الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويشققون الظروف، ويعزرون أهل الفواحش1. وقد قاموا بتأديب أهل الجبل المعروفين بالنصيرية، وألزموهم بأحكام الإسلام الظاهرة.
كما كان له رحمه الله ولأتباعه دور عظيم في دفع التتار عن الشام، وهزيمتهم في وقعة "شقحب" وغيرها2، وله موقفه العظيم المعروف مع السلطان حين تأخر عن المجيء إلى دمشق مع اقتراب التتر منها3.
ولا يزال أعلام وأئمة أهل السنة على هذا الدرب سائرين، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فهو جهاد الدعوة الدائم، ودورها الذي لا قيام للدين بدونه، ولا اعتصام بحبل الله إلا على هداه.
1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير "14/ 11".
2 المصدر السابق "14/ 8-10، 13-15، 21-24".
3 انظر: المصدر السابق، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب "2/ 395-396".
عاشرًا: أهل السنة لا يتخلون عن واجب، ولا تزال طائفة منهم قائمة به إلى قيام الساعة:
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ومن أعظم أصول الدين، وهو شريعة ماضية إلى يوم القيامة، ولا تزال الطائفة المنصورة قائمة به، تقالت في سبيل نصرة اهذا الدين، لا تتخلى عن هذا الأمر، حتى يقاتل آخرها المسيح الدجال.
وقد وردت هذه المعاني كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمما ورد في استمرار الجهاد وبقائه إلى يوم القيامة، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 1، ورواه عروة بن أبي الجعد البارقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الخيل معقود في نواصيها إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم"2.
1 روه البخاري "2849"، ومسلم "1871" من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
2 رواه البخاري "2852"، ومسلم "1873" من حديث عروة البارقي رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "وفقه هذا الحديث أن الجهاد مع كل إمام إلى يوم القيامة"1.
ومما ورد في حمل أهل السنة لراية الجهاد إلى يوم القيامة ما رواه جابر بن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة"2.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة"3.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال"4.
فهذه الروايات -وغيرها- تبين أن الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة لا تقف عند حد جهاد الكلمة، ببيان الحق، والدعوة إليه بالحسنى، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل من خصائصها أيضا القيام بواجب الجهاد في سبيل الله، وقتال أعداء الله من الكفار والمنافقين وغيرهم، وهم في جهاد مستمر مع أعداء الدين لا ينقطع بحال من الأحوال إلى يوم القيامة، حتى يقاتلوا المسيح الدجال.
وإذا كان هذا حالها، فإنها تنتقل من معركة إلى معركة، ومن ميدان إلى ميدان، تدال على أعدائها فتشكر، ويدالون عليها فتصبر، ولا يخطر ببالها اعتزال الميدان أو ترك الجهاد.
1 سنن الترمذي "4/ 202".
2 رواه مسلم "1922".
3 سبق تخريجه.
4 رواه أحمد "19419"، وأبو داود "2484"، ورواه الحاكم "2392" من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وصححه الحاكم، والشيخ الألباني في صحيح الجامع "7294".
وهذا لا يعارض ما وجد ويوجد في بعض الأمكنة والأزمنة من ترك الجهاد، مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منه، فوقع في الأمة كما أخبر.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"1.
فإننا كما نجد مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في واقع الأمة في الأزمنة المتأخرة، من الإخلاد إلى الأرض، وترك الجهاد، والرضى بالزرع، والتبايع بالربا، وتسلط الأعداء، ونزع المهابة، وإصابتها بالوهن، نجد أيضا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من دوام الجهاد واستمراره، وبقاء طائفة من أمته يقاتلون على الحق ظاهرين.
فلا تكاد راية الجهاد تسقط من يد إلا وتتلقفها أيادي أخرى، مصداقا لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم} [المائدة: 54] .
ومقتضى هذا الوعد ألا يزال في الأمة مؤمنون مجاهدون، باذلون، صابرون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم، وهؤلا هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة.
1 رواه أبو داود "3462"، وأبو يعلى في مسنده برقم "5659"، والبيهقي في السنن الكبرى "10484، وقد صححه ابن القيم في تعليقه عل مختصر سنن أبي داود، والشيخ الألباني في صحيح الجامع "423".
حادي عشر: أهل السنة أكرم الناس أخلاقا، موصوفون بالاستقامة في الهدي والسمت والسلوك الظاهر:
قال الله عز وجل مادحا نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال صلى الله عليه وسلم:
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 1، وقد ندبنا الله عز وجل إلى الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] .
إن أهل السنة والجماعة هم حملة ميراث النبوة في جانبيها العلمي والعملي، ولا شك أن أبرز الجوانب العملية في الهدي النبوي هو الجانب الأخلاقي، ولذلك فإن أخلاق النبوة -من الرحمة، ومحبة الخير للناس، واحتمال أذاهم، والصبر على دعوتهم، هي المنبع الذي يستقي منه أهل السنة خصائصهم السلوكية والأخلاقية، والتي لا تقل أهمية في منظور الحق عن ميراث العلم والهدى الذي اختص به الله هذه الفرقة الناجية بفضله ورحمته.
قال شيخ الإسلام: "الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى هدى ورحمة للعالمين، فإنه كما أرسله بالعلم والهدى والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم واحتماله، فبعثه بالعلم والكرم والحلم، عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح
…
فهو يعلم، ويهدي، ويصلح القلوب، ويدلها على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا عوض. وهذا نعت الرسل كلهم
…
وهذه سبيل من اتبعه
…
وكذلك نعت أمته بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس: تأتون بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة، فيجاهدون ويبذلون أنفسهم وأموالهم، لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك
1 أخرجه أحمد "8729"، والبخاري في الأدب المفرد "273"، والتاريخ الكبير "835"، والحاكم في المستدرك "13"، والبيهقي في السنن الكبرى "10/ 191، 192"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم، وابن بد البر في التمهيد "24/ 333، 334"، والألباني في صحيح الجامع "2349". قال فضل الله الجيلاني:"لا يكون دين من الأديان خاليا من مكارم الأخلاق، لكن لم تكن الأخلاق الكريمة مجموعة كلها في دين من الأديان السابقة حتى جمع الله في دين الإسلام كل ما كان من أخلاق حسنة في أي دين، فهذا معنى: $"أتمم مكارم الأخلاق".. أي: أبلغ نهايتها" باختصار من فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد "1/ 271".
لجهلهم، كما قال أحمد في خطبته: الحمد الله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، إلى آخر كلامه
…
وهو سبحانه وتعالى يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها، وهو يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات. وقد قيل أيضا: وقد يحب الشجاعة ولو على تقل الحيات، ويحب السماحة ولو بكف من تمرات"1.
وقال أيضا: "يأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" 2، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى، والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة عى الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها، وكل ما يقولونه، أو يفعلونه من هذا أو غيره، فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة"3.
وقد تميز أهل السنة بهذه الخصلة الجميلة -كرم الخلق وحسن الهدي والسمت، وحرصوا عليها أشد الحرص.
قال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم"4.
1 مجموع الفتاوى "16/ 313-317".
2 أخرجه أحمد "7354"، والدارمي "2792"، والترمذي "1162"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الجامع "1230".
3 مجموع الفتاوى "3/ 158".
4 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي "1/ 79".
وقال حبيب بن الشهيد لابنه: "يا بني ائت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم، وهديهم، فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث"1.
فاقتدى السلف الصالح رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخلقوا بأخلاقه، وامتثلوا ما أمرهم به، وانتهوا عما نهاهم عنه، وكانوا كما قال الله عز وجل:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] .
قال الإمام مالك رحمه الله: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام قالوا: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا"2.
وقال الحسن البصري: "إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين"3.
وقيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟ فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعا فتنعم به، قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره4.
وذكر الذهبي أن مجلس الإمام أحمد رحمه الله خمسة آلاف، خمسمائة يكتبون، والباقون يستمدون من سمته وخلقه وأدبه5.
1 المصدر السابق "1/ 80".
2 تفسير ابن كثير "4/ 205".
3 تذكرة السامع والمتكلم ص2.
4 سير أعلام النبلاء "11/ 316".
5 سير أعلام النبلاء "11/ 316".