
وأخيرًا ختمت الكتاب بملحقين، تضمن أولهما فهرسة تفصيلية لموضوعات ومسائل الاعتقاد، وتضمن الثاني تعريفا بمائة كتاب من كتب الاعتقاد الصحيح من لدن الفقه الأكبر لأبي حنيفة النعمان، وإلى وقت الناس هذا.
ولسان الحال والمقال ينطق بأن السلف أهل السنة والجماعة، هم أهل الإسلام السالم عن كل شوب، الصافي عن كل كدر، وهم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يوم الناس هذا على نمط واحد في الاعتقاد، لا يخرجون على الحق، ولا يخرج الحق عنهم.
وهذا الكتاب وإن خلا عن سرد عقائدهم، وبيان تفاصيل أصولهم ومناهجهم إلا أنه يمثل مدخلا مهما لطالب هذا العلم، ويمهد لمدخل ثان -يلحقه قريبا بعون الله تعالى- يميز به السالك على طريق التوحيد أهل البدع، ويتعرف على أنواعهم، وأحكامهم، ومناهج النظر والتلقي لديهم، ومنهج أهل السنة في معاملتهم.
ثم يأتي الكتاب الثالث يحمل عقائد أهل السنة مسندة ومسددة، تبيانا وبرهانا على معتقدات الأئمة، وفرقانا بين السنة والبدعة.
وهو واسطة عقد هذه المداخل، وحجر الزاوية منها، وبخروج هذا المدخل الأول يكون الثاني في إثره، ويتلوهما الثالث بإذن الله تعالى ومشيئته.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أزجي الشكر عاطرا، والدعاء خالصا إلى كل من أعان على إكمال هذه المداخل بقلم أو رأي أو نصح، أو جمع أو مراجعة.
والله أسأل أن يتقبل منا جميعا بقبول حسن، وأن يحسن نياتنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، إن ربي قريب مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه أبو عبد الله محمد يسري القاهرة.
غرة ربيع الأول 1425هـ.