الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: حد علم التوحيد
تعريف الحد:
لغة: المنع، ومنه الحدود؛ لأنها تمنع من العودة إلى المعاصي، ومنه إحداد المرأة في عدتها؛ لأنها تمنع من الطيب والزينة، وسمي التعريف حدا، لمنعه الداخل من الخروج، والخارج من الدخول1.
اصطلاحا: هو الوصف المحيط بمعناه المميز له عن غيره2.
أو هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع3.
ويسمى عند بعضهم بـ"القول الشارح" أو"التعريف"، فإذا قيل: حد علم التوحيد، فإنه يراد به تعريف ذلك العلم الذي يحيط بمعناه ويجمع قضاياه، ويمنع من التباس غيرها بها، بعبارة ظاهرة بعيدة عن الإلغاز، من غير اشتراك لفظي أو مجاز. والأصل في الحد أن يورث التمييز بين المحدود وغيره، أما تصوير المحدود وتعريف حقيقته على وجه التمام، فهذا قد لا يتيسر في كل حد ولا يتحقق في كل محدود4.
وقد درج العلماء عند تعريف ما تركب من كلمتين في مركب إضافي كعلم التوحيد أن يبدأوا بتعريف مفرديه أولا، ثم تعريفه باعتباره لقبا وعلما على الفن المعين ثانيا.
1 المصباح المنير للفيومي "1/ 124، 125"، والقاموس المحيط للفيروزابادي ص352.
2 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص221.
3 المستصفى للغزالي ص18.
4 قال شيخ الإسلام: "المحققون من النظار يعلمون أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته، وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليوناني أتباع أرسطو
…
"، الرد على المنطقيين، ص14.
أولًا: معنى التوحيد:
لغة: باستنطاق معاجم اللغة، فإنها تفصح بأن مادة "وحد" تدور حول انفراد الشيء بذاته أو صفاته أو أفعاله، وعدم وجود نظير له فيما هو واحد فيه.
والتوحيد مصدر وحده يوحده توحيدًا، ومعناه حينئذ كما يقول ابن فارس في مقاييسه "إما جعله واحدًا، أو اعتقده واحدًا"1.
فللتوحيد لغة معنيان:
- الأول: جعل المتعدد واحدًا، فمن جمع بين أقطار متفرقة يقال له وحدها.
- الثاني: اعتقاد الشيء واحدًا، وهذا بمعنى النسبة إلى الوحدانية، وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، نفي الحكم عما سوى الموحد وإثباته له.
التوحيد اصطلاحًا: للتوحيد اصطلاحا إطلاق عام وذلك باعتباره فعلا من أفعال القلوب، وآخر خاص باعتباره علما على علم معين، وعلى هذا فالتوحيد بالمعنى المصدري العام هو: إفراد الله بالعبادة، مع الجزم بانفراده في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي ذاته، فلا نظير له، ولا مثيل له في ذلك كله2.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "هو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من الممكنات سواه"3.
قال الشيخ علي بن محمد بن ناصر الدين الشافعي الشهير بالسويدي رحمه الله: "التوحيد فعل للموحد، وهو وصف الله تعالى بالوحدانية، وذلك نوعان: توحيد في ربوبيته، وهو الحاصل بعد توحيد الذات والصفات، وتوحيد في ألوهيته"4.
1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص1084.
2 انظر: الحجة في بيان الحجة للأصبهاني "1/ 305، 306".
3 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية "8/ 246".
4 العقد الثمين في بيان مسائل الدين للسويدي ص66.
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله: "هو اعتقاد تفرده سبحانه في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وتخصيصه بالعبادة"1.
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله: "هو إفراده تعالى بالعبادة التي تتضمن غاية الحب ومنتهاه، مع غاية الذل وأقصاه، والانقياد لأمره والتسليم له"2.
وهذا المعنى الاصطلاحي العام للتوحيد متفق عليه بين أهل السنة سلفًا وخلفًا.
وعلى هذا فالتوحيد في معناه الاصطلاحي العام يقترب من أحد معنييي اللغة، وهو نسبته تعالى إلى الوحدانية واعتقاد ذلك، ولا يصح أن يكون على معنى التصيير والجعل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والتوحيد هنا ليس بمعنى التصيير والجعل، فالله واحد اعتقدت ذلك أم لم تعتقده"3.
ثانيا: معنى العلم:
يطلق العلم ويراد به: إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع، ويمكن تعريفه بتمثيل كأن يقال: العلم إدراك البصيرة المشابه لإدراك الباصرة4.
قال ابن القيم رحمه الله: "العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس.. فإن كان الثابت في النفس مطابقا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح"5.
ويطلق العلم على الظن الغالب، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] أي: غلب على ظنكم، قال النسفي: "العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو
1 أملاه علي حفظه الله بمنزله بالرياض.
2 شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ الغنيمان "1/ 38".
3 أشرطة "شرح السفارينية"" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقد طبع الشرح مؤخرًا.
4 انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار "1/ 60"، إرشاد الفحول للشوكاني ص3، أبجد العلوم لصديق حسن خان، ص31-34.
5 الفوائد لابن القيم ص110.
الظن الغالب بظهور الأمارات"1، ثم قال معلقًا: "وفي تسمية الظن علما إشارة إلى أن الظن، وما يفضي إليه القياس جار مجرى العلم"2، كما يطلق الظن على العلم كما في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] .
وعليه فإن العلم اصطلاحًا يطلق على مجموعة من المعارف الظنية الراجحة ومنها ما هو قطعي، بشرط أن تكون منظمة حول موضوع ما، كعلم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم الطب ونحو ذلك.
وبناء على ما تقدم، فإن المختار في تعريف العلم أنه:
الإدراك الحاصل بالدليل، الشامل لليقين الجازم والظن الغالب، وما بينهما من درجات ومراتب.
وأخيرًا فإن العلم -اصطلاحا- قد يطلق ويراد به قواعد ومسائل العلم تارة، وإدراك هذه المسائل تارة أخرى، وملكة إدراك المسائل تارة ثالثة3.
معنى المركب الإضافي:
فإذا أضيفت كلمة العلم إلى كلمة التوحيد، فإن معنى هذا المركب الإضافي هو: الإرداك الجازم المطابق للواقع عن دليل بانفراد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، مع انفراده في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
1 مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي "3/ 515".
2 المصدر السابق "3/ 515".
3 أبجد العلوم لصديق خان ص24.
علم التوحيد باعتباره اللقبي:
الطور الأخير لهذا الاصطلاح وهو طور الاستقلال وصيرورته لقبا على فن مخصوص، وهو "علم التوحيد"، ويعرف بهذا الاعتبار على أنه:"العلم الذي يبحث عما يجب لله من صفاته الجلال والكمال، وما يستحيل عليه من كل ما لا يليق به، وما يجوز من الأفعال، وعما يجب للرسل والأنبياء، وما يستحيل عليهم، وما يجوز في حقهم، وما يتصل بذلك من الإيمان بالكتب المنزلة، والملائكة الأطهار، ويوم البعث والجزاء والقدر والقضاء"1.
وقد يقال اختصارًا هو: "العلم بالأحكام الشرعية العقدية المكتسب من الأدلة اليقينية، ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية"2.
وهذا التعريف يرجع إلى اعتبار هذا العلم ملكة يتمكن معها صاحبها من إيراد الحجج على العقائد، ودفع الشبهه عنها.
ويرد على هذا التعريف أن أحاديث الآحاد مما يحتج به في العقائد والأحكام سواء، فلو قيل "بالأدلة المرضية" لتشمل الأدلة اليقينية والظنية لكان أولى.
كما يعرف أن يعرف باعتبار موضوعه، فيقال:"علم التوحيد: هو العلم الذي يبحث في الله وما يجب له وما يجوز وما يمتنع، وهذا يشمل الأنواع الثلاثة من التوحيد: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات"3.
1 مذكرة في علم التوحيد للشيخ عبد الرزاق عفيفي ص 5، 6.
2 المدخل لدارسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص9.
3 أشرطة شرح السفارينية للشيخ ابن عثيمين، وقد طبع مؤخرًا بتحقيق وعناية إسلام منصور بدار البصيرة بالأسكندرية.
ويلاحظ من جملة التعاريف السابقة أن علم التوحيد بمعناه اللقبي يقوم على دعامتين.
الأولى: التصديق بجملة من العقائد المتعلقة بالله تعالى، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، وبالقضاء وبالقدر.
الثانية: القدرة التامة على إثبات تلك العقائد المنسوبة إلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يإيراد الحجج الباهرة، ودفع الشبه الباهتة.