الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: سبب التسمية وذيوعها:
نسب أهل الحق إلى المصطلح، لأجل حرصهم على السنة والجماعة.
فهم "أهل السنة"؛ لأنهم متبعون لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"1. "فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة"2.
وهم "أهل الجماعة"؛ لأنهم يعتبرون الكتاب والسنة والإجماع مصادر معصومة من الضلال، فبها يأخذون، وعليها يعتمدون، ثم هم بعد ذلك مع أئمتهم مجتمعون، وبواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمون، وبالجهاد مع أئمتهم -فجارًا أو أبرارا- آمرون ومجاهدون، يجتمعون على السنة والاتباع، والبعد عن الفرقة والابتداع، فهم أحق بالجماعة التي من تعلق بها نجا، كما ورد في حديث افتراق الأمة، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي "الجماعة" 3، وفي رواية قال: "ما أنا عليه وأصحابي" 4.
1 رواه أحمد "16692"، والدارمي "95"، وابن ماجه "44"، وأبو داود "4607"، والترمذي "2676"، والحاكم "329" من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "4369".
2 مجموع الفتاوى "3/ 358".
3 أخرجه أحمد "16490"، وأبو داود "4597"، والحاكم "443" من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وصححه الحاكم، والشيخ الألباني في صحيح الجامع "2641".
4 أخرجه الترمذي "2641"، والحاكم "444" من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وقال المناوي في فيض القدير "5/ 347": وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، قال الذهبي: ضعفوه". وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي "7/ 334": "في سنده عبد الرحمن=
وسبب ذيوع هذه التسمية يرجع إلى أول بدعة وقعت في الإسلام، بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهي بدعة الخروج على الأئمة، وتشقيق الصف، وثلم الجماعة، ونكث الصفقة والبيعة، حين اتخذ الخوارج منهج فكريا عقائديا خالفوا به جماهير المسلمين، فكفروا بالذنوب واستحلوا الدماء والأموال، فقاتلهم علي رضي الله عنه، وأجمع الصحابة على ذلك، ووقعت في أثناء ذلك الفتنة بين علي رضي الله عنهما، وأريقت فيها الدماء، وتفرقت فيها الكلمة، ثم اجتمعت الأمة بعد ذلك على معاوية رضي الله عنه، بعد أن حقن الله دماء المسلمين بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة، وسمي ذلك العام -عام إحدى وأربعين- بعام الجماعة.
وفي إثر بدعة الخوارج ظهرت بدعة الروافض، الذين اشتهروا بالكذب، بخلاف الخوارج الذين اشتهر معظمهم بالصدق، فكان من شأن أهل السنة مع الروافض أن سألوا عن الإسناد وعنوا به، روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن سيرين قال:"لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى البدعة فلا يؤخذ حديثهم"1.
ثم ظهر قول القدرية2 بإنكار العلم السابق، وانتشر قول الجهمية والجبرية بأن العبد مجبور، فعقبت طائفة من أهل العلم بالرد على أهل البدع بتصنيف كتب في العقيدة أسموها "كتب السنة"، ومن اشتهرت هذه الطائفة من أهل العلم بالحرص على
= ابن زياد الأفريقي وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب". وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع "5345".
1 رواه مسلم في مقدمة صحيحه "1/ 15"، وأحمد في العلل ومعرفة الرجال "3640"، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل "2/ 28"، والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص209، والسمعاني في أدب الإملاء ص5، والخطيب في الكفاية ص122.
2 وهم الذين تبرأ منهم عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، حين سئل عنهم. كما في صحيح مسلم "8". وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي "1/ 16".
السنة، وتمييز المقبول من المردود من الرواة والروايات، فتبلور منذ ذلك الحين هذا المصطلح، الذي أصبح لقبا على كل من انتمى إلى أهل الحق المتبعين للسنة والآثار، الحريصين على جمع شمل المسلمين واتفاق كلمتهم في آن واحد.
حتى كان عصر الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله فأظهر الله تعالى إمامته وفضله، وحرصه على صفاء وجه السنة أن تخدشه بدعة القول بخلق القرآن -والتي جاء بها المعتزلة، مع حرصه على وحدة الجماعة أن تنثلم بالخروج على المأمون، فأقام واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجهه الصحيح، فنصر الله به الملة، وأعز به السنة، وثبت به قلب الأمة، ثم إنه قد اجتمعت لديه من أسباب الخروج على المأمون ما لم يجتمع لغيره، فقد أصغى الناس إلى الإمام سمعا، وألقوا إليه بأزمة القلوب انقيادًا وحبا، وقد أتى المأمون ببدعته -متأولًا- كفرًا، فلما قيل للإمام: لم لا تخرج على المأمون؟! قال: كرهت أن أفرق جماعة المسلمين، فلم تمنعه سطوة السلطان أن يقول بالحق إذ علمه، ولم يحمله بطش السلطان وتنكيله به على أن يخرج عليه فيكون سببا في إعمال السيف في رقاب المسلمين.
وبهذا استقر مذهب أهل السنة على ترك الخروج على المبتدع والظالم من الأئمة، ما لم يأت كفرا صريحا لا تأويل فيه ولا شبهة، وخرج الإمام من هذه المحنة إماما للعامة، وعندها دعي الإمام أحمد بإمام أهل السنة والجماعة، وكان أول من لقب بهذا اللقب رحمه الله.
وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فصار إماما من أئمة السنة، وعلما من أعلامها، لقيامه بإعلامها وإظهارها، وإطلاعه على نصوصها وآثارها، وبيانه لخفي أسرارها، لا؛ لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا، ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد، يعني: أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد، وهو كما قال"1.
1 منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية "2/ 606".