الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: موضوع علم التوحيد
إن موضوع أي علم هو ذلك المعنى العام الذي يشتمل على مسائله التي يتخذها دائرة لبحثه دون غيره من العلوم، وذكر موضوع العلم بعد تعريفه مما يزيده تحديدًا وتمييزًا عن غيره، كما يشير إلى طبيعة منهج البحث فيه؛ لأن مناهج العلوم، وإنما توضع ملائمة لطبيعة موضوعاتها.
وفي تعريف موضوع العلم اصطلاحًا، قال ابن النجار الحنبلي رحمه الله:"هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية"1، أي الأحوال التي منشؤها ذات الشيء محل البحث، فالمقصود الأحوال التي منشؤها ذات العلم.
فإذا قيل: إن موضوع علم الطب هو بدن الإنسان، فإن موضوعه يبحث عما يعرض لهذا البدن من أحوال الصحة والمرض، وإذا قيل: إن موضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين، فإنه يبحث عما يعرض لهذه الأفعال من الأحكام، كالوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة، والصحة، والفساد.
وموضوع علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة يدور على أمور منها: بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وما يجب له تعالى من صفات الجلال والكمال، "مع إفراده وحده بالعبادة دون شريك"، والإيمان بالملائكة الأبرار والرسل الأطهار، وما يتعلق باليوم الآخر" والقضاء والقدر، كما يدور على بيان ضد التوحيد وهو الشرك والكفر، وبيان حقيقتيهما وأنواعهما.
1 شرح الكوكب المنير لابن النجار الحنبلي بتحقيق د. محمد الزحيلي ود. نزيه حماد "1/ 33".
وقد يقال: إن موضوع علم التوحيد يدور على محاور ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
1-
ذات الله تعالى أو "الإلهيات":
والبحث في ذات الله تعالى من حيثيات ثلاث، هي:
1-
ما يتصف به تعالى من العلم والحياة والقدرة والصفات، وسائر صفاته وكمالاته تعالى. قال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
2-
ما يتنزه عنه من الظلم والنقص والعجز والمثالب، وسائر ما لا يليق بجلاله وكماله. قال تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] .
3-
حقه على عباده، وهو أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئًا، وأن يطيعوه فلا يعصوه أبدًا، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] .
وقد أغفل كثير من المخالفين لأهل السنة في الاعتقاد هذه الحيثية الثالثة عند البحث في موضوع علم التوحيد، حيث قصروه على ما يشمل إثبات وجوده تعالى وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأغفلوا ما يشمل ألوهيته وعبادته، وسبب ذلك أنهم قصروا الإيمان على التصديق، وأخرجوا عنه العمل بالطاعات، واجتناب الشركيات، وجعلوا الكفر مجرد التكذيب والجحود بالقلب، ولا دخل لعمل الجوارح في الكفر، إلا إذا دل على انتقاض عمل القلب فحسب، ولذا قال قائلهم في جوهرة التوحيد:
ومن بمعلوم ضرورة جحد
…
من ديننا يقتل كفرا ليس حد
ومثل هذا من نفي لمجمع
…
أو استباح كالزنا فلتسمع
يقول فضيلة الشيخ الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله: "قال الشيخ محمد عبده في موضوع علم التوحيد: هو علم يبحث فيه عن وجود الله وما يجب أن يثبت له من صفات، وما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن ينفي عنه وعن الرسل لإثبات رسالتهم، وما يجب أن يكونوا عليه، وما يجوز أن ينسب إليهم، وما يمتنع أن يلحق بهم، فلم يذكر شئون الغيب وأحوال المعاد، ثم قال بعد ذلك: وأصل معنى التوحيد اعتقاد أن الله واحد لا شريك له، وسمي هذا العلم به تسمية له بأهم أجزائه، وهو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون ومنتهي كل قصد، وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كما تشهد به آيات الكتاب العزيز
…
وقد غلط الشيخ عبده في اعتبار توحيد الربوبية والانفراد بالخلق هو الغاية من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن هذا النوع من التوحيد كانت تقربه الأمم التي بعثت إليه الرسل إجمالا، ولم يقع نزاع فيه بينهم وبين الرسل، وإنما كان النزاع في توحيد الإلهية والعبادة، ولهذا لم يجئ على لسان الرسل عليهم السلام الدعوة إلى اعتقاد أن الله هو وحده الخالق -وإن وردت أدلة ذلك في ثنايا الرسالات-، وإنما كان مدار دعوتهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل منهم كان مفتتح دعوته لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] .
ولعل فضيلة الشيخ عبده في هذا كان متأثرا بالأشعرية، الذين جعلوا الانفراد بالخلق هو أخص خصائص الإلهية، واهتموا في كتبهم بإقامة البراهين على هذا النوع من التوحيد، دون أن يشيروا إلى توحيد الإلهية الذي هو أقصى الغايات ونهاية النهايات.
وقد أحسن العلامة السيد رشيد رضا، حيث قال مستدركا على أستاذه: "فات الأستاذ أن يصرح بتوحيد العبادة، وهو أن يعبد الله وحده غيره بدعاء، ولا
بغير ذلك
…
هذا التوحيد هو الذي كان أول ما يدعو إليه كل رسول قومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} "1.
فإن اقتصر الباحث في علم التوحيد على هذه الحيثيات الثلاث، وبفهم السلف فهو داخل حظيرة الإسلام والسنة، وإن خاض في البحث عن حقيقة الذات، وكنه الصفات وأمور الإلهيات على قواعد أهل الكلام، فقد خرج عن السنة إلى البدعة، وعن الهدى إلى الضلالة، وإن زاد في المخالفة، فبحث على قواعد أهل الفلسفة، فقد خرج عن دائرة البدعة إلى الكفر، والعياذ بالله تعالى.
ورحم الله من قال:
العجز عن درك الإدراك إدراك
…
والبحث في كنه ذات الله إشراك
2-
ذوات الرسل الكرام أو "النبوات":
والبحث في ذوات الرسل الكرام من الحيثيات التالية:
- ما يلزمهم ويجب عليهم من صدق وأمانة وبلاغ ونصح لأممهم، ونحو ذلك. قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، وقال سبحانه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال عز وجل:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] .
- ما يجوز في حقهم من أكل ونكاح وأمراض غير منفرة وموت، ونحو ذلك مما يعرض للبشر. قال تعالى:{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، وقال تعالى:{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11] .
1 دعوة التوحيد لمحمد خليل هراس ص 8-10.
- ما يستحيل في حقهم من الكذب والخيانة والكفر والكبائر والموبقات. قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .
- ما يجب لهم على أتباعهم من الحب والطاعة والاتباع والتعظيم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، وقال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] .
3-
السمعيات أو "الغيبيات":
وهي ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود السمع أو الوحي به، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل، كأشراط القيامة، وتفاصيل البعث والجزاء دون أصلهما، والصراط والحوض، وأخبار الجنة والنار، ونحو ذلك.
والبحث في السمعيات أو مسائل الغيب يكون من حيث اعتقادها، وهو يقوم على دعامتين اثنتين هما:
1-
الإقرار بها مع التصديق، ويقابله الجحود والإنكار لها.
2-
الإمرار لها مع إثبات معناها، ويقابله الخوض في الكنه والحقيقة، ومحاولة التصور والتوهم بالعقل بعيدا عن النقل.
وضابط السمعيات: أن العقل لا يمنعها أو يحيلها، ولا يقدر على ذلك، ولا يقدر أن يوجبها، ولا يحار في ذلك.
فمتى ما صح النقل عن الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الواجب اعتقاد ذلك والإقرار به، ودفع كل تعارض موهوم بين شرع الله وهو الوحي، وبين خلقه وهو العقل، قال تعالى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وكما أنه لا تفاوت في خلقه:{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [تبارك: 3]، فلا تفاوت أيضًا في شرعه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، والقاعدة الذهبية أنه لا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح عند التحقيق.
- وأخيرا فإنه قد يصح أن يقال: إن موضوع علم التوحيد هو ذات الله تعالى وحده، وذلك من حيث ما يجب له ويجوز ويمتنع1، ومن حيث رسالته الواردة عن طريق الرسول، ومن حيث ما ورد في هذه الرسالة من خبر ووحي، فالكل متعلق بالله تعالى الواحد الأحد، وعلى هذا فكل ما له تعلق بالله أو الرسول أو الوحي من الحيثيات السابقة فهو من علم التوحيد، وما خرج عن ذلك فهو خارج عن علم التوحيد ولا بد.
1 سبق تعريف الشيخ ابن عثيمين لعلم التوحيد باعتبار موضوعه بأنه: "العلم الذي يبحث في ذات الله، وما يجب له وما يجوز وما يمتنع".