الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: الانتساب لأهل السنة والجماعة:
إن تحقيق انتساب الفرد والطائفة إلى أهل السنة والجماعة هو أعظم المهمات، فهو طريق النجاة والعصمة في الدنيا من الفرقة والبدعة وذهاب الريح، وهو طريق النجاة في الآخرة من العذاب والتباب، قال جل وعلا:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
والتحقيق أنه طريق الإسلام المستقيم، وهو منهجه القويم، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] .
وقد فسر الصراط المستقيم بالسنة والجماعة1.
فالانتساب إلى أهل السنة والجماعة، والسلف الصالح، يعني الانتساب إلى الإسلام الصافي عن شوائب البدع، ومخالفات الفرق.
وإن كل من رضي الله بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، مقبلا على الألتزام بالإسلام جملة، وعلى تحكيم شريعته استسلاما وانقيادا، وبرئ من تبني مذهب بدعي، أو الانتساب إلى فرقة ضالة، أو اعتماد أصل كلي من أصول البدع، فهو من أهل السنة والجماعة إجمالًا، وهذا يشمل عوام المسلمين الذين لم ينضووا تحت راية بدعية، ولم يكثروا سواد فرقة غير مرضية.
فهذا القدر يحقق انتسابا إجماليا تصح به النسبة إلى أهل السنة والجماعة.
1 الإتقان في علوم القرآن السيوطي "2/ 469"، وله تفسيرات أخرى ذكرها أهل التفسير كالطبري والقرطبي وغيرهما.
وتتجلى أهمية هذا الانتساب وتظهر ثمراته في أمور منها:
أن ضبط أصول أهل السنة والتمسك بها عصمة من الاضطراب والتخبط العلمي والعملي، وفي ذلك ما لا يخفى من حفظ الدين من أنواع التحريف كافة، ومواجهة التيارات البدعية المنحرفة، سواء القديمة منها أو المعاصرة.
والانتماء الصادق إلى هذه الطائفة المباركة هو في حقيقته سبب وسبيل قاصد لوحدة العاملين في حقل الدعوة إلى الله عز وجل في كل زمان ومكان؛ لأن الاجتماع على هذا الانتماء أنجح وأنفع من الاجتماع على راية حزبية، أو دعوة إقليمية؛ لأنه اجتماع على منهج الحق والاتباع، وليس على حساب الحق والاتباع.
ثم إن شرف تجديد الدين الذي أخبر به خاتم الأنبياء والمرسلين لا يتأتى على وجهه الأكمل، وصورته المثلى إلا من الفرقة لاناجية، والطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة، إذ فيهم الأئمة المتقون، ومنهم المجددون السلفيون المصلحون.
وبناء على ما تقدم فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: بم يتحقق صدق الانتساب وتمامه، إذا تحققه أصله وأساسه؟
هل يتحقق ذلك بإثارة قضية، أو قضايا ناقشها السلف وعالجوها في كتبهم ومقالاتهم في زمانهم وفقط!
أم يتأكد بإظهار محبتهم، والترضي عنهم، وتعطير المجالس بذكرهم وحسب!
أو لعل هذا الانتساب يكون بتبني كتبهم والتوافر على قراءتها وتدريسها، دون غيرها!
أم أن الانتماء لهم يتحقق بمجرد التسمي باسم "أهل السنة والجماعة"، أو"أهل الحديث"، أو"السلف الصالح"، أو"الفرقة الناجية"!.
إلى غير ذلك من الإجابات المنقوصة لهذا السؤال المهم.
والحق أن كمال الانتساب يكون بتبني جملة أصول ومعالم مجتمعة، وبقدر ما يقع من الضعف في الأخذ بها جميعا، بقدر ما يحصل من الوهن في هذه النسبة الشريفة، ويمكن إجمال هذه المعالم في النقاط التالية:
أولا: تحقيق المنهجية الصحيحة:
وتعني العودة بأصول الفهم والتلقي، والاستنباط إلى الكتاب والسنة، وقواعد الفهم المعتبر لدى خير القرون، كما تعني تكوين أسلوب للنظر في كليات الأمور ومهماتها، وإنشاء منهجية للتعامل مع الأحداث، والحكم على المواقف والأشياء والأشخاص، وضبط المناحي العلمية والعملية كافة بطريقة منهجية، تنبثق من مشكاة الصحابة والتابعين، وسلف الأمة الصالحين، وأهل الحديث المتبعين.
وهذا يشمل العناية بمنهجية أصل أصول أهل السنة وهو العقيدة، ويشمل أيضا العناية بأصول العبادة ومنهج التنسك، والأمر والنهي، والسلوك والأخلاق ورياضة النفوس، مع التحقق بمحبتهم وموالاتهم رضي الله عنهم والتحلي بجميل شمائلهم.
ولا يصح قصر حقيقة الانتساب إلى أهل السنة والسلف على الاشتغال بمسائل ومشاكل سادت فترة ثم غابت، فإن المنهجية التي واجهت فتنة القول بخلق القرآن فأثمرت مواقف مشرقة حفظت وجه الحق ناصعا مبينا، يجب أن تحيا لتواجه اليوم فتنة تحكيم الشرائع الوضعية، والولاء للقومية والوحدة الوطنية.
قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
كما أكدت السنة هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به"1.
وعلى هذا فلا تتم النسبة الكاملة لأهل السنة بمجرد الوقوف عند قضايا واجهها السلف لملابسات زمانية أو مكانية، وإن لم تقم حاجة إلى إثارتها، أو مواجهتها في عالم اليوم.
وعليه فإن المنهجية الصحيحة لا تقبل أن تستهدف الدعوة في بعض المواقع تحرير العقائد من شرك الأموات والأوثان، ثم نضرب الذكر صفحًا عن شرك الأحياء والأوضاع، والنظم المعاصرة.
وإنما هي حرب على مظاهر الشرك كافة، وحياطة لجناب التوحيد عامة، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومستحقه في زمانه ومكانه.
ومن تحقيق المنهجية الصحيحة: تعظيم أقدار السلف، واعتمادهم مرجعية عامة، بالأخذ عن علمائهم، والتتلمذ على كتبهم، والفيئة إلى أحكامهم وفتاواهم، مع مراعاة سياق وسباق كل في ظروفه وملابساته.
ومن الانحراف عن المنهجية: احتكار الأسماء الشرعية الشريفة، أو المناهج الربانية المعصومة، وخلطها بالاجتهادات البشرية، وإلباسها لبوس الحزبية، وتشويهها بتحكمات مذهبية.
ومن الانحراف عن المنهجية: التعلق بالأشخاص دون المنهج، واختزال الأمة في شخص أو مجموعة أشخاص، إذ المنهج يبقى والأشخاص تفنى.
1 رواه مسلم "2408" من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
و"من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت"1.
وعليه فلا يصح اعتبار رجل عيارًا على المنهج وممثلا له دون النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الصديق رضي الله عنه، ذلك أن المنهج معصوم والبشر ليسوا بمعصومين، كل بني آدم خطاء.
ومن الانحراف عن المنهجية: اعتبار المسائل الاجتهادية -التي تختلف الفتوى بشأنها زمانا ومكانا وأشخاصا- من المنهج، ومن ذلك: تعميم اجتهادات آحاد السلف في المسائل العملية والفقهية، وإهدار الاجتهادات الأخرى، حيث إن المنهج بقواعده وضوابطه محل اتفاق، وليس محل اختلاف.
ثانيا: ضبط وإحكام القواعد والأصول علما وعملًا:
سواء في ذلك قواعد العلم، والتوحيد، والاتباع، والعبادة، والتزكية، والدعوة، والأمر والنهي، والجهاد، والتعامل مع الواقع، والاعتصام بالسنة، والحرص على الجماعة، ونحو ذلك....
وهذا لا يتأتى إلا بالإقبال على علومهم فهما واستيعابا، وجمعا وعرضا، وتطبيقا ودعوة.
ففي جانب العلم:
تجدر العناية بالقواعد الضرورية لطلب العلم والانتفاع به، كصحيح النية، والإخلاص تحقيقا للخشية، وتحصيلا لفضل الاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإقامة للدين، وحفظا للشريعة، وطلبا للتمكين.
كما يتأكد تقديم العناية بالتوحيد والإيمان، والتثنية بالفقه والأحكام، مع الحرص
1 صحيح البخاري "3670".
على الجوانب المثمرة من العلوم، والبعد عن الترف الفكري والجدل العقيم.
واعتماد التلقي عن الأكابر في كل علم باللقيا والمشافهة، والعناية بكتب أهل السنة سواء في الاعتقاد أو الأصول والأحكام، مع التنبه إلى خطورة الآفات والمزالق في طريق طلب العلم، كالتصدر قبل التأهل، والتوقر قبل أوانه، والعزلة عن واقع الأمة، والولع بالغرائب، والتعصب للرأي والمذهب، وازدراء المخالف.
وفي جانب التوحيد:
الحرص على سلامة العقيدة بالاعتماد على الكتاب والسنة، وتلقيها بفهم الصحابة وسلف الأمة، والتسليم لله تعالى ولرسوله صلى عليه وسلم من غير تعرض لنصوص الوحيين بمعارضة ومناقضة، وترك التخليط في مصادر التلقي وتصفيتها من كل منهج كلامي مردود، أو شوب فلسفي مذموم.
ومن ذلك: سد باب الابتداع والإحداث في الدين، ورد جميع ما خالف سنة سيد الأنبياء والمرسلين. مع الاحتياط التام في جانب التبديع والتكفير للمخالف من أهل القبلة وجهلة العوام من أهل الملة، لشبهة بدت أو سوء تأويل، والتفريق بين القول وقائله، والفعل وفاعله.
ومن ذلك: تحقيق شمولية علم العقيدة لأبوابها كافة بالجمع بين توحيدي الربوبية والألوهية في العناية والعرض والتعليم، وكذا الجمع في التناول بين قضايا الإيمان وحقائقه، ومبطلاته ونواقضه، والعناية بتوحيد الأسماء والصفات بجانبيه العلمي النظري، والعملي التربوي.
ومن ذلك: مواجهة الانحرافات المعاصرة بتحقيق عقيدة البراء من كل مخالف كل بحسبه، وتأصيل عقيدة الولاء لله ورسوله، وللمؤمنين كل بحسبه.
ومن ذلك: ربط العقيدة بآثارها العملية من استقامة الأخلاق، وانضباط السلوك، والتحرك بالدعوة إليها، فترى في أهداف صاحبها، وتسمع في أقواله، وتقرأ في كتاباته.
ومن ذلك: الصدور عنها في تقويم الأشخاص والأحداث والمواقف، واتخاذها دون غيرها من الأسماء والشعارات معقدا للتفرقة وفيصلا بين الخلق، والتقيد بها في منهج الدعوة كله، ورفض الوسائل التي تنافيها، والأساليب التي تناقضها.
ومن أهم ما يذكر فلا ينسى: اتقاد جذوة التضحية في سبيلها، واستعذاب المشاق في نصرتها، وبذل النفس والنفيس في رفعتها، وتكثير سواد أهلها1.
وفي جانب الاتباع:
يطلب تحقيقه وتقعيده علميا وعمليا، بالحذر من اتباع الهوى والتقدم بين يدي الله ورسوله بقول أو رأي، واتباع الدليل من القرآن والسنة، والإجماع والقياس وما استند إلى هذه المصادر.
ومن ذلك: فتح باب الاجتهاد في كل ما لم لم يرد فيه نص قاطع، أو إجماع صريح، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد في الجملة، كما لا يجب تقليد إمام بعينه.
وزلة العالم لا يتابع عليها ولا يهدر بسببها، والأصل في الفتوى أن تناط بأهل الاجتهاد فإن عدموا اعتبر الأمثل فالأمثل، والقول الوسط في التمذهب جوازه بلا تعصب.
ومن ذلك: التفريق بين مسائل الخلاف الاجتهادية التي لا ينكر على المخالف فيها ولا يضيق عليه، ومسائل الاختلاف التي لا يسوغ فيها خلاف، مع التأكيد على إحياء، وممارسة أدب الخلاف.
1 انظر: كتابنا معالم في أصول الدعوة ص9-21.
ومن أعظم أصول أهل السنة: التزام الطاعة للأئمة ما أقاموا كتاب الله في الأمة، وكما أن الاتباع واجب شرعي، فإن الاجتماع مطلب شرعي وضرورة عملية.
ويتحقق الاتباع العلمي والعملي بالاجتماع على أهل العلم الموافقين للسنة المتبعين لها قولا وعملا، وبالاجتماع على الإمام الحق ولزوم بيعته، والانضواء تحت رايته.
وفي جانب التزكية والتربية:
يتعين التأكيد على أنها مهمة الأنبياء والمرسلين، وهي من سبيل إقامة الدين، وبدونها لا يتأتى تغيير وإصلاح، وليست لها غاية تنتهي عندها، كما لا يستغني عنها المنتهي فضلا عن المبتدي، أنواعها كثيرة متعددة، فتربية علمية وأخرى وجدانية وثالثة جهادية.. ووسائلها لا تنحصر.
ومنهج التربية والتزكية يقوم على الوسطية: فكما أن أهل السنة وسط بين فرق الأمة في مسائل الاعتقاد فهم أيضا وسط في باب التربية، والسلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فهم وسط في باب الإخلاص بين المرائين والملامية1، وهم وسط بين المشتغلين بالعبادات القلبية دون العملية كالصوفية، والمشتغلين بإقامة رسوم العبادات الظاهرة فحسب، فكانوا أهل العبادة الظاهرة والباطنة.
وهم وسط بين من يريد من الله ولا يريد الله، وبين من يريد الله ولا يريد من الله، فهم يريدون رضا الله وجنته، وأما غيرهم فمنهم من يريد رضا الله ولا يريد جنته، كحال كثير من الصوفية، ومنهم من يريد نعيم الجنة المخلوق، ولا يريد رضا الله، كحال كثير من المتكلمة.
1 المراءون يعملون الصالحات بقصد رؤية الناس لهم وطلب مدحهم، وأما الملامية، فيفعلون ما يلامون عليه ويقولون: نحن متبعون في الباطن.
وهم وسط بين أصحاب الفجور والفواحش والاستهتار، وأصحاب الرهبانية والتشديد على النفس وتعذيب البدن.
ومنهج التربية والتزكية يقوم على السلفية: وموافقة نصوص الشارع في السلوك لفظا ومعنى، فليسوا كالذين وافقوا النصوص في اللفظ دون المعنى كالباطنية، وليسوا كالذين تكلموا في المعنى بألفاظ مبتدعة ككثير من الصوفية.
ومنهج التربية والتزكية يقوم على الواقعية والعملية: لا على السلبية أو المثالية.
فهو منهج التسديد والمقاربة، والقصد في الأمر كله، ومراعاة أحوال المكلفين، وتحقيق الملاءمة والمواءمة بين طبيعة هذا الدين وطبيعة المكلفين، فتكليف المندوبات والنوافل بحسب الوسع والطاقة، وأحب العمل أدومه وإن قل، والمؤمن يقول قليلا ويعمل كثيرًا.
ومن الواقعية إدراك أن تفاوت القدرات إنما هو بسبب تنوع المواهب، واختلاف الاستعدادات، ذلك أن الله قسم الأعمال والأخلاق كما قسم الأموال والأرزاق، وعلى كل أن يرضى بما فتح له فيه، وأفضل الأعمال بعد الفرائض يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه، ومن الناس من فتح له في كل باب، وضرب له في كل خير بسهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء1.
وفي جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يتعين التأكيد على أنه جهاد الدعوة الدائم، الذي لا قيام للدين بدونه، ولا اعتصام بحبل الله إلا هداه، وبإقامته على وجه الصواب استحقت هذه الأمة الخيرية، والنكول عنه والتهور فيه طرفان مذمومان، والقائمون به على وجهه يعلمون
1 انظر: كتابنا معالم في أصول الدعوة ص 51-62.
الحق ويرحمون الخلق وهم خير الناس للناس.
والوجوب فيه مرتبط بحصول القدرة وغلبة المصلحة، ويسقط بخوف الضرر المحقق، كما يسقط بالعجز، وينبغي الانكفاف عنه في حق الآحاد إذا أدى إلى ما هو أشد منه مفسدة وفتنة.
وتقدير المصالح والمفاسد في هذا الباب موكول إلى العالم الذي يوثق به علمًا وفطانة، وورعًا وديانة.
- والتدرج في الإنكار والنظر في المآلات، وتقديم الأهم على المهم، وزوال المنكر بالكلية، أو تخفيفه مطلوب شرعا.
وأما زوال المنكر مع زوال مثله من المعروف، أو حصول مثله من المنكر فموضوع اجتهاد ونظر، وأما زوال المنكر وحصول ما هو أكبر منه، أو فوات ما هو أكبر من المعروف فممنوع شرعا.
- ومع أن هذا الواجب من فرائض الوقت المضاعة ومن حرم الإسلام المهدرة، فإن حاجة الأمة اليوم إلى التألف والمداراة، وتصحيح المفاهيم، واستفاضة العلم والبلاغ، وبناء قاعدة الإيمان في القلوب، أمس من حاجتها إلى قصر الاحتساب على طائفة من المنكرات الجزئية في حين تنسى معالم الدين الكلية، وتلتبس معاقده وأصوله الكبرى، ومن حيث الوجوب، فليشمل الإنكار كل منكر، وأما من حيث الاشتغال بالتغيير فكل منكر بحسبه، وكل منكر بقدره.
- ولا يخفى أن هذا الواجب يشمل التغيير بمراتبه الثلاث، باليد واللسان والقلب، والثالثة لا تسقط أبدًا، والثانية لكل أحد في مواضع الإجماع والمسائل الجليات، ويختص أهل العلم بما وراء ذلك من مواطن الخلاف ودقائق المنكرات، ولا
تسقط هذه الرتبة خول لوم أو أذى خفيف.
وأما التغيير باليد فمشروط بحصول القدرة، وألا يؤدي إلى تحريك الفتنة، وأن يتقصر فيه على القدر المحتاج إليه من غير زيادة، وألا يترتب عليه من الضرر ما لا يحتمل في الدين، أو النفس، أو الغير1.
- وفي جانب إدراك الواقع وفهمه:
تكمن أهميته في أنه يعين على تحقيق البصيرة في النوازل فيسدد الفتاوى، ويحكم أمرها، وبه يتوصل إلى استبانة سبيل المجرمين، وتعرية مناهج المنحرفين، وتكميل التوازن في البنيان التربوي.
- وفي مقابل ما ذكر من أهميته، فإن الاستغراق فيه، والمغالاة في تناوله يفضي إلى الافتتان بالبهرج والزيف، وضعف وإغفال التأصيل الشرعي باعتبار أن الواقع هو الأصل تار، وبإغفال المنهج الصحيح في تلقي الأخبار والحكم على الرجال تارة أخرى، وبفقدان الاعتدال والتوازن بين فقه النص والواقع تارة ثالثة.
وكذا من سلبياته: الانعزال عن الأمة بحجة تخلف العامة عن الوعي المطلوب، فإذا عاد الوعي بعزلة ومفاصلة بين العالم وأمته، وبين الدعاة والعلماء، فقد أتى هذا الوعي بنقيض مقصوده، وكر الفرع على أصله بالإبطال، وهذا لا يجوز بحال.
وفي جانب الجهاد:
الجهاد من أعظم أصول الدين، وهو بيعة ماضية في أعناق المؤمنين، ومعنى الجهاد يشمل استفراغ كل وسع، وبذل كل جهد في نصرة الدين بالحجة والبيان، والدعوة والإرشاد، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
1 انظر: كتابنا معالم في أصول الدعوة، ص 71-77.
والجهاد ماض إلى يوم القيامة، وإنكار وجوبه إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، وادعاء نسخه بجهاد الكلمة بدعة في الدين وضلالة، ونقص في العقل وسفاهة.
وهدف الجهاد العام هداية الناس وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويدخل تبعا رد اعتداء المعتدين، وإزالة الفتنة عن المدعوين، وحماية وتقوية دولة المسلمين، وإرهاب أعداء الدين وترك الجهاد هو الهلكة والخسران المبين.
ولا بد في الجهاد من استيفاء الشرعية، وعدم الإضرار بالأم، بحصر الصراع مع أعدائها لا غير، مع وضوح الراية وسلامتها من ولاءات جاهلية، وشعارات عمية، وقبل ذلك وبعده أن تتحقق المصلحة من القتال بإعزاز الدين، والدفع عن المستضعفين وكف بأس الكافرين.
وينبغي التأكيد على الحذر من استعجال مواجهة من غير تهيؤ يرجح معه الظفر، ويتوقع معه قبول الأمة، وسلامة التوقيت زمانا ومكانا، واستفراغ الوسع في اتخاذ أسباب النصر المادية والمعنوية، وذلك لئلا ترجع هذه المواجهات بنقيض ما شرع الجهاد لتحقيقه من إعزاز الدين، وتقوية شوكة المسلمين.
وباستيفاء جميع ما تقدم على وجه السداد والمقاربة تتم النسبة الشريفة، وتكمل الفضيلة المنيفة، وترتقي ذرى الكمال والدرجات العلا في الجنة، ومن صفى صفي له.
قيل لسهل بن عبد الله: "متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟ "، قال: "إذا عرف من نفسه عشر خصال:
1-
لا يترك الجماعة.
2-
ولا يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
3-
ولا يخرج على هذه الأمة بسيف.
4-
ولا يكذب بالقدر.
5-
ولا يشك في الإيمان.
6-
ولا يماري في الدين.
7-
ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب.
8-
ولا يترك المسح على الخفين.
9-
ولا يترك الجماعة خلف كل وال جار أو عدل1.
ولم يذكر العاشرة، إلا أن يكون اعتبر الأخيرة قسمين:"وال جار"، أو"وال عدل"، فتتم المسائل العشرة.
وهذه المسائل كلها تجمع بين الأمور العلمية والعملية، وإنما ذكر مخالفة أهل البدع لأهل السنة والجماعة، وليس المراد أن من فعلها بمفردها دون بقية أمور الإيمان يكون من أهل السنة والجماعة.
1 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "1/ 183".