الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أسماء علم التوحيد
الاسم هو ما دل على مسمى كزيد وعمرو، وهو مشتق من السمة وهي العلامة، فهو علامة على مسماه، أو مشتق من السمو وهو العلو والارتفاع، إذ أنه يعلو مسماه1.
والمقصود بأسماء العلم ما يطلق عليه من الأسماء المعتبرة عند أهل هذا العلم، سواء أكانت مركبة أو مفردة، والمسمى إذا كثرت أسماؤه دل ذلك على شرفه وفضله وأهميته غالبا، وعلم التوحيد من أكثر العلوم أسماء، وله أسماء شرعية وأخرى محل نظر، وبيان كل فيما يلي:
أولًا: الأسماء الشرعية لعلم التوحيد
1-
علم التوحيد:
ولعل السبب في إطلاق اسم التوحيد على هذا العلم، هو أن مبحث وحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته، وأفعاله هو أهم مباحث هذا العلم، فهو من باب تسمية الكل بأشراف أجزائه، أو تسمية العلم بأشهر بحوثه، ثم إن ما عدا مبحث الوحدانية قائم ومعتمد عليه، فهو الأصل الذي يتفرع عنه غيره.
ولقد كثرت الكتب المصنفة في باب الاعتقاد التي تحمل اسم التوحيد قديما وحديثا، فمن ذلك:
- "كتاب التوحيد" لأبي العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي.
- "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل "للإمام أبي بكر بن خزيمة.
1 انظر: لسان العرب لابن منظور "6/ 381، 382"، والمصباح المنير للفيومي "1/ 290، 291".
2-
العقيدة:
معناها في اللغة:
فعيلة بمعنى مفعولة، أي معقودة، فهي مأخوذة من العقد، وهو الجمع بين أطراف الشيء على سبيل الربط والإبرام والإحكام والتوثيق، ويستعمل ذلك في الأجسام المادية، كعقد الحبل، ثم توسع في معنى العقد فاستعمل في الأمور المعنوية، كعقد البيع وعقد النكاح1.
قال ابن فارس: "العين والقاف والدال، أصل واحد يدل على شد، وشدة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها"2.
وكلمة العقيدة لم ترد في القرآن الكريم وإنما وردت مادتها فقط في مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33]، وقوله تعالى:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] .
"وأما معاجم اللغة القديمة فلم ترد فيها كلمة العقيدة باستثناء المصباح المنير، فقد ذكر فيه الفيومي أن العقيدة ما يدين الإنسان به، فهي الإيمان بحقيقة معينة إيمانا لا يقبل الشك أو الجدل"3.
وقد ذكر المعجم الوسيط أن العقيدة: هي "الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، ويرادفها الاعتقاد والمعتقد.. وجمعها عقائد"4.
1 المصباح المنير للفيومي "2/ 421"، والقاموس المحيط للفيروزابادي "383، 384، ولسان العرب لابن منظور "9/ 309-312".
2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس "4/ 86-87".
3 علم العقيدة بين الأصالة والمعاصرة للدكتور أحمد السايح ص8.
4 المعجم الوسيط إصدار مجمع اللغة العربية "2/ 637".
معناها في الاصطلاح:
"العقيدة في اصطلاح علماء التوحيد: هي الإيمان الذي لا يحتمل النقيض"1، ويلاحظ اقتراب أو تطابق المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة العقيدة2.
العلاقة بين علمي العقيدة والتوحيد:
"وعلم العقيدة وعلم التوحيد مترادفان عند أهل السنة، وإنما سمي علم التوحيد بعلم العقيدة بناء على الثمرة المرجوة منه، وهي انعقاد القلب انعقادا جازما لا يقبل الانفكاك"3.
وقد يفرق بينهما اصطلاحا باعتبار أن علم التوحيد هو العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة المرضية، وأن علم العقيدة يزيد عليه برد الشبهات، وقوادح الأدلة الخلافية، فيجتمعان في معرفة الحق بدليله، وتكون العقيدة أعم موضوعا من التوحيد؛ لأنها تقرر الحق بدليله، وترد الشبهات وقوادح الأدلة، وتناقش الديانات والفرق.
وقد جرى السلف على تسمية كتبهم في التوحيد والإيمان بكتب العقيدة، كما فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، والإمام اللالكائي رحمه الله في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة".
1 المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص8.
2 فقد عرفها د. محمد علي أبو ريان بقوله: "الأمر الذي تصدق به النفس ويطمئن إليه القلب، ويكون يقينا عند صاحبه لا يمازجه شك، ولا يخالطه ريب". تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام. ص132.
3 المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية للبريكان ص10.
3-
الإيمان:
معناه في اللغة:
قال ابن فارس: "للهمزة والميم والنون أصلان متقاربان، أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق، والمعنيان متدانيان
…
وأما التصديق فقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] ، أي مصدق لنا"1.
وقال الأزهري: "وأما الإيمان: فهو مصدر آمن إيمانا فهو مؤمن، واتفق أهل العلم من اللغويين أن الإيمان معناه التصديق.."2.
معناه شرعًا:
وأما الإيمان في خطاب الوحي فيطلق على الاعتقاد القلبي، والإقرار اللفظي، والعمل الحسي، امتثالًا للأوامر، واجتنابا للمناهي3.
وهذا التعريف الاصطلاحي للإيمان مأخوذ من تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان في حديث جبريل عليه السلام4، وفيه:"فأخبرني عن الأيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، وحديث وفد بني عبد القيس5، وفيه:"هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة ألا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس"، حيث عرف الإيمان في الحديث الأول بالاعتقادات الباطنة، وفي الحديث الثاني بالأعمال الظاهرة، ثم صار الإيمان يطلق
1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس "1/ 133-135".
2 تهذيب اللغة للأزهري "15/ 510".
3 انظر: اعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي "1/ 64"، وعقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص67، ولمعة الاعتقاد لابن قدامة ص23، والعقيدة الواسطية لابن تيمية ص39.
4 رواه مسلم "9" من حديث عمر رضي الله عنه.
5 رواه البخاري "7001"، ومسلم "24" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ويراد به مسائل الاعتقاد كلها.
وصنف السلف كتبا باسم الإيمان بحثت قضايا التوحيد ومسائل الاعتقاد جميعا، ومن أولها:
- "كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمال درجاته"، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي رحمه الله.
- "كتاب الإيمان" للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي رحمه الله.
- "كتاب الإيمان" للحافظ محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده رحمه الله.
4-
السنة:
معناها في اللغة: سبق أن السنة في اللغة تطلق على الطريقة المسلوكة، محمودة كانت أو مذمومة، كما تطلق على العادة الثابتة المستقرة، وعلى غير ذلك.
معناه في الاصطلاح:
والسنة اصطلاحا لها معان كثيرة بحسب العلم الذي نذكر فيه، ويعنينا هنا معناها عند علماء العقيدة والتوحيد، وفي معناها عندهم قال ابن رجب رحمه الله:"وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد؛ لأنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم"1.
وهذا الإطلاق للسنة على العقيدة من باب إطلاق الاسم على بعض مسمياته، فإن الاعتصام بالسنة من أهم أصول أهل السنة، على أن وصف العقيدة بالسنة كان معروفا زمن الصحابة رضي الله عنهم، ويدل عليه قول علي رضي الله عنه: "الهوى عند من خالف السنة حق
1 جامع العلوم والحكم لابن رجب "2/ 120".
وإن ضربت فيه عنقه"1، وهذا لا يكون إلا فيمن خالف في الاعتقاد مخالفة عظيمة.
وبناء على ذلك، فقد أطلق اسم السنة على عقيدة أهل السنة والجماعة، هذا بالإضافة إلى أن السنة لغة هي الطريقة، فأطلقت على عقيدة السلف لاتباعهم طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في الاعتقاد خاصة، واستفاض ذلك المصطلح في الناس حتى إذا قيل: فلان صاحب سنة، كان معناه أنه على معتقد سلفي.
وقد عرفت كتب الاعتقاد باسم كتب السنة، وساد ذلك في القرن الثالث الهجري، في عصر الإمام أحمد رحمه الله، حيث أظهر أهل البدع بدعهم وجاهروا بها تصنيفا ومناظرة، فألف أهل السنة في الرد عليهم كتبا أسموها كتب السنة، وذلك؛ لأنهم لم يكن لهم اسم يتسمون به خصوصا بخلاف أهل الابتداع، فاعتصموا بالسنة والآثار، وجعلوا ذلك حرزًا من الضلال.
ومن تلك الكتب:
- "السنة" للإمام أحمد رحمه الله.
- "السنة" لأبي بكر بن الأثرم رحمه الله.
- "السنة" لابن أبي عاصم رحمه الله.
5-
أصول الدين:
وهذا المصطلح مركب من مضاف ومضاف إليه، ويعرف باعتبار مفرديه أولا.
فالأصل في اللغة: "ما يبنى عليه غيره، أو ما يتفرغ عنه غيره"2.
وفي الاصطلاح يطلق على معان متعددة، والمختار منها مما يناسب هذا الموضوع
1 الشرح والإبانة لابن بطة ص122.
2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس "1/ 109".
أن الأصول بمعنى "القواعد والأسس العامة"1.
والدين يطلق في اللغة على الذل والخضوع، كما يطلق على الحساب والجزاء2، واصطلاحًا: هو "جملة الأحكام الاعتقادية التي تحدد ما ينبغي أن يتصف به الله من صفات، وجملة الأحكام العملية التي ترسم طريق عبوديته سبحانه"3.
والمعنى المستفاد من هذا التركيب، أن أصول الدين هي المبادئ العامة، والقواعد الكلية الكبرى، التي بها تتحقق طاعة الله والرسول.
فأصول الدين بهذا الاعتبار تشمل أركان الإسلام من الأعمال الظاهرة، وأركان الإيمان من الاعتقادات الباطنة، ثم غلب على العلماء المصنفين في الاعتقاد استعمال هذا الاصطلاح في قضايا التوحيد والعقيدة، وعللت هذه التسمية بأن بحوث علم الاعتقاد أصل لما يتلوها من علوم الدين الأخرى كالفقه والحديث، ومن جهة أخرى، فإن هذا العلم يبحث في العقائد التي هي الأصول الواجب على المكلف اعتقادها قبل أن يبدأ العمل، فلا يثمر العمل في الآخرة إلا باعتقاد هذه الأصول في الدنيا.
قال الشهرستاني: "قال بعض المتكلمين: الأصول معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته، ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم، وبالجملة كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ومن المعلوم أن الدين إذا كان منقسما إلى معرفة وطاعة، والمعرفة أصل والطاعة فرع، فمن تكلم في المعرفة والتوحيد كان أصوليا، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعيا، فالأصول هو موضوع علم الكلام، والفروع هو موضوع علم الفقه"4.
1 شرح الكوكب المنير لابن النجار "1/ 38-40".
2 انظر: لسان العرب لابن منظور "4/ 458-461"، والمعجم الوسيط إصدار مجمع اللغة العربية "1/ 317، 318".
3 الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص44.
4 الملل والنحل للشهرستاني "1/ 41".
وقد اعترض شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على أن يكون مصطلح أصول الدين قاصرا على العقائد دون مسائل العمل الكبار، كالصالة والصيام والزكاة والحج، أو أن يدخل فيه مسائل العقائد المختلف فيها داخل دائرة أهل السنة، نحو: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج أم لا؟ وهل يسمع الميت كلام الحي أم لا؟ ونحو هذا1.
وقد يعترض أيضًا على هذه التسمية لعلم التوحيد بأنها لا تكشف عن طبيعة هذا العلم الذاتية، وخصائصه التي يمتاز بها، حيث لوحظ فيها ما يقابله من فروع الدين فحسب.
ومهما يكن من أمر، فإن عمل العلماء سلفا وخلفا جرى على اعتماد هذه التسمية حين ألفوا، وصنفوا في هذا العلم المبارك، ومن أمثلة ذلك:
1-
"الشرح والإبانة عن أصولالسنة والديانة" لأبي عبد الله بن بطة العكبري الحنبلي رحمه الله.
2-
"الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري رحمه الله.
6-
الشريعة:
معناها في اللغة:
قال ابن منظور: "وهي لغة: من الشرع وهو السن والبيان والمورد والطريق"2، وقال ابن فارس:"والشريعة: مورد الشاربة من الماء"3.
معناها في الاصطلاح:
قد تطلق الشريعة على ما شرعه الله تعالى لجميع رسله من أصول الاعتقاد والبر
1 انظر: مجموع الفتاوى "23/ 346، 347"، "6/ 502".
2 لسان العرب لابن منظور "7/ 86-89".
3 معجم مقاييس اللغة لابن فارس "3/ 262".
والطاعة مما لا يختلف من دعوة لأخرى، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .
وقال التهانوي في معناها الاصطلاحي: "الشريعة: ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، سواء أكانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية، ودون لها علم الفقه، أو بكيفية الاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية، ودون لها علم الكلام1
…
ويسمى الشرع أيضا بالدين والملة، فإن تلك الأحكام من حيث إنها تطاع دين، ومن حيث إنها تملى وتكتب ملة، ومن حيث إنها مشروعة شرع، فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار لا بالذات"2.
ثم أطلقت الشريعة أخيرًا وبإطلاق أخص -كما قال ابن تيمية رحمه الله على: "العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق
…
إلخ"3.
والشريعة هنا كالسنة، فقد يراد بها ما سنه الله وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد بها كلاهما.
وقد ألف بعض العلماء كتبًا في الاعتقاد تحمل اسم الشريعة، ومن أولها:
- "الشريعة" لأبي بكر الآجري رحمه الله.
- "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" لابن بطة الحنبلي رحمه الله.
1 يلاحظ أن تسمية التوحيد بعلم الكلام تسمية غير مقبولة، كما سيأتي.
2 كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي "4/ 129".
3 مجموع الفتاوى "19/ 306، 307".
7-
الفقه الأكبر:
أطلق الفقه في الاصطلاح الأقدم على ما هو أعم من علم الفروع، بحيث يشمل الأصول والفروع، وعن هذا المعنى عبر الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال:"الفقه: معرفة النفس مالها وما عليها"، وذلك من كل ما تنتفع به وتتضرر في الآخرة، من الاعتقادات والأعمال والأخلاق ونحو ذلك، ثم لما أراد أبو حنيفة رحمه الله تمييز الاعتقادات عن غيرها، جاء بهذا الاصطلاح الذي لم يسبق إليه في التعبير عن التوحيد فسماه الفقه الأكبر، تمييزا له عن الأصغر وهو فقه الفروع.
وفي تعليل هذه التسمية يقول عبد العزيز الحنفي: "سمي بالفقه الأكبر؛ لأنه أكبر بالنسبة للأحكام العملية الفرعية التي تسمى الفقه الأصغر؛ ولأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته الذي يبحث فيه هذا العلم، لذلك سمي الفقه الأكبر"1.
وقال أبو حنيفة: "الفقه الأكبر في الدين أفضل من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه، خير له من أن يجمع العلم الكثير"2.
التطور التاريخي لتدوين علم التوحيد:
لعله من المناسب قبل مغادرة هذه النقطة تلخيص ما سبق، وإلقاء أضواء على التطور التاريخي لظهور هذه المصطلحات.
فلا ريب أن مصطلحي الإيمان والفقه الأكبر قد ظهرا في القرن الثاني وبرزا، واستمر مصطلح الإيمان في الذيوع خلال القرن الثالث حيث برز مصطلح السنة،
1 كشف الأسرار على أصول البزدوي للإمام عبد العزيز البخاري الحنفي "1/ 8".
2 نظم الدرر في شرح الفقه الأكبر للقاضي عبيد الله الحنفي ص28.
وظهرت الكتب الاعتقادية التي حملت اسم السنة، وتوالي التصنيف في القرن الرابع بهذه الأسماء الاصطلاحية، ثم ظهر في القرن الرابع أربعة مصطلحات شاعت وذاعت، وهي: التوحيد، الشريعة، أصول الدين، العقيدة، وإن كان مصطلح العقيدة قد ظهر أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الهجري، كما يبدو هذا من كتاب الإمام اللالكائي رحمه الله "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، وكذا فعل الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، وتتابع بعد ذلك المصنفون على استعمال هذا المصطلح.
ثانيا: أسماء علم التوحيد عند الفرق الإسلامية
1-
علم الكلام:
وهذا هو أشهر الإطلاقات عند سائر الفرق الإسلامية من أشاعرة، ومعتزلة وغيرهم في القديم والحديث.
ففي القديم يقول الغزالي رحمه الله: "إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير واف بمقصودي"1.
وحديثا يقول الشيخ محمد عبده: "علم الكلام: هو علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن تثبت له من صفات، وما يجوز أن يوصف به، وما يجب أن ينفى عنه، وعن الرسل لإثبات رسالتهم، وما يجب أن يكونوا عليه، وما يجوز أن ينسب إليهم، وما يمتنع أن يلحق بهم"2.
1 المنقذ من الضلال للغزالي ص87.
2 رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص5.
أسباب تسمية علم التوحيد بعلم الكلام:
يعلّل المتكلمون تسميتهم للتوحيد بعلم الكلام بعلل شتى نذكر منها ما يلي:
1-
يقول الشهرستاني: "سمي باسم الكلام، إما؛ لأن أظهر مسألة تكلموا فيها، وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها
…
"1.
2-
"أطلق علم الكلام على التوحيد؛ لأن أصحابه كانوا يترجمون لمسائله بقولهم: "الكلام في القدرة، الكلام في العلم، الكلام في الوحدانية، فشاع الكلام على هذا العلم وغلب عليه، فالتسمية من باب الشيوع والذيوع والغلبة"2، كما فعل الأشعري في كتابه "الإبانة"، والقاضي عبد الجبار في كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل".
3-
"وقد يكون سبب التسمية أنه أكثر من غيره خلافا، ونزاعا بين الخائضين فيه بعقولهم، فهو مفتقر إلى الكلام أكثر من غيره لتحقيقه، وللرد على المخالف فيه"3.
4-
ويرى التفتازاني أنه سمي بذلك، لابتنائه على الأدلة القطعية المؤيدة في كثير من الأحيان بالأدلة النقلية، "فكان أشد العلوم تأثيرًا في القلب وتغلغلا فيه، فسمي بالكلام المشتق من الكلم وهو الجرح"4.
5-
ويرى آخرون أنه سمي بذلك؛ لأنه يكسب المتكلم قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات، وإلزام الخصوم5.
هذا هو حاصل ما قالوه تعليلا لهذه التسمية، ويرى أهل السنة هذه التسمية لهذا
1 الملل والنحل للشهرستاني "1/ 30".
2 مباحث في علوم العقيدة د. آمنة نصير ص77.
3 توضيح العقائد النسفية د. سليمان خميس ص6.
4 شرح العقائد النسفية للتفتازاني "1/ 19".
5 علم العقيدة بين الأصالة والمعاصرة د. أحمد السايح ص55.
العلم المبارك تسمية مبتدعة، وهي تنطبق على غير علم التوحيد الذي جاء به المرسلون، فإنه ليس من الكلام في شيء لا اسما ولا معنى، ولا مقصدا ولا غاية ولا استمدادًا.
وأهل السنة -المتبعون لمنهج الصحابة في الاعتقاد- لا يعتبرون الكلام وتعلمه علما، بل يعدونه جهلا، فإن أبا يوسف تليمذ أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال لبشر المريسي:"العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأسا في الكلام، قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة"1، ذلك أن الجدال في الأمور الإلهية بمجرد العقل المحض بعيدا عن الوحي هو جهل يؤدي إلى الضلال وقد قال شيخ الإسلام:"إن الجدال في علم العقائد يسمى كلاما"2.
وأهل السنة يذكرون أسبابا أخرى لهذه التسمية المحدثة لعلم التوحيد منها:
1-
"أنه سمي كذلك؛ لأن المشتغلين به تكلموا فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، مثل الكلام في ذاته تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتأويل المتشابه، والبحث في القدر، ونحو ذلك مما وردت الآثار بالنهي عنه والتحذير منه، لأجل هذا سمي البحث في المسائل التي سكت عنها المتقدمون كلاما، وسمي أهله بالمتكلمين، حيث تكلموا فيما كان ينبغي فيه الصمت اقتداء بالصحابة والتابعين رضي الله عنهم"3.
2-
وقد لاحظ بعض العلماء ما بين علماء الكلام، وعلماء الفلسفة من نسبة وشبه، فقالوا: لما أنشأ الفلاسفة المنطق ليكون لهم طريقا في تبيين طرق الاستدلال في العلوم النظرية، فقد شابههم أهل الكلام في إنشاء هذا العلم ليبين لهم طريق الاستدلال مسائل أصول الدين.
1 شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي "1/ 17".
2 مجموع الفتاوى "11/ 336".
3 مدخل نقدي لدراسة علم الكلام د. محمد السنهوتي ص19.
قال الشهرستاني الأشعري في سبب التسمية: "إنه سمي بهذا الاسم لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان"1.
3-
وقال شارح الطحاوية: "إنما سمي هؤلاء أهل الكلام؛ لأنهم لا يفيدوا علما لم يكن معروفا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد"2.
ومع أنهم كانوا كما قال شارح الطحاوية، بل وقد جاءوا بما يضر من الكلام، فإنهم يفخرون بعد ذلك بالكلام وصنعته، يقول يحيى بن عدي مشيرا إلى طائفة من المتكلمين:"إني لأعجب كثيرا من قول أصحابنا إذا ضمنا وإياهم مجلس، قولهم: نحن المتكلمون، نحن أرباب الكلام، والكلام بنا صح وانتشر، كأن سائر الناس لا يتكلمون، أو ليسوا أهل كلام، لعلهم عند المتكلمين خرس أو سكوت"3.
4-
وأخيرًا لعله من أهم أسباب التسمية بعلم الكلام أنه ليس تحته، أو من ورائه عمل نافع، قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى:"الكلام في الدين أكرهه، لم يزل أهل بلدنا يكرهونه، وينهون عنه..، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا ما تحته عمل"4.
ثم إن علماء الإسلام الثقات، وأحبار العلم الكبار، من مثل: مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، قد زجروا عن علم الكلام وبالغوا في النهي عنه، فقال الشافعي رحمه الله:"حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"5.
1 الملل والنحل للشهرستاني "1/ 30".
2 شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي "1/ 242".
3 تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام د. محمد علي أبو ريان ص132.
4 مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص153.
5 الإحياء للغزالي "1/ 130".
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "لا يفلح صاحب كلام، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دخل"، وقال أيضا:"علماء الكلام زنادقة"1.
وقال الإمام مالك لرجل جعل يسأله عن القرآن: "لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد؟ لعن الله عمرا، فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل"2.
وقال الإمام البربهاري: "واعلم أنه لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين إلا في الكلام، وأهل الكلام، والجدل، والخصومة، والمراء، والعجب"3.
ولعله قد يرد هنا اعتراض حاصله: إذا كانت تسمية علم التوحيد بعلم الكلام ممنوعة مذمومة، فكيف عبر بعض أهل السنة عن علم التوحيد بعلم الكلام، كما فعل ذلك الإمام السفاريني رحمه الله في شرح عقيدته الأثرية، الموسومة بلوامع الأنوار البهية، وسواطع الأسرار الأثرية في شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية؟!
والجواب عن ذلك هو: إذا كان علم الكلام هو: علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية أو المرضية، أو كان علما بأمور يقتدر معها على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها، ودفع الشبه عنها، فإن هذا المعنى الاصطلاحي -دون التسمية- يمكن قبوله عند أهل السنة والجماعة، والاعتداد به بشروط، منها:
- أن تكون الأدلة التي وصفت بكونها يقينية، ومرضية هي صحائح المنقول من كل كتاب ناطق، وسنة ماضية، وإجماع منعقد مقبول، وصرائح المعقول، وفطرة سوية.
1 تلبيس إبليس لابن الجوزي ص102.
2 ذم الكلام للهروي ص294.
3 شرح السنة للبربهاري ص38.
- وأن يكون منهج تقرير المسائل الاعتقادية، ورد قوادح الأدلة الخلافية، متفقا وقواعد النظر والاستدلال عند أهل السنة، من مثل: الإيمان بجميع النصوص الصحيحة مع التعظيم والتوقير، ودرء كل ما ظاهره التعارض بين أدلة المنقول وأدلة المعقول، ورد النزاع إلى الكتاب والسنة عمومًا، واعتماد فهم الصحابة والسلف الصالح، ونحو ذلك.
ثم يبقى -بعد تصحيح المنهج- أن استعمال هذه التسمية فيها نوع مسامحة ممن قالها أو كتبها من أهل السنة، وهي خلاف الصحيح والمعتمد عند أهل الحق من أسماء هذا العلم الشريف:
ومن ذلك قول القائل:
أيها المغتدي ليطلب علمًا
…
كل علم عبد لعلم الكلام
تطلب الفقه كي تصحح حكما
…
ثم أغفلت منزل الأحكام1
فهذا على اعتبار المسامحة في هذا الاصطلاح، وإلا فقد عارضه الآخر مصححا فقال:
أيها المغتدي ليطلب علمًا
…
كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلا
…
كيف أغفلت علم أصل الأصول2
وقد أزال الإمام السفاريني هذ اللبس بنفسه فقال: "فإن قلت: إذا كان علم الكلام بالمثابة التي ذكرت، والمكانة التي عنها برهنت، فكيف ساغ للأئمة الخوض فيه، والتنقيب عما يحتويه؟ ثم إنك أتيت ما عنه نهيت، وحررت ما عنه نفرت، وهل هذا في
1 نفح الطيب للتلمساني "5/ 296".
2 شرح الطحاوية لابن أبي العز، ص76.
بادي الرأي إلا مدافعة، وجمع للشيئين اللذين بينهما تمام الممانعة؟ قلت: إن ما ذهب إليه وهلك من التمانع لممتنع، وما سنح في خلدك من التدافع لمندفع، بل العلم الذي نهينا عنه، غير الذي ألفنا فيه، والكلام الذي حذرنا منه، غير الذي صنف فيه كل إمام حافظ وفقيه، فعلم الكلام الذي نهى عنه أئمة الإسلام هو العلم المشحون بالفلسفة والتأويل، والألحاد والأباطيل، وصرف الآيات القرآنية عن معانيها الظارهة، والأخبار النبوية عن حقائقها الباهرة دون علم السلف ومذهب الأثر، وما جاء في الذكر الحيكم وصحيح الخبر"1.
وخلاصة الموقف من هذه التسمية ما قاله شيخ الإسلام: "إن السلف لم يذموا جنس الكلام أو الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به ورسوله، ولا ذموا كلاما هو حق، كما أنهم لم يذموا الكلام لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة، بل ذموا الكلام الباطل المخالف للكتاب والسنة والعقل"2، فالسلف ذموا أهل الكلام الذين هم أهل الشبهات والأهواء، لم يذموا أهل الكلام الذين هم أهل كلام صادق، يتضمن الدليل على معرفة الله تعالى، وبيان ما يستحقه وما يمتنع عليه"3.
2-
الفلسفة:
جاء في المعجم الفلسفي: "الفلسفة الأولى: مصطلح قال به أرسطو، وأطلقه على دراسة الموجودات الأزلية المفارقة، وهي ما سمي فيما بعد بالميتاقيزيقا، وتسمى أيضا الإلهيات.. وأطلق أخيرا على دراسة ما يتصل بمشكلة المعرفة والوجود والألوهية"4.
1 لوامع الأنوار للسفاريني "1/ 110، 111".
2 مجموع الفتاوى "13/ 147"، والصواعق المرسلة لابن القيم "4/ 1274".
3 درء التعارض بين العقل والنقل لابن تيمية "7/ 181".
4 المعجم الفلسفي إصدار مجمع اللغة العربية ص139، 140.
فالفلسفة إعمال العقل في أي مجال وكل مجال بلا أي منطلقات ابقة من دين أو وحي، للوصول إلى الحقائق الأزلية -بزعمهم-، فهي محولة إدراك الفاني القاصر للأول والآخر -سبحانه-، وبالتالي فهي محاولة محكومة بالفشل، مقضي عليها بالخسار والبوار قبل أن تبدأ، إذ الفلسفة تنتهي حتما إلى التعقيد والتخليط والجفاف كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة.
ولقد دخل من سمي بفلاسفة المسلمين في جحيم الفلسفة، فما خرجوا منها إلا إلى نار الجحيم -عياذًا بالله-، فأنكروا البعث والمعاد، وقالوا بقدم العالم، وجاءوا بالكفريات.
قال الغزالي رحمه الله: "وأما الإلهيات ففيها أكثر أغاليطهم، ومجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلًا يجب إكفارهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر، وقد أبطالناها جميعا في كتابنا المسمى تهافت الفلاسفة، فأما الثلاثة: فقولهم بأن الأجسام لا تحشر، وأن الله لا يعلم الجزئيات، بل الكليات فقط، وأن العالم قديم
…
ثم قال: وجب الحكم بكفر أرستطاليس ومن قبله من الفلاسفة كأفلاطون وسقراط وغيرهم، وكفر متبعيهم من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا، والفارابي، وأمثالهم"1.
بين الفلسفة وعلم الكلام:
إن الكلام يتعلق بدين بعينه، ولكن الفلسفة تبحث عنالحقائق والأصول بتجرد من كل دين ومذهب، ومن حيث المنهج فإن علم الكلام يبدأ من مسلمات عقدية يفترض صحتها، أي أن المتكلم يبدأ من قاعدة يعترف بها، ثم يبدأ في التماس الطريق العقلية المؤدية لإثباتها، وهذا بخلاف الفيلسوف الذي يتشكك في البدهيات، ويماري
1 المنقذ من الضلال للغزالي ص17.
في الأوليات، حتى يثبتها عقله أولا، ثم يتدرج منها إلى النتائج، مستخدما منهجا عقليا صرفا، فالمتكلم يبدأ بذكر الأدلة على وجود الله، والفيلسوف يبدأ بإنكار وجود الله، والعياذ بالله.
والحاصل أن تسمية علم التوحيد بالفلسفة هو تسمية للإيمان بضده، وللنور والهدى واليقين بالظلمة والضلال والشك، والعلماء متفقون على حرمة تعلم الفلسفة، متفقون على ذمها وذم من دخل فيها من علماء الكلام سواء في ذلك أهل السنة، أو الأشاعرة، أو الماتريدية.
قال التفتازاني الماتريدي: "ولا يصدنك عن آيات الله ودين الإسلام، ولا يصرفنك عن اتباع هؤلاء الأنبياء خوض بعض المتفلسفين في زي الفقهاء في هذه الزنادقة الهادمة لدين الإسلام، وملة الأنبياء، فإنه انسلخ من الدين فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، وصار من أئمة الكفرة في صورة علماء المسلمين"1.
وقال السنوسي الأشعري: "فليحذر المبتدئ جهده أن يأخذ أصول دينه من الكبت التي حشيت بكلام الفلاسفة، وأولع مؤلفوها بنقل ما هو كفر صريح من عقائدهم، التي ستروا نجاساتها باصطلاحاتهم، وعبارات مبهمة على كثير من الناس، ككتب الرازي في فن الكلام، وطوالع البيضاوي، ومن حذا حذوهما في ذلك، وقل أن يفلح من أولع بصحبة كلام الفلاسفة، أو يكون له نور إيمان في قلبه أو لسانه"2.
قال الذهبي رحمه الله في ترجمة ابن حزم رحمه الله: "وكان قد مهر أولا في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيرا ليته سلم من ذلك"3.
1 رد النصوص للتفتازاني، نقلا عن ترتيب العلوم للشيخ محمد المرعشي ص231.
2 شرح متن السنوسية للسنوسي، نقلا عن ترتيب العلوم للشيخ محمد المرعشي ص148، 149.
3 سير أعلام النبلاء "18/ 186".
وأخيرا فإن طائفة من علماء الكلام الفحول الذين دخلوا في علم الكلام المشحون بالفلسفة قد رجعوا عن الكلام ومسالكه، وتابوا إلى الله من الفلسفة وأوضارها في ملحات العمر الأخيرة، كما فعل أبو الحسن الأشعري، حيث قال رحمه الله:"فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما قال به أبو عبد الله أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مجانبون"1.
وهذا الإمام الجويني رحمه الله يقول في آخر عمره: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به"2، وقال عند موته:"لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل للجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال على عقيدة عجائز أهل نيسابور"3.
وقال الشهرستاني:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
…
على ذقن أو قارعا سن نادم4
1 الإبانة عن أصول الديانة للأشعري "1/ 20".
2 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي "5/ 186"، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص105.
3 شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري الحنفي ص6، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص104، 105.
4 نهاية الإقدام للشهرستاني ص3.
وقال الرازي: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن
…
ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"1.
ثم اعتذر عما دخل فيه بكلام طويل قال في آخره: "وأقول: ديني متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما،
…
وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف السيئ، فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر
…
"2.
وقال الغزالي: "الدليل على أن مذهب السلف هو الحق، أن نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة"3.
وقال أيضا: "إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محتاجين لمحاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فما زادوا على أدلة القرآن شيئا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات، كل ذلك لعلمهم، بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن، لا يقمعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان"4، وصدق الله تعالى وغفر له.
وقال الآمدي: "أمعنت النظر في الكلام، وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام"5.
1 درء التعارض لابن تيمية "1/ 160".
2 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي "8/ 91، 92".
3 إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي ص96.
4 المصدر السابق ص89-90.
5 درء التعارض لابن تيمية "3/ 262".
وهذا الشوكاني يذكر انكبابه في عنفوان شبابه على مؤلفات طوائف المتكلمين، ثم قال:"ورمت الرجوع بفائدة، والعودة بعائدة، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة"1.
وقال المرعشي: "وأقول كما هجر الغزالي الكلام، كذلك هجرته وتبرأت وتبت منه إلى الله تعالى، الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، وأسأل الله ألا يحشرني يوم القيامة مع المتكلمين، وهذا القول مني بعد اشتغال بالكلام وتأليفي فيه "نشر الطوالع"2، والآن أتمنى أن أجمع نسخه المنتشرة وأحرقها بالنار، ولئلا يبقى مني أثر في الكلام، لكني لا أقدر على ذلك"3.
ونقل المرعشي قول أحد المتكلمين في حاشيته لشرح العقائد: "الاشتغال بتفاصيل علم الكلام يقسي القلب، ولذا نرى أكثر طلبته تاركي الصلاة، ومرتكبي الكبائر، ومضيعي العمر فيما لا يعنيهم"، ثم علق عليه فقال: يقول الفقير: "أما قسوة القلب فقد وجدناها بلا شك عند الاشتغال به، فنسأل الله يقيلنا عثراتنا"4.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولو جمعت ما بلغني في هذا الباب عن أعيان هؤلاء كفلان وفلان، لكان شيئا كثيرًا، وما لم يبلغني عن حيرتهم وشكهم أكثر وأكثر، وذلك؛ لأن الهدى هو فيما بعث الله به رسله، فمن أعرض عنه لم يكن مهتديا فكيف بمن عارضه بما يناقضه، وقدم مناقضه عليه"5.
1 التحف في مذاهب السلف للشوكاني ص74.
2 من العجب أن هذا الكتاب الذي تراجع عنه صاحبه، كان مقررا على طلاب المعاهد الدينية بالأزهر في فترة سابقة، وهو شرح لطوالع البيضاوي الأصولي المتكلم.
3 ترتيب العلوم للشيخ محمد المرعشي المعروف بـ"ساجقلي زاده" ص74.
4 المصدر السابق ص215.
5 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية "1/ 166".
وأخيرًا أقول: إن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وذكر هذه الأخبار عن علماء أهل الإسلام يدل على كمالهم وحسن مقصدهم، غفر الله لهم جميعا، قال الذهبي رحمه الله بعد أن ذكر الغلاة في الطوائف الإسلامية من أهل القبلة: "
…
قد ماجت به الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع، والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن"1.
وقال أيضا في حق الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله: "ولوا أن أبا حامد من كبار الأذكياء وخيار المخلصين، لتلف، فالحذار الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتهم في الحيرة فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم يغفر له، وينجو إن شاء الله"2.
1 سير أعلام النبلاء للذهبي "20/ 45، 46".
2 المصدر السابق "19/ 328، 329".