الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: حكم علم التوحيد
الحكم في اللغة: القضاء مطلقا أو القضاء بالعدل خاصة، وأصله من المنع1.
واصطلاحًا: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع2.
"وينبغي أن يعلم أن حكم العلم كحكم معلومه، فإن كان المعلوم فرضا أو سنة فعلمه كذلك، إذا توقف حصول المعلوم على تعلم ذلك العلم"3.
وفي الحق أن تعلم علم التوحيد منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، وهذا شأن العلوم الشرعية عامة.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "أجمع العلماء أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصته بنفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية، إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع"4.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره به وما نهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان"5.
1 لسان العرب لابن منظور "3/ 270"، والمصباح المنير للفيومي "1/ 145"، والقاموس المحيط للفيروزابادي ص1415.
2 التمهيد للأسنوي ص48، وشرح مختصر المنتهى للعضد "1/ 222".
3 ترتيب العلوم للمرعشي ص90.
4 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص10.
5 مجموع الفتاوى "3/ 328، 329"، "28/ 80".
وإن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقال سبحانه:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ، وفي حديث معاذ رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ "، قلت:"الله ورسوله أعلم"، قال:"حق اله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 1، وفي حديث معاذ الآخر قال صلى الله عليه وسلم:"فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"2.
فكان أول الواجبات وأوجب التكليفات، هو إفراد الله تعالى بالتوحيد والبراءة من الشرك باتفاق أهل السنة، وفي الحديث:"إن العبد أول ما يسئل في قبره من ربك، وما دينك، ومن الرجل الذي بعث فيكم"3.
قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله: "اعلم أن التوحيد هو أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل.. ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إلا الله، لا النظر4، ولا القصد إلى النظر5، ولا الشك6.. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب"7.
1 أخرجه البخاري "2856"، ومسلم "30".
2 أخرجه البخاري "1458"، ومسلم "19".
3 أخرجه أبو داود "3212"، وابن ماجه "1548".
4 وهذا مذهب الأشاعرة، انظر:"الإنصاف" للباقلاني ص22.
5 وهذا مذهب الجويني، انظر:"الإرشاد" للجويني ص3.
6 وهذا مذهب المعتزلة، انظر:"الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار، وهذا كله مبني على أن الإيمان بالخالق كسبي نظري في أصله، وأهل السنة على أن الإيمان بالخالق في أصله فطري وهبي.
7 شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز "1/ 21-23".
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في منظومته:
أول واجب على العبيد
…
معرفة الرحمن بالتوحيد
إذ هو من كل الأوامر أعظم
…
وهو نوعان أيا من يفهم
ومما يدل على أنه آخر واجب، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" 1، وفي الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه:"من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة"2.
فتعلم فرض العين من علم التوحيد هو أول الواجبات وأولاها، وأفرضها على المكلفين أجمعين.
وفرض العين منه، هو: ما تصح به عقيدة المسلم في ربه، من حيث ما يجوز ويجب ويمتنع في حق الله تعالى، ذاتا وأسماء وأفعالا وصفات، على وجه الإجمال، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالإيمان المجمل أو الإجمالي.
وهو ما يسأل عنه جميع الخلق، لما روي عن أنس بن مالك، وابن عمر ومجاهد في قوله عز وجل:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، قالوا: عن لا إله إلا الله3.
وأما فرض الكفاية من علم التوحيد، فما زاد على ذلك من التفصيل والتدليل والتعليل، وتحصيل القدرة على رد الشبهات وقوادح الأدلة، وإلزام المعاندين وإفحام المخالفين، وهذا ما يسمى بالإيمان التفصيلي، وهو المقدور على إثباته بالأدلة وحل ودفع الشبه الواردة عليه، وهو من أجل فروض الكفايات في علوم الإسلام؛ لأنه ينفي تأويل المبطلين وانتحال الغالين، فلا يجوز أن يخلو الزمان ممن يقوم بهذا الفرض الكفائي المهم،
1 أخرجه مسلم "917".
2 أخرجه مسلم "26".
3 أخرجه الطبراني في "الدعاء""1492، 1493، 1494، 1496، 1497"، بأسانيد لا تخلو من مقال.
إذا لا شك أن حفظ عقائد الناس أكثر أهمية من حفظ أبدانهم، وأموالهم وأعراضهم.
واختصارًا فإن حكم الشارع في تعلم علم التوحيد أنه فرض عين على كل مكلف، من ذكر وأنثى، وذلك بالأدلة الإجمالية، وأما بالأدلة التفصيلية ففرض على الكفاية.
ويشترط للتكليف بالتوحيد أربعة شروط، وهي: العقل، والبلوغ، وسلامة حاستي السمع أو البصر، وبلوغ الدعوة، وفيما يلي لمحة عنها:
1-
العقل:
ويقصد به الوصف الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان، فبه يتحصل على العلوم النظرية، ويدبر الصناعات الخفية، وينشأ هذا العقل في بطن الأم ويكتمل لدى البلوغ، وهو بهذا الاعتبار محض منحة الله وفضله.
وسمي هذ العقل عقلا؛ لأنه يعقل الإنسان عما يقبح، كما يعقل العقال الدابة، ويسمى هذا العقل بالعقل الغريزي أو الطبعي، وهو المشترط للتكليف، فإذا غاب تماما أو زال بالكلية، فقد أصبح الإنسان غير مكلف، وإذا أخذ الله ما وهب أسقط ما أوجب وفي الحديث:"رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"1.
1 رواه أحمد "1/ 154، 158"، وأبو داود "4401-4403"، والنسائي في الكبرى "7343-7347"، والترمذي "1423"، وابن حبان "143"، والدارقطني "3/ 183-139"، والحاكم "1/ 258""2/ 59"، والبيهقي "6/ 57""7/ 259""8/ 264-265"، والضياء في المختارة "415" من حديث علي مرفوعا وموقوفا، والصواب وقفه من قول علي غير مرفوع، كما ذكر النسائي والدارقطني وغيرهما. وانظر: علل الترمذي "ص/ 225-227"، وعلل الدارقطني "3/ 72، 192 رقم 291، 354".
وإلى هذا ذهب البخاري فأورده في صحيحه معلقا من قول علي كما في كتاب "الطلاق" من صحيحه "5/ 201" باب: "الطلاق في الإغلاق".
لكن رواه أحمد "6/، 100، 101، 144"، وأبو داود "4398"، والنسائي في الكبرى "5625"، وابن ماجه "2041"، والحاكم "2/ 59"، وابن حبان "142" من حديث عائشة رضي الله عنها. =
فالعقل الطبعي الموهوب هو شرط التكليف، ولكن لما كان التكليف لا يناط بكل مقدار من العقل، وإنما هناك درجة من العقل إذا بلغها الصبي كان مكلفًا، ولما كان من الصعب معرفة بلوغ الصبي تلك المرتبة التي هي مناط التكليف، فقد أقام الشارع البلوغ -كوصف ظاهر منضبط- دليلًا على اكتمال القدر المطلوب من العقل للتكليف.
2-
البلوغ:
ويقصد به انتهاء حد الصغر، وانتقال الصبي من حالة الطفولة إلى حالة الرجولة، وعنده يتم التكليف ويجري القلم، ويدرك الصغير قضاياه المصيرية، ويفكر بجدية في إجابات الأسئلة الضرورية، فإذا مات الصبي قبل البلوغ، فقد مات مرفوعا عنه القلم وناجيا عند الله تعالى، سواء في ذلك أبناء المسلمين والكفار على الراجح.
كما نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، فقال:"وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل"1.
وللبلوغ علامات وأمارات، اثنتان يشترك فيها الذكر والأنثى، وهما الإنزال أو الاحتلام والإنبات، واثنتان تخص الأنثى وهما الحيض والحبل، فإن لم يوجد شيء من ذلك فبالسن، وبيان الأمارات كما يلي:
الإنزال: وهو خروج المني دفقا بشهوة، يقظة أو مناما، بجماع أو بغيره.
قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] ، وأمر
= وصححه الحاكم، والألباني في صحيح الجامع "3512-3514" من حديث علي، وصححه الحاكم وابن حبان من حديث عائشة، ونقل الترمذي في العلل عن البخاري قوله في حديث عائشة:"أرجو أن يكون محفوظا". وله شواهد عن جماعة من الصحابة. انظر: نصب الراية للزيلعي "4/ 161".
1 الإجماع لابن المنذر ص111، وهو عند ابن قدامة في المغني "4/ 297"، والبهوتي في كشاف القناع "3/ 443"، وابن مفلح في البدع "4/ 332"، وابن حجر في الفتح "6/ 204".
الأطفال بالاستئذان بعد الاحتلام، دليل على أن الاحتلام يحصل به التكليف، وما ذلك إلا؛ لأن الشرع أثبت به البلوغ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المحتلم من بني قريظة، ففي الحديث الذي رواه عطية القرظي قال:"عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم -زمن قريظة- فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل"1.
الإنبات: وهو نبات الشعر الخشن -الذي استحق أخذه بالموسى- على العانة، ولا عبرة بالزغب الضعيف.
والإنبات علامة على البلوغ عند الحنابلة2 والظاهرية3، والراجح لدى المالكية4 مطلقا، لحديث عطية القرظي المتقدم، وعند الشافعية في حق الكافر دون المسلم -في الأصح5، وذهب الحنفية إلى عدم اعتباره مطلقا6.
والراجح مذهب الجمهور، ويشهد له حديث عطية القرظي، وفي بعض رواياته:"فإذا أنبت جعلوه في الرجال وحكمه القتل، وإن لم ينبت جعلوه في السبي، قال: فشكوا في فكشفوا عن مئزري، ونظروا إلى عورتي، فوجدوني لم أنبت"7.
1 رواه أحمد "18523"، والدارمي "2464"، وأبو داود "4404"، والترمذي "1584"، والنسائي "3429". وابن ماجه "2542"، وأبو عوانة "6476-6483"، والبيهقي "6/ 58"، وبعض أسانيده صحيحة، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم". أ. هـ.
2 المغني لابن قدامة "4/ 297"، وكشاف القناع للبهوتي "3/ 444".
3 المحلى لابن حزم "1/ 88، 89".
4 المدونة لمالك "6/ 220-221"، وحاشية الخرشي على مختصر خليل "5/ 291".
5 مغني المحتاج للخطيب الشربيني "2/ 167"، والمهذب للشيرازي "1/ 330".
6 حاشية ابن عابدين على الدر المختار لابن عابدين "6/ 153".
7 انظر: الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم "4/ 205"، والمعجم الكبير للطبراني "17/ 163"، والطبقات لابن سعد "2/ 76-77"، والاستيعاب لابن عبد البر "3/ 1072".
ومدار الحديث على عبد الملك بن عمير، وهو ثقة، وقد صرح بالتحديث فأمن من تدليسه.
وانظر: تهذيب الأسماء للنووي "1/ 308".
الحيض: وهو خروج دم أحمر، داكن بالسواد، منتن الريح، من فرج
المرأة عادة، وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ، قال القرطبي رحمه الله:"فأما الحيض والحبل، فلم يختلف العلماء في أنهما بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما"1، ونقل الإجماع غير واحد من العلماء"2.
الحبل: اتفقت المذاهب الأربعة على أن الحبل دليل على البلوغ، وذلك؛ لأن الحمل لا يكون إلا مع الإنزال، والإنزال بلوغ، فكان الحبل دليلا على البلوغ.
السن: فمتى بلغ الصغير خمس عشرة سنة ذكرًا كان أو أنثى عد بالغا -ما لم يبلغ بأمارة أخرى قبل ذلك-، وهذا قول الجمهور من الشافعية3 والحنابلة4 وأبي يوسف ومحمد بن الحنفية، ورواية عن أبي حنيفة5، وقول عند المالكية6.
واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في القتال -وأنا ابن أربع عشرة سنة- فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق -وأنا ابن خمس عشرة سنة- فأجازني"7.
وعند أبي حنيفة في الرواية الثانية إذا أتم الغلام ثماني عشرة سنة عد بالغا، وإذا أتمت الأنثى سبع عشرة سنة عدت بالغة8.
1 تفسير القرطبي "5/ 34".
2 وممن نقل الإجماع ابن حجر في الفتح "6/ 205".
3 الأم للشافعي "3/ 215"، والمهذب للشيرازي "1/ 330".
4 المغني لابن قدامة "4/ 298"، وكشاف القناع للبهوتي "3/ 443".
5 الهداية للمرغيناني "3/ 284"، وتبيين الحقائق للزيلعي "5/ 203".
6 حاشية الخرشي على مختصر خليل "5/ 291".
7 أخرجه البخاري "2664"، ومسلم "1868".
8 الهداية للمرغيناني "3/ 207".
ومشهور المالكية أن الصبي -ذكرا كان أو أنثى- يعد بالغا إذا أتم ثماني عشرة سنة1.
والراجح القول الأول، قال أبو بكر بن العربي:"والسن التي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم هي خمس عشرة سنة أولى من سن لم يعتبرها، وكذا اعتبر الإنبات علامة على البلوغ"2.
3-
سلامة حاسة السمع أو البصر:
الحواس جمع حاسة بمعنى القوة الحاسة المدركة، ومنها الحواس الخمس وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وهي تنقل إلى الأذهان ما تستطيع الإحساس به، فلا يدرك بواحدة ما يدرك بالحاسة الأخرى، والمدرك بشيء منها يقال له محسوس، وقد تكون تلك الحواس سليمة فتنقل نقلا صحيحا، وقد تكون عليلة أو مختلة فتنقل نقلا خاطئا أو مشوها.
"وهذه الحواس لا تستقل بإدراك المعاني والحقائق دون مساعدة العقل أو الدماغ، فالعقل أو الدماغ هو الذي يترجم هذه المحسوسات إلى معان، ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] ، حيث شبه الله الكافرين بالبهائم التي يناديها الراعي، وربما تكلم بعبارات لكنها لا تفهم منها إلا صوتا لا تميزه، فالبهائهم تسمع السوت، لكن لعدم المقدرة العقلية التي تمكنها من التمييز بين الأصوات ومعرفتها، فإن الأصوات عندها سواء، لا تحمل إليها شيئا من المعاني المعينة"3.
وأهم الحواس للتكليف حاسة السمع، فإن فقدت قبل حصول العلم فقد انسدت منافذ المعرف الصحيحة، وامتنع بلوغ الدعوة، وقيام الحجة على وجهها التام-
1 حاشية الخرشي على مختصر خليل "5/ 291".
2 أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي ص 320.
3 العلم أصوله ومصادره ومناهجه لمحمد الخرعان ص28، 29.
وإن أمكن نوع معرفة بالإشارة والكتابة ونحو ذلك-.
فعن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة يحتجون يوم القيامة أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات على فترة، فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام ولا أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات على فترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها كانت عليهم بردًا وسلاما"، وفي رواية أبي هريرة:"فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها"1.
فإذا أصيبت حاسة السمع دون البصر أمكن العلم بالإشارة والكتابة، ولا سيما بعد استحداث لغة للتخاطب مع الصم والبكم، وإن فقد البصر حصل العلم، بالسمع، فإن فقدنا معا فقد قام العذر المانع من بلوغ الحجة، ولم تنقطع المعذرة في الآخرة.
4-
بلوغ الدعوة وقيام الحجة:
فلا حساب ولا عذاب إلا بعد قيام الحجة الرسالية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب وقطع العذر على أكمل وجه، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: "ظاهر هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل لا يعذب أحدًا من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى يبعث إليه رسولا ينذره ويحذره، فيعصي ذلك الرسول ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار.
1 رواه أحمد "15866"، وابن أبي عاصم "404"، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح، وصححه الحافظ في الفتح "3/ 246"، والألباني في صحيح الجامع "881".
وقد أوضح سبحانه وتعالى هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، فصرح في هذه الآية الكريمة بأنه لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار"1.
والناس بحسب بلوغ الدعوة، وقيام الحجة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
أهل القبلة:
وهم الذين بلغتهم دعوة الرسول فآمنوا وشهدوا بالتوحيد، وماتوا على ذلك.
قال النووي رحمه الله: "اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازما خاليا من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا، إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية، أو لغير ذلك، فإنه يكون مؤمنا"2.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة"3.
وقال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، إلا حرمه الله على النار"4.
1 أضواء البيان للشنقيطي "2/ 320".
2 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 149".
3 رواه مسلم "27" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4 رواه البخاري "128"، ومسلم "32" من حديث أنس رضي الله عنه.
وأهل القبلة فيما جهلوه من أحكام التوحيد، ومقتضياته معذورون لقوله تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقال تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومثل هذا في القرآن متعدد، بين سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى يبلغه ما جاء به الرسول، ومن علم أن محمدًا رسول الله فآمن بذلك، ولم يعلم كثيرًا مما جاء به، لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان قبل البلوغ، فإنه لا يعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى"1.
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "فلا يأثم أحد إلا بعد العلم، وبعد قيام الحجة عليه، والله لطيف رءوف بهم، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وقد كان سادة الصحابة بالحبشة، وينزل الواجب والتحريم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يبلغهم إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص، وكذا يعذر بالجهل من لم يعلم حتى يسمع النص، والله أعلم"2.
أهل الفترة:
وهم كل من لم تبلغهم دعوة الرسل، ولم تقم عليهم الحجة، أو عاشوا بين موت رسول وبعثة رسول آخر، ولم تبلغهم دعوة الأول3.
فمن لم تبلغهم دعوة الرسول مطلقا، وماتوا على الشرك فهم معذورون في الدنيا بمعنى أن الله تعالى لا يعاجلهم بعذاب الاستئصال، ولا يتسلط عليهم المؤمنون
1 مجموع الفتاوى "22/ 41، 42".
2 الكبائر للذهبي ص 12.
3 تفسير الطبري "10/ 156".
بالقتال، حتى تبلغهم الدعوة، فإن ماتوا على ما عاشوا عليه من عدم الإيمان فهم ممتحنون في الآخرة -على الراجح- بنار يؤمرون باقتحامها، فمن أطاع في الآخرة، فإنه من أهل الطاعة في الدنيا لو جاءته الرسالة، ومن عصى في الآخرة، فإنه من أهل الكفر في الدنيا لو جاءته الرسالة، وهذا الامتحان يكشف علم الله تعالى في كل بسبق السعادة أو الشقاوة، وهذا مذهب السلف وعامة أهل السنة، كما نقله ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين1، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه مقالات الإسلاميين.
ولا يرد على هذا المذهب أن الآخرة دار جزاء لا عمل؛ لأن التكليف إنما ينقطع بدخول دار القرار، وأما في البرزخ، وعرصات القيامة فلا ينقطع.
قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] ، والتكليف باقتحام النار مع مشقته ممكن لا يمتنع، وقبل هذا وبعده فقد صح بهذا الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الأسود بن سريع رضي الله عنه -وقد تقدم قريبا- وفيه:"وأما الذي مات على فترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها كانت عليهم بردًا وسلاما"2.
الكفار:
وهم كل من سمع بدين الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن ظاهرا وباطنا، فكل من سمع بهذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يؤمن فهو كافر من أهل النار.
قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا
1 انظر: طريق الهجرتين لابن القيم ص587، 588.
2 تقدم تخريجه.
يسمع بي أحد من هذه الآمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أهل النار" 1.
قال ابن حزم رحمه الله: "فإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به على من سمع بأمره عليه السلام، فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق والمغرب، وجزائر البحور والمغرب وأغفال الأرض من أهل الشرك، فسمع بذكره عليه السلام، ففرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به
…
وأما من بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به ثم لم يجد في بلاده من يخبره عنه، ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرئ فيها الحقائق"2.
ولو وجد من هؤلاء الكفار جهلة مقلدون لم يصلهم نور الإسلام، ولم يسمعوا به، فهؤلاء قد يعذرون في الآخرة، ولا يعذرون في الدنيا.
قال ابن القيم رحمه الله: "اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار، وإن كانوا جهالا مقلدين لرءوسهم وأئمتهم"3.
1 أخرجه مسلم "153".
2 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم "5/ 109، 110".
3 طريق الهجرتين لابن القيم ص 411.