المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: استمداد علم التوحيد - طريق الهداية مبادئ ومقدمات علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة

[محمد يسري إبراهيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: أهل السنة والجماعة

- ‌الفصل الأول: مصطلح أهل السنة والجماعة

- ‌أولًا: تعريف المصطلح باعتبار مفرداته:

- ‌ تعريف السنة لغة واصطلاحًا:

- ‌ثانيا: تعريف المصطلح باعتبار تركيبه الإضافي:

- ‌الفصل الثاني: سبب التسمية وذيوعها:

- ‌الفصل الثالث: مشروعية هذه التسمية:

- ‌الفصل الرابع: بين مصطلح أهل السنة ومصطلحات أخرى

- ‌أولاً: الفرقة الناجية

- ‌ثانيا: الطائفة المنصورة:

- ‌ثالثا: أهل الحديث:

- ‌رابعا: السلف:

- ‌الفصل الخامس: الخصائص والصفات العامة لأهل السنة والجماعة

- ‌أولا: أهل السنة ليس لهم اسم يجمعهم سوى هذا الاسم:

- ‌ثانيا: أهل السنة لا يجمعهم مكان واحد، ولا يخلو عنهم زمان:

- ‌ثالثا: أهل السنة مشتغلون بأبواب الخير كافة:

- ‌رابعا: أهل السنة نمط واحد في باب الاعتقاد وأصول الدين:

- ‌خامسًا: أهل السنة أحرص الناس على الاتباع والائتلاف، وأبعد الناس عن الافتراق والاختلاف

- ‌سادسًا: أهل السنة أعلم الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعهم:

- ‌سابعًا: أهل السنة يجمعون بين واجب الاجتماع على الأئمة وأهل الحل والعقد من الأمة

- ‌ثامنا: أهل السنة يوالون بالحق ويعادون بالحق ويحكمون بالحق:

- ‌تاسعًا: أهل السنة أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

- ‌عاشرًا: أهل السنة لا يتخلون عن واجب، ولا تزال طائفة منهم قائمة به إلى قيام الساعة:

- ‌الفصل السادس: الانتساب لأهل السنة والجماعة:

- ‌الباب الثاني: علم التوحيد مبادىء ومقدمات

- ‌الفصل الأول: مبادىء علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: حد علم التوحيد

- ‌المبحث الثاني: أسماء علم التوحيد

- ‌المبحث الثالث: موضوع علم التوحيد

- ‌المبحث الرابع: حكم علم التوحيد

- ‌المبحث الخامس: فضل علم التوحيد

- ‌المبحث السادس: استمداد علم التوحيد

- ‌المبحث السابع: نسبة علم التوحيد

- ‌المبحث الثامن: واضع علم التوحيد

- ‌المبحث التاسع: غاية علم التوحيد

- ‌المبحث العاشر: مسائل علم التوحيد

- ‌الفصل الثاني: خصائص العقيدة عند أهل السنة والجماعة

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: التوقيفية "الربانية

- ‌المبحث الثالث: الوسطية

- ‌المبحث الرابع: العقلانية

- ‌المبحث الخامس: الفطرية

- ‌المبحث السادس: الشمولية

- ‌الفصل الثالث: قواعد وضوابط الاستدلاال على مسائل الاعتقاد

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين

- ‌المبحث الثاني: جمع النصوص في الباب الواحد وإعمالها

- ‌المبحث الثالث: اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها

- ‌المبحث الرابع: حجية فهم الصحابة والسلف الصالح

- ‌المبحث الخامس: الإيمان بالنصوص على ظاهرها ورد التأويل

- ‌المبحث السادس: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل

- ‌المبحث السابع: موافقة النصوص لفظًا ومعنى أولى من موافقتها في المعنى دون اللفظ

- ‌المبحث الثامن: الكف عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف

- ‌الملاحق

- ‌الملحق الأول: فهرس تفصيلي لمسائل العقيدة عند أهل السنة والجماعة

- ‌الملحق الثاني: تعريف ببعض مصنفات العقيدة عند أهل السنة والجماعة

- ‌الخاتمة:

- ‌المراجع:

- ‌فهرس الكتاب:

الفصل: ‌المبحث السادس: استمداد علم التوحيد

‌المبحث السادس: استمداد علم التوحيد

كل علم من العلوم يتوقف في وضع قواعده، والحكم في مسائله، وفهم حقيقة تلك المسائل على ما يستمده من غيره من العلوم والفنون، فهي بمثابة طرق ووسائل وأسباب ومصادر، وروافد تفيد في تقعيد قواعد ذلك العلم، وتعين على

طلبه ودرسه، وتلزم له، ويتوقف عليها.

وإذا كان علم التوحيد باعتباره لقبا على فن معين يعبر عنه بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العقدية المكتسب من الأدلة المرضية، ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية".

فإن علم التوحيد يستمد من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وذلك بمعرفة مناهج الاستنباط، وطرائق الاستدلال، واستخراج الأحكام عند أهل السنة، وهذا يلزم له إلمام بالعربية التي هي لسان الوحي، قرآنا وسنة، وبها نطق أهل العلم في الأمة من السلف الصالح، كما يلزم له إدامة نظر في كتب الشروح والتفسير المأثور للقرآن والحديث، مع بلوغ غاية من علم الأصول، إذ هو سبيل الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية، العقدية والعملية، التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية.

أنواع أدلة علم التوحيد:

وأما أنواع أدلة علم التوحيد المرضية، فهذا ما سنفصل فيه القول لعظيم أهميتها، وذلك؛ لأن علم التوحيد أوثق العلوم الشرعية دليلا، وأصرحها برهانا، وأظهرها بيانا، تقوم دعائم دلائله على صحائح المنقول، والإجماع الصحيح المتلقى بالقبول، ثم صرائح وبراهين المعقول، والطفرة المستقيمة السالمة من الانحراف،

وهذه إشارة إلى أنواع هذه الأدلة التي يؤيد بعضها بعضا.

ص: 160

أولا: صحائح المنقول:

إن صحائح المنقول تشمل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، والعقيدة في الله تعالى من أهم ما بين الله في كتابه، قال سبحانه:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، وأهم ذلك العقيدة في الله وفي أنبيائه ورسالاته، والغيب وما يحويه.

وعن السنة قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:"قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"1.

وبيان مسائل الاعتقاد من أول وأولى ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نصوص السنة، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الأمة وأفصحها، وأحرصها على الأمانة البلاغ والرسالة، لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب هي معول السلف، ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد.

قال شيخ الإسلام عن أهل السنة: "هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ويتبعون آثاره صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا"2.

يقول الإمام البربهاري: "واعلم أنه من قال في دين الله برأيه وقياسه، وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة، فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله ما لا يعلم

1 أخرجه أحمد "16692"، وابن ماجه "44" وهذا لفظه، وأبو داود "4607"، والترمذي "2676"، والحاكم "330" من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، والألباني في صحيح الجامع "4369".

2 مجموع الفتاوى "13/ 157".

ص: 161

فهو من المتكلفين، والحق ما جاء من عند الله عز وجل، والسنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ومن اقتصر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلج على أهل البدعة كلهم، واستراح بدنه، وسلم له دينه إن شاء الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ستفترق أمتي"، وبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية منها فقال:"ما أنا عليه وأصحابي" 1، فهذا هو الشفاء والبيان، والأمر الواضح، والمنار المستقيم"2.

وأهل السنة لا يستدلون بالقرآن دون السنة، بل بالسنة والقرآن، ولا يكمل دين العبد إلا بالإيمان بما فيهما؛ لأنهما مما أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:"ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" 3، فهما في الاحتجاج والاستدلال سواء، لا يعزل أحدهما من أجل التحاكم إلى الآخر، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .

يقول البربهاري: "وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا شك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم عنه ودعه"4.

ولا يعارض صحيح النقل -من أدلة علم العقيدة- بوهم الرأي وخطل القياس.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فكان من الأصول المتفق عليها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه

1 رواه الترمذي "2641" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: هذا حيث حسن غريب. وانظر: تحقيق الدكتور محمد سعيد القحطاني على شرح السنة للبربهاري ص45.

2 شرح السنة للبربهاري ص45.

3 رواه أحمد "16722"، وأبو داود "4604" من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه.

4 شرح السنة للبربهاري ص54.

ص: 162

ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده

فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل، ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط: قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول: فيجب تقديم العقل، والنقل إما أن يفوض وإما يؤول!

ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية تفسرها أو تنسخها، أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه"1.

وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحتج بها مطلقا -بشرط الصحة-، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها.

ثانيًا: الإجماع المتلقى بالقبول.

والإجماع مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من كتاب وسنة، وأكثر مسائل الاعتقاد محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، ولا تجتمع الأمة في أمور العقيدة ولا غيرها على ضلالة وباطل.

"فالإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه في العلم والدين، والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة"2، وعلى هذا فإجماع السلف الصالح في أمور الاعتقاد حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، وهو إجماع معصوم، ولا تجوز مخالفته، "فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة"3.

1 مجموع الفتاوى "13/ 27-29".

2 المصدر السابق "13/ 157".

3 المصدر السابق "20/ 164".

ص: 163

ثم يأتي في المرتبة الثانية بعد هذه الأصول الثلاثة المعصومة، مصدران آخران وهما: العقل السالم الصحيح، والفطرة المستقيمة السوية.

ثالثا: صرائح المعقول:

"العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدرًا مستقلا، بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة؛ لأن الاعتماد عل محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع"1، فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.

وقد رفع الوحي من قيمة العقل وحث على التعقل، وأثنى على العقلاء، قال تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17-18] .

والنصوص الشرعية قد جاءت متضمنة الأدلة العقلية صافية من كل كدر، فما على العقل إلا فهمها وإدراكها، فمن ذلك:

قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .

وقال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 53] .

وقال جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .

وخوض العقل في أمور الإلهيات باستقلال عن الوحي مظنة الهلاك وسبيل الضلال، يقول ابن رشد الفيلسوف -وهو ممن خاض بالعقل في مسائل الاعتقاد وطالت تجربته-: "لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من

1 إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص13.

ص: 164

الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء"1، والمقارنة بين طريقة الوحي وطرق الفلاسفة والمتكلمين في بحث أمور العقيدة هي مقارنة بين الصواب والخطأ، والصحيح والفاسد، والنافع والضار.

يقول الرازي -بعد طول بحث: "ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن"، وقال: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن

ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"2.

فميز الصحة المعقولات هي الموافقة للكتاب والسنة.

قال؟؟؟ "وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما؟؟؟ لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوا على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفا لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم"3.

والعقل قد يهتدي بنفسه إلى مسائل الاعتقاد الكبار على سبيل الإجمال، كإثبات وجود الله مع ثبوت ذلك في الفطرة أولًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مما يعلم بالعقل"4.

1 تهافت التهافت لابن رشد "2/ 547"، تحقيق د. سليمان دنيا.

2 شرح الطحاوية لابن أبي العز "1/ 244".

3 الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني "2/ 224".

4 مجموع الفتاوى "19/ 229، 230".

ص: 165

أما مسائل العقيدة التفصيلية مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ورسوله وأنبيائه، وما يجب لهم وما يستحيل، فما كانت العقول لتدركها لولا مجيء الوحي.

قال أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني: "ولأن العقل لا مجال له في إدراك الدين بكماله، وبالعلم يدرك بكماله"1، ويقصد بالعلم الوحي.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر، عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين"2.

وقال اللالكائي رحمه الله: "سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم، بلفظ خاص والمراد به العام:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقال تبارك وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد.

وكذلك وجوب معرفة الرسل بالسمع، قال الله تبارك وتعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . فدل على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة"3.

1 الحجة في بيان المحجة لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني "2/ 504".

2 الصارم المسلول لابن تيمية "2/ 459".

3 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "2/ 193-196".

ص: 166

ثم إن كثيرًا من مسائل الاعتقاد بعد معرفتها، والعلم بها لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد من أمور اليوم الآخر من الغيبيات التي لا يحيلها أو يردها العقل، ولا يوجبها أو يطلبها.

"ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن الكريم لتقرير مسائل الغيب، تنبيها للعقول على إمكان وجودها، فاستدل على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وعلى خلق الإنسان بخلق السماوات والأرض، وهي أعظم وأبلغ في القدرة، وعلى البعث بعد الموت بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الماء عليها"1.

قال السفاريني رحمه الله: "لو كانت العقول مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، فكذا الملزوم"2.

وأخيرًا فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، فالأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] .

قال شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية: "وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح؛ لأن ما خالف العقل الصريح باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلًا، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة"3.

1 منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان حسن "1/ 178".

2 لوامع الأنوار للسفاريني "1/ 105".

3 مجموع الفتاوى "11/ 490".

ص: 167

ولذا قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: "من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"1، وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما، ولا يمكن العالم أن يصير نبيا رسولا"2.

رابعا: الفطرة السوية:

أما الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد، أو هي الإسلام والدين القيم.

قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] .

قال ابن كثير رحمه الله: "فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"3.

قال شيخ الإسلام: "فالحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله، والخضوع له، والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية"4.

وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} معناه: أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة.

وفي الحديث الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هلى ترى فيها جدعاء؟ " 5، فمعنى خلق

1 السنة للخلال "3/ 579"، وفتح الباري لابن حجر "13/ 504".

2 شرح الطحاوية لابن أبي العز "1/ 231".

3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير "3/ 433".

4 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية "8/ 451".

5 أخرجه البخاري "1385"، ومسلم "2658" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 168

المولود على الفطرة هو: "أن الطفل خلق سليما من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه"1، والفطرة قبول الإسلام، فهي كالأرض الخصبة القابلة، والوحي كالغيث النازل من السماء، ما إن ينزل عليها حتى تهتز وتربو وتنتب من كل زوج بهيج.

والفطرة السوية تقبل الإسلام، وتهتدي إلى وجود الخالق بما أودع الله الخلائق من قوانين كلية، تظهر آثارها في الطفل الناشئ الذي لم يتعلم أو يتكلم، فهو يدرك أن الحادث لا بد له من محدث، وأن الجزء دون الكل، وأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين، وهذا من أوائل العقل وبواكيره، وقلوب بني آدم مفطورة على قبول الإسلام، وإدراك الحق ولولا هذا الاستعداد ما أفاد النظر ولا البرهان، شأنها في ذلك شأن الأبدان، فطرها الله تعالى قابلة للانتفاع، والاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا هذا الاستعداد لما حصل انتفاع.

والفطرة السوية تهدي العبد إلى أصول التوحيد والإيمان، وجمهرة أهل العلم من أهل السنة وغيرهم على فطرية الإيمان، وليس يحتاج العبد لتحصيله من أصله إلى استدلال أو برهان، فضلا عن أن يشك ويخرج من ثوب اليقين والإذعان، "والقلوب مفطورة على الإقرار به سبحانه أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغير من الموجودات، كما قالت الرسل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] "2.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى

1 مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية "2/ 333، 334".

2 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية "8/ 38".

ص: 169

يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة"1.

ويقول: "إن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وإنه أشد رسوخا في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة"2.

والفطرة تدل على اتصاف الخالق بالصفات العلي والكمال المطلق، فهي تدرك أن من يخلق لا يكون كمن لا يخلق قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] .

فالخالق لهذا الكون لا يستوي مع غيره، في صفاته وأفعاله وذاته، فهي تدرك علو الصفات، كما تدرك علو الذات، فإنه عارف مؤمن قط: يا الله، إلا وجد في نفسه ضرورة بطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، لا يجادل في ذلك مجادل.

والفطرة وإن غشيتها غاشية الإلحاد، تهتدي إلى تفرده تعالى بالألوهية يظهر ذلك في أوقات الشدة والمحنة، فإن القلب يفزع إلى خالقه، ويلجأ إلى بارئه، عند حلول الحوادث العظام والخطوب الجسام، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] .

"والإسلام بعقائده وأحكامه موافق للفطرة لا يعارضها، بل كلما كانت العقائد والأحكام بعيدة عن الإسلام، كانت معارضة للفطرة الصحيحة مضادة لها، ففي الفطرة محبة العدل وإيثاره، وبغض الظلم والنفار منه، واستقباح إرادة الشر لذاته، لكن تفاصيل ذلك إنما تعلم من جهة الرسل، فالطفل عند أول تمييزه إذا ضرب من خلفه

1 مجموع الفتاوى "16/ 328".

2 المرجع السابق "2/ 15-16".

ص: 170

التفت لعلمه أن تلك الضربة لا بد لها من ضارب، فإذا شعر به بكى، حتى يقتص له منه، فيسكن ويهدأ، فهذا إقرار في الفطرة بالخالق، وهو التوحيد، وبالعدل الذي هو شرعة الرب تعالى"1.

والعقل والفطرة وإن كانا من دلائل التوحيد، إلا أنه لا تقوم الحجة على بني آدم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقطع العذر، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، فلا عذاب إلا بعد إرسال الرسل، وقطع العذر، وإقامة الحجة، وقالت المعتزلة في الآية:{رَسُولًا} أي: العقل، وهو تحريف للكلم عن مواضعه، بدلالة قول الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] .

وهو سبحانه ما أهلك من قبلنا من الأمم إلا بعد إرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، قال تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208]، وقال سبحانه:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] .

فإن قيل: إذا كان وجود الله وتعظيمه مركوزا في الفطر، والعقول تستدل على ذلك، فعلام توقف التكليف على مجيء الرسول، وإنزال الكتاب؟

فيقال: إن إثبات كون الفطرة هي الإسلام، لا يقتضي خلق علم ضروري في نفس الإنسان، يجعله عالما بالعقيدة وأصولها، ونواقضها، قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] . كما أن الله تعالى تكرما منه لا يعاقب قبل بلوغ الحجة الرسالية: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] ، بل تمتنع المؤاخذة حتى يبعث إليهم الرسول، ومن حكمة

1 إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص240.

ص: 171

ذلك أن معرفة الله وإثبات وجوده المركوز في الفطر والعقول إجمالي لا تفصيلي، فالعقل لا يهتدي لكل كمالات الله تعالى، ولا يهتدي إلى كل ما يرضيه من الأقوال والأفعال، فلا بد له من وحي يهديه ويرشده، ويبين له معاقد الحل والحرمة في أفعال المكلفين، كما أن العقل والفطرة لا يدلان على عقوبة الآخرة لمن قصر في ذلك، فجاء الرسول ببيان ثواب التوحيد، وعقوبة الشرك في الدنيا والآخرة.

قال ابن القيم رحمه الله:

وكان الناس في لبس عظيم

فجاءوا بالبيان فأظهروه

وكان الناس في جهل عظيم

فجاءوا باليقين فأذهبوه

وكان الناس في كفر عظيم

فجاءوا بالرشاد فأبطلوه

وأخيرًا فإنه لا تعارض ولا تناقض -بحمد الله- بين فطر الخلائق على الإسلام وبين عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن الله تعالى: "وإن خلقه مولودا سليما، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره، وعلم ذلك"1.

1 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية "8/ 362".

ص: 172