الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: التوقيفية "الربانية
"
وتعني أن أهل السنة لا يقتبسون عقيدتهم إلا من مشكاة النبوة، قرآنا وسنة، لا عقل ولا ذوق ولا كشف، ولا يجعلون شيئًا من ذلك معارضا للوحي، بل هذه إن صحت كانت معضدة لحجة السمع، فالوحي هو الأصل المعتمد في تقرير مسائل الاعتقاد.
قال قوام السنة الأصبهاني: "وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبهم الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتبا والسنة، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه، وشكروا لله هيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجوده مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب ولاسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل، وهذا معنى قول أبي سليمان الداراني، وهو واحد زمانه في المعرفة: "ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتت بهما، وإلا رددته في نحرها. أو كلام هذا معناه"1.
وقال شيخ الإسلام: "ولا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه"2.
"فالذين يزعمون أنهم يستمدون شيئا من الدين عن طريق العقل والنظر، أو علم الكلام والفلسفة، أو الإلهام والكشف والوجد، أو الرؤى والأحلام، أو عن طريق
1 الحجة في بيان المحجة للأصبهاني "2/ 226".
2 مجموع الفتاوى "3/ 347".
أشخاص يزعمون لهم العصمة غير الأنبياء، أو الإحاطة بعلم الغيب "من أئمة أو رؤساء أو أولياء، أو أقطاب أو أغواث
…
أو نحوهم"، أو يزعمون أنه يسعهم العلم بأنظمة البشر وقوانينهم، من زعم ذلك فقد افترى على الله أعظم الفرية"1.
أسباب التوفيقية:
وأما الأسباب التي حملت أهل السنة على الوقوف عند النصوص، وعدم تجاوزها فيمكن إجمالها فيما يأتي:
أولًا: تواتر النصوص الآمرة باتباع الكتاب والسنة ولزومهما.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . قال عطاء: "طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة"2.
وقال ابن القيم: "روى أبو داود في مراسيله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى بيد بعض أصحابه قطعة من التوراة فقال: "كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم الذي أنزل على نبيهم" 3، فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] ، فهذا حال من أخذ دينه عن كتاب منزل على غير النبي، فكيف بمن أخذه عن عقل فلان وفلان، وقدمه على كلام الله ورسوله"4.
1 بحوث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر العقل ص33.
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماع لللالكائي "1/ 72"، وتفسير الطبري "5/ 147".
3 المراسيل لأبي داود "454" عن يحيى بن جعدة. وراجع أثر ابن عباس في النهي عن سؤال أهل الكتاب، رواه البخاري "2685".
4 جلاء الأفهام لابن القيم ص179-181.
ثانيًا: ثبوت كمال الدين وتمام تبليغ الرسالة:
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أوقف أمته على أصول ومسائل العقيدة بحيث لم يترك من تفاصيلها شيئًا إلا بينه، وهذ المعنى من ضرورات إكمال الدين الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، إذ العقيدة هي أهم ما في الدين.
نقل شيخ الإسلام رحمه الله عن الخطابي قوله: "وكان الذي أنزل عليه -أي النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، فلم يترك شيئًا من أمور الدين، قواعده وأصوله، وشرائعه وفصوله، إلا بينه وبلغه، على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال، ومعلوم أن أمر التوحيد، وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدًا في كل وقت وزمان، ولو أخر عنه البان لكان التكليف واقعًا بما لا سبيل للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز"1.
وقال ابن القيم: "فعرف أي النبي صلى الله عليه وسلم الناس ربهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدأ وأعاد واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، حتى تجلت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب عنها، كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب.. وعرفهم الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع حسنًا إلا أمرهم به، ولا قبيحًا إلا نهاهم عنه، كما قال: "ليس من عمل يقرب إلى
1 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية "7/ 295، 296".
الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقر إلى النار إلا قد نهيتكم عنه" 1، قال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا وهو أذكرنا منه علمًا"2.
وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع بابًا من العلم النافع للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلًا إلا بينه وشرحه، حتى هدى الله به القلوب من ضلالها، وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشر أحق بأن يحمد منه؟ وجزاه عن أمته أفضل الجزاء"3.
ويقول ابن عبد البر رحمه الله: "ليس في الاعتقاد كله، في صفات الله وأسمائه، إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو ضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه"4.
ثالثًا: حرمة القول على الله بغير علم:
لقد حرم الله تعالى الكلام بلا علم مطلقًا، وخص القول عليه بلا علم بالنهي، فقال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
1 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه "7/ 79"، وهناد في الزهد "1/ 28"، والحاكم في المستدرك "2136"، والبيهقي في شعب الإيمان "7/ 299" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفيه انقطاع في إسناده يعلم من علل الدارقطني "5/ 273 رقم 875"، ومعناه مشهور في الشريعة لا يحتاج مثله لإسناد، ومن ذلك حديث المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما تركت شيئًا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئًا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه". رواه الشافعي في الأم "7/ 229" بإسناد لا بأس به.
2 أخرجه أحمد في المسند "20854"، والطبراني في المعجم الكبير "1647".
3 جلاء الأفهام لابن القيم ص179-181.
4 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر "2/ 117، 118".
قال شيخ الإسلام: "وكل من أثبت لله ما نفاه عن نفسه، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه من المعطلة والممثلة، فإنه قال على الله غير الحق، وذلك مما زجر الله عنه بقوله للنصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] ، وبقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] ، وقال عن الشيطان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] ، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . فإن من قال غير الحق، فقد قال على الله ما لا يعلم، فإن الباطل لا يعلم إلا إذا علم بطلانه، فأما اعتقاد أنه الحق فهو جهل لا علم، فمن قاله فقد قال ما لا يعلم"1.
مظاهر التوقيفية:
والتوقف عند النصوص ودلالاتها كانت له آثار، ومظاهر في منهج أهل السنة والجماعة في تقرير مسائل الاعتقاد، وقطع النزاع حولها، فمن ذلك:
1-
الرد إلى الوحي عند النزاع، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . قال مجاهد: "كتاب الله وسنة نبيه، ولا تردوا إلى أولي الأمر شيئًا"2.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات، والقدر، والوعيد، والأسماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك يردونه إلى الله
1 مجموع الفتاوى "12/ 464، 465".
2 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي "1/ 73"، وتفسير الطبري "5/ 147".
ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف: فما كان من معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان فيها مخالفًا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم"1.
2-
حبس اللسان عن الكلام في العقيدة إلا بدليل هاد من الكتاب والسنة، واعتماد ألفاظ ومصطلحات الكتاب والسنة عند تقرير مسائل الاعتقاد وأصول الدين، والتعبير بها عن المعاني الشرعية، وفق لغة القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] . قال ابن عباس: "أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة"2، وقال مجاهد:"لا تفتئتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضيه الله على لسانه"3.
"فلا بد من الالتزام بالكتاب والسنة ومعقولهما لفظًا ومعنى، فلا يستعمل في التعبير عن القعيدة إلا الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة، ويجب أن تستعمل هذه الألفاظ فيما سيقت فيه من المعاني المرادة بها في الكتاب والسنة، فهو توقيف في مصادر العقيدة، وفي ألفاظها وأساليب التعبير عنها"4.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه، وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول"5.
1 مجموع الفتاوى "3/ 347".
2 انظر: روح المعاني للألوسي "26/ 132"، وتفسير ابن كثير "4/ 206".
3 انظر: تفسير البغوي "4/ 209".
4 المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية لإبراهيم البريكان ص62، 63.
5 مجموع الفتاوى "5/ 432".
3-
التسليم لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم، من غير تعرض لنصوص الوحيين بتحريف أو تأويل، أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، وترك نصب شرك التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل، ومجانبة الجدال والمراء في نصوص العقيدة ومعاقدها الكلية، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين العقل والنقل، فمرده إلى الوهم في قطعية أحدهما ثبوتًا أو دلالة.
4-
سد باب الابتداع والإحداث في الدين، ورد جميع ما خالف سنة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، فمستند المشروعية -أبدًا- هو موافقة الشريعة المطهرة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر"1.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال: عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها، ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتحمق، فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم، فإنهم علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم علي لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فيما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم، وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان"2.
5-
وأخيرًا فإن هذه التوقيفية والربانية لها أثرها العظيم في عصمة أهل السنة وعلومهم من الخطأ والزلل، والانحراف والاضطراب في فهم العقيدة، وترك التخليط
1 المرجع السابق: "1/ 86".
2 مجموع الفتاوى "4/ 7".
في مصادر التلقي والمرجعية، وتصفيتها من كل نفس كلامي مردود، أو شوب فلسفي مذموم، أو دخل مسلكي مبتدع، فالعقيدة ترجع إلى مصدر موثوق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الوحي الذي تكفل الله تعالى بحفظه.
قال قوام السنة الأصبهاني: "غير أن الله أبي أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفًا عن سلف، وقرنًا عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من الدين المستقيم، والصراط القويم، إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث"1.
كما أن من ثمرات التوقيفية أنها ضمانة لتوحيد كلمة الأمة على منهج واحد، عندما تلتقي على هذا الوحي الإلهي بما فيه من موازين لا تضطرب، ولا نتأرجح ولا تتأثر بالهوى والدوافع الذاتية.
قال قوام السنة الأصبهاني: "وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف"2.
وقال رحمه الله: "ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد. ونقلهم واحد، لا ترى بينهم
1 الحجة في بيان المحجة للأصبهاني: "2/ 223، 224".
2 المصدر السابق: "2/ 226".
اختلافًا ولا تفرقًا في شيء وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ "1.
وإذا كان أهل السنة يستقون عقيدتهم من نبع واحد هو الوحي المعصوم، حتى صارت التوقيفية من أخص خصائص العقيدة عندهم، فإن أهل الأهواء والبدع قد تعددت مشاربهم، وخلطوا في مصادر عقائدهم، فتراهم يستدلون بالعقليات والأوهام، والظنون، والذوق، وآراء الرجال، والفلسفات، والروايات الضعيفة، وما لا أصل له، وغير ذلك من المصادر المنحرفة، وما كان من النصوص موافقًا لأصولهم البدعية وأهوائهم الردية أثبتوه، وما كان منها مخالفًا لأقوالهم وآراء كبرائهم تأولوه وردوه، فلم فلم يكن اعتمادهم في الحقيقة على الكتاب والسنة، بل على أصولهم البدعية.
قال ابن القيم رحمه الله: "وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول ما يخالف نحلتها ومذهبها، فالعيار على ما يتأول وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه، والقواعد التي أصلتها، فما وافقها أقروه ولم يتأولوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعه وإلا تأولوه، ولهذا لما أصلت الرافضة عداوة الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأولوه، ولما أصلت الجهمية أن الله لا يتكلم ولا يكلم أحدًا، ولا يرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مبائن لخلقه، ولا له صفة تقوم به، أولوا كل ما خالف ما أصلوه، ولما أصلت القدرية أن الله سبحانه لم يخلق أفعال عباده، ولم يقدرها عليهم أولوا كل ما خالف أصولهم، ولما أصلت المعتزلة القول بنفوذ الوعيد، وأن من دخل النار لم يخرج منها أبدًا، أولوا كل ما خالف أصولهم، ولما أصلت المرجئة أن الإيمان هو المعرفة، وأنها لا تزيد ولا تنقص، أولوا ما خالف أصولهم، ولما أصلت الكلابية أن الله سبحانه لا
1 المصدر السابق: "2/ 224، 225".
يقوم به ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وسموا ذلك حلول الحوادث، أولوا كل ما خالف هذا الأصل، ولما أصلت الجبرية أن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل بوجه من الوجوه، وأن حركات العباد بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار، أولوا كل ما جاء بخلاف ذلك، فهذا في الحقيقة هو عيار التأويل عند الفرق كلها"1.
ولما سار أهل السنة في طريق الوحي المعصوم، وصلوا إلى جنة الحق، وعصموا من الخطأ والزلل والاضطراب، وكانوا أمة واحدة لا تفرق بينهم، ولا اختلاف في مسائل الاعتقاد، ولما تنكب غيرهم الطريق، فخالفوا أمر رب العالمين، باتباع الصراط المستقيم، وعدم اتباع سبل الشياطين، وخالفوا أمر النبي الأمين، فولجوا الأبوا المفتحة، وهتكوا الستور المرخاة، تحقق فيهم وعيده سبحانه لمن خالف أمره وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فتفرقوا عن سبيله واختلفوا، وزلوا واضطربوا، ووقعوا في التناقض، وأتوا بالعجائب، فهم في أمر مريج، يبدع بعضم بعضًا، ويفسق بعضهم بعضًا، ويكفر بعضهم بعضا، ذلك بما قدمت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد.
قال قوام السنة الأصبهاني رحمه الله: "وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعًا وأحزابًا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضًا؛ بل يرتقون إلى التفكير يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره، تراهم أبدًا في تنازع وتباغض اختلاف، تنقضي أعمارهم ولم تتفق كلماتهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [سورة الحشر: 14] "2.
1 الصواعق المرسلة لابن القيم: "1/ 230-232".
2 الحجة في بيان المحجة للأصبهاني: "2/ 225".
المبحث الثاني: الغيبية
"الغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك"1.
وقل الراغب الأصفهاني: "الغيب: مصدر غاب الشيء بمعنى استتر عن العيون، يقال: غاب عني كذا، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان، بمعنى الغائب.
والغيب: هو ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداهة العقول، بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة، وإنما يعلم بخبر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام"2.
والغيبية كأحد خصائص العقيدة الإسلامية تعني قيام العقيدة على التسليم بوجود الغيب، كما تعني وجوب الإيمان بكل ما ورد في النصوص الشرعية من أمور الغيب، وعدم رد شيء منها أو تأويلها.
قال قتادة في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] . "آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، وكل هذا غيب"، وقال أنس رضي الله عنه:"الذين يؤمنون بالغيب: آمنوا بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب"3.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] :
1 تفسير القرطبي "1/ 163"، وانظر: لسان العرب لابن منظور "10/ 151-153".
2 مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص366-367، وانظر: تفسير البيضاوي "1/ 104"، وتفسير أبي السعود "1/ 53".
3 تفسير الطبري "1/ 101".
"اختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه، وضعفه ابن العربي، وقال آخرون: القضاء والقدر، وقال آخرون: القرآن: القرآن وما فيه من الغيوب، وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض؛ بل يقع الغيب على جميعها، قلت: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت1
…
وذكر الحديث" 2.
مظاهر ودلائل الغيبية:
والغيبية واحدة من الركائز الكبرى، والخصائص العظمى في العقيدة، حيث إن كثيرًا من مسائل العقيدة وقضاياها يقع في نطاق الغيب، ولذلك شواهد كثيرة في الشرع، فمن ذلك:
1-
أن الباري رضي الله عنه ابتدأ كتابه العزيز بذكر هذه الركيزة كخاصية من خواص المؤمنين اللازمة، وصفة من صفاتهم البارزة.
قال تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1-3] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولما كانت سورة البقرة سنام القرآن ويقال: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، افتتحها الله بأربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في
1 رواه مسلم من حديث عمر، وروى البخاري ومسلم نحوه في حديث أبي هريرة.
2 تفسير القرطبي "1/ 163".
صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين"1.
2-
ما ورد في فضل المؤمنين بالغيب وعظم أجرهم، وبيان أن الإيمان بالغيب هو أفضل الإيمان، وأعظم مقامات الدين.
فعن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا ثم عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله:"إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانًا أفضل من إيمان بغيب"2.
وقال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] : "فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم فلكم أعظم الأجر والكرامة"3.
وقال رحمه الله: "الإيمان بالغيب أجل المقامات على الإطلاق"4.
وكما أن الإيمان بالغيب يقوم على أساس متين من الشرع، فهو يقوم كذلك على أساس متين من الفطرة والعقل.
فالإيمان بالغيب حاجة فطرية عند الإنسان؛ بل هو من خصائص الإنسان الفطرية التي يتباهى بها؛ إذ يشترك مع سائر الحيوانات في إدراك المحسوسات، ويتميز عنها بالإيمان بالغيب كما جاء به الوحي، دون دخول في الخيالات الباطلة، والأوهام الزائفة، والخرافات والشطحات.
1 مجموع الفتاوى "7/ 200".
2 رواه الحاكم "3033"، وصححه، وابن منده في كتاب الإيمان "1/ 371"، بإسناد صحيح.
3 زاد المعاد لابن القيم "3/ 220".
4 طريق الهجرتين لابن القيم "1/ 437".
"ولو كانت نزعة الإيمان بالغيب، والتطلع إليه من ناحية طرفيه: الماضي والآتي، عنصرًا من عناصر الفكرة الدينية وحدها، لكان الإنكار لما وراء الحس إلحادًا فحسب، ولو كانت هي النتيجة الختامية لتقدم العلوم واتساع أفقها، لكان هذا الإنكار نقصًا في العلم وقصرًا في النظر، وكفى. أما وتلك النزعة بنت الغريزة والجبلة، فإن الأمر أعظم من ذلك وأخطر: إنه نكسة في فطرة الإنسان ترده إلى مستوى الحيوان الأعجم، ولا نقول إلى مستوى الطفولة الغافلة، فإن كثيرًا من الأطفال ذوي الفطرة السليمة لا يقنعون بالأمر الواقع المشاهد، ولا يقفون في تعليله عند حلقة من حلقات أسبابه وغاياته القريبة؛ بل يصعد دائمًا إلى أسبابه الأولى، ويسترسلون في تعريف نتائجه الأخيرة، فهذه صورة مصغرة من تلك النزعة الفكرية الإنسانية التي هي أبدًا في حركة، وتقدم يأبيان الوقوف والجمود"1.
كما أن الأمور الغيبية التي تضمنتها العقيدة لا تناقض العقل -وإن حار فيها- ولا وسيلة له لإنكارها والتكذيب بوجودها، وليس فيها شيء يضطر الإنسان إلى رفضها، والتخلي عنها بعد بلوغه أي مرحلة من مراحل الارتقاء الفكري والعلمي.
فهناك أمور لا يستطيع العقل أن يصل إليها؛ لأنها لا تقع في محيط تجربته وعمله، ولا تستطيع الأدوات التي يحصل بها المعرفة، وهي أدوات الحس، أن تصل إليها؛ لأنها خارجة عن نطاق المحسوسات، وإن كان في إمكان العقل أن يعقلها حين تبين له، فهذه تلقن للعقل تلقينا عن طريق الوحي، ويكون دور العقل أن يعلمها، لا بطريق التجربة أو الحس، ولكن عن طريق التيقن من صدق الخبر وصدق المخبر، وهو مدعو إلى القيام بعملية التيقن هذه بكل الوسائل التي يملكها
…
وهي مؤدية إلى الغاية الصحيحة حين يستقيم العقل.
1 الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان د. محمد عبد الله دراز ص95.
وباستقراء استعمالات العرب لكلمة الغيب ومشتقاتها، نجد أنها تقابل الشهادة وليست مقابلة للشيء الموجود أو الشيء المعقول، وقد جمع الله تعالى بين الكلمتين كثيرًا، كما في قوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، فكل منهما تقابل الأخرى كما أنها أيضًا ليست مقابلة للشيء الواقع كما يظن بعض الناس، حيث يكون عندهم الإيمان بالغيب إيمانًا بغير الواقع، فليس الغيب معدومًا، ولا هو الذي يحكم العقل باستحالته، أو يكون غير واقعي.
ومن هنا يتبين خطأ الذين يعتبرون الإيمان بالغيب إيمانًا بشيء غير معقول، أي مخالفًا للعقل، أو مخالفًا للواقع، أو إيمانًا بشيء معدوم، وذلك؛ لأن الغيب ليس مقابلًا للموجود في لغة العرب، ولا مقابلًا للمعقول بمعنى ما يقبله العقل، ولا مقابلًا للشيء الواقع، وإنما هو مقابل للشهادة، أي الشيء الحاضر المشهود1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، ولم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه -أي في العقل- قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًا وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم"2.
وقال رحمه الله: "والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس، ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس، فلهذا قال الأئمة: ليس في المنصوصات النبوية قياس، ولا تعارض بالأمثال، ولا تدرك بالعقول، وأما كونها لا تعارض الأمثال المضروة، فهذا
1 انظر: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، وعباده المرسلين للشيخ مصطفى صبري "2/ 72"، ففيه تفصيل ومناقشات حول هذه الفكرة.
2 مجموع الفتاوى "3/ 339".
يعني أن النصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح، وأما أنها لا تدرك بالعقول فإن نفس الغريزة العقلية التي تكون للشخص قد تعجز عن إدراك كثير من الأمور لا سيما الغائبات، فمن رام بعقل نفسه أن يدرك كل شيء كان جاهلًا، لا سيما إذا طعن في الطرق السمعية النبوية الخبرية، وهذا هو الذي يسلكه من يسلكه من الفلاسفة، ومن يشبههم من أهل الكلام"1.
وقال ابن القيم رحمه الله: "الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته؛ بل أخبارهم قسمان: أحدهما ما تشهد به العقول والفطر. الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب، ولا يكون خبرهم محالًا في العقول أصلًا، وكل خبر يظن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما يكون الخبر كذبًا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدًا، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح، قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] "2.
وإذا كان الإيمان بالغيب من خصائص المؤمنين بصفة عامة، فإن أهل السنة تميزوا في هذا الباب بقبول كل ما ورد على لسان الرسل الكرام من أمور الغيب إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا، وتجنبًا للشبهات والشكوك الناشئة عن إقحام العقول في مجال غير مجالها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإيمان بالغيب لا يتم إلا بالإيمان بجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى"3.
1 درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية "7/ 326".
2 الروح لابن القيم ص62.
3 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية ص137.
وقال ابن القيم رحمه الله: "الثاني: قبول ما غاب للحق، وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله، من أمور المعاد وتفصيله، والجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال، وطي العالم، وما قبل ذلك من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه، فقبول هذا كله إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا هو اليقين، بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة، ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه، فإنه إن يهلك يقينه أفسده وأضعفه"1.
وإذا كان موقف أهل السنة هو التسليم الكامل، والإيمان التام بكل مسائل الغيب كما ورد بها النقل، وذلك من خصائص عقيدتهم؛ فإن أهل البدع لم يقفوا من هذه المسائل، ولا من تلك الخصيصة موقف أهل السنة؛ بل عارضت طوائف
منهم كثيرًا من أمور الغيب بعقولهم المريضة وآرائهم الفاسدة، فردوا بعضها
وأولوا بعضها، وخلطت طوائف أخرى بين أمور الغيب والخرافات والأوهام التي لا يقبلها عقل صحيح، ولا فطرة سليمة.
ومن أمثلة ما أنكره أصحاب العقول الفاسدة ما يلي:
1-
عذاب القبر ونعيمه:
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما أقوال أهل البدع والضلال، فقال أبو الهذيل والمريسي من خرج عن سمة الإيمان، فإنه يعذب بين النفختين والمسألة في القبر إنما تقع في ذلك الوقت، وأثبت الجبائي وابنه البلخي عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار والفساق على أصولهم.
1 مدارج السالكين لابن القم "2/ 402".
وقال كثير من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة الله بمنكر، ونكير وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجه إذا سئل، والنكير تقريع الملكين له.
وقال بعض المعتزلة: إن الله سبحانه يعذب الموتى في قبورهم ويحدث فيهم الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام وأحسوا بها، قالوا: وسبيل المعذبين من الموتى كسبيل السكران والمغشي عليه، لو ضربوا لم يجدوا الآلام، فإذا عاد عليهم العقل أحسوا بألم الضرب، وأنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسًا، مثل ضرار بن عمرو، ويحيى بن كامل وهو قول المريسي، فهذه أقوال أهل الخزي والضلال"1.
2-
رؤية الله تعالى:
وكذا أنكروا رؤية الله تعالى في الآخرة، فذهبت المعتزلة والجهمية وغيرهم إلى وجوب نفي رؤية الله تعالى؛ بل كفروا من لم يعتقد ذلك.
قال القاضي عبد الجبار: "الرؤية بالأبصار على الله مستحيل"، "ومما يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية"2.
قال ابن النحاس رحمه الله: "وخالفوا في ذلك المعتزلة والجهمية، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وطوائف من المرجئة، وطوائف من الزيدية، الذين ذهبوا إلى القول بأن الله تعالى لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يجوز عليه ذلك"3.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "والجهمية والمعتزلة يقولون: من أثبت لله الصفات وقال: إن الله يرى في الآخرة، والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فإنه مجسم مشبه والتجسيم باطل"4.
1 الروح لابن القيم ص57، 58.
2 المختصر في أصول الدين للقاضي عبد الجبار "1/ 220".
3 رؤية الله تبارك وتعالى لابن النحاس ص25.
4 منهاج السنة النبوية لابن تيمية "2/ 107".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل الله متقطعون"1.
3-
حوض النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنكر المعتزلة حوض النبي صلى الله عليه وسلم الثابت بالقرآن والسنة.
قال الإمام السفاريني رحمه الله: "خالفت المعتزلة فلم تقر بإثبات الحوض مع ثبوته بالسنة الصحيحة الصريحة؛ بل وبظاهر القرآن"2.
4-
الشفاعة:
وأنكر المعتزلة والخوارج الشفاعة لأهل الكبائر:
قال القاضي البيضاوي: "تمسكت المعتزلة بهذه الآية3 على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار، ويؤيد هذا أن سياق الخطاب معهم، والآية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم"4.
ومن أمثلة ما أثبته أصحاب العقول التائهة ما يلي:
أدخل الصوفية في أمور الغيب الخرافات، والأوهام مما لم يأت في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونذكر بعض أقوالهم في الإلهام والإسراءات والمعاريج الصوفية، وهي من مصادر التلقي عندهم، وهذه الأقوال غيض من فيض، ونقطة في بحر الخرافات والأوهام الذي غرقوا فيه، وجعلوا يغرفون منه معتقداتهم وتصوراتهم وآراءهم.
1 حادي الأرواح لابن القيم ص196.
2 لوائح الأنوار السنية للسفاريني "2/ 173".
3 وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] .
4 تفسير البيضاوي "1/ 60".
قال ابن عربي: "
…
فإن الملك قد ينزل على الولي التابع بالاتباع، وبإفهام ما جاء به النبي مما لم يتحقق هذا الولي بالعلم به، وإن كان متأخرًا عنه بالزمان، أعني متأخرًا عن زمان وجوده، فقد ينزل عليه بتعريف صحة ما جاء به النبي وسقمه، مما قد وضع عليه، أو توهم أنه صحيح عنه، أو ترك لضعف الراوي وهو صحيح في نفس الأمر، وقد ينزل عليه الملك بالبشرى من الله بأنه من أهل السعادة والفوز، وبالأمان
…
"1.
ويقول إبراهيم الدسوقي: "عليكم بتصديق القوم في كل ما يدعون، فقد أفلح المصدقون، وخاب المستهزئون، فإن الله تعالى يقذف في سر خواص عباده ما لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل
…
فما للعاقل إلا التسليم، وإلا فاتوه وفاتهم، وحرم فوائدهم، وخسر الدارين"2.
وقام الشعراني: "قد صرح المحققون بأن للأولياء الإسراء الروحاني إلى السماء، بمثابة المنام يراه الإنسان، ولكل منهم مقام معلوم لا يتعداه، وذلك حين يكشف له حجاب المعرفة، فكل مكان كشف له فيه الحجاب حصل المقصود به، فمنهم من يحصل له ذلك بين السماء والأرض، ومنهم من يحصل له ذلك في سماء الدنيا، ومنهم من ترقى روحه إلى سدرة المنتهى، إلى الكرسي، إلى العرش"3.
وقال أبو يزيد البسطامي: "عرج بروحي، فخرقت الملكوت، فما مررت بروح نبي إلا سلمت عليه، وأقرأتها السلام، غير روح محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان حول روحه ألف حجاب من نور
…
"4.
1 الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي "3/ 316".
2 المصدر السابق "3/ 316".
3 كشف الحجاب والران عن وجه أسئلة الجان للشعراني ص52.
4 النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص111-112.
وقال إبراهيم الدسوقي: "أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي كلمته
…
"1.
ولا حول ولا قوة إلا بالله
…
1 انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص207.