الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الثاني: السنة
1:
1-
تعريفها.
2-
حجيتها.
3-
نسبتها إلى القرآن.
4-
أقسامها باعتبار سندها.
5-
قطعيها وظنيها.
تعريفها:
السنة في الاصطلاح الشرعي: هي ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير.
فالسنن القولية: هي أحاديثه التي قالها في مختلف الأغراض، والمناسبات مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار". وقوله: "في السائمة زكاة"، وقوله عن البحر:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وغير ذلك.
والسنن الفعلية: هي أفعاله صلى الله عليه وسلم مثل أدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها، وأدائه مناسك الحج، وقضائه بشاهد واحد ويمين المدعي.
والسنن التقريرية: هي ما أقره الرسول مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه، فيعتبر بهذا الإقرار والموافقة عليه صادرا عن الرسول نفسه، مثل ما روى أن صحابيين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فلما قصا أمرهما على الرسول أقر كلا منهما على ما فعل، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين، ومثل ما روى أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له:"بم تقضي"؟ قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي فأقره الرسول وقال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".
1 لفظ السنة معناه في اللغة العربية الطريقة ومنه قوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، وكما يطلق على الطريقة المحمودة تطلق على الطريقة المذمومة، وقد جاء في الحديث:"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
حجيتها:
أجمع المسلمون على أن ما صدر عن رسول الله، من قول أو فعل أو تقرير. وكان مقصودا به التشريع والاقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع، أو الظن الراجح، بصدقه يكون حجة على المسلمين، ومصدرا تشريعيا يستنبط منه المجتهدون الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، أي أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانونًا واجب الاتباع.
والبراهين على حجية السنة عديدة:
أولها: نصوص القرآن، فإن الله سبحانه في كثير من آي الكتاب الكريم أمر بطاعة رسوله، وجعل طاعة رسوله طاعة له. وأمر المسلمين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله وإلى الرسول، ولم يجعل للمؤمن خيارا إذا قضى الله ورسوله أمرا، ونفى الإيمان لمن لم يطمئن إلى قضاء الرسول ولم يسلم له، وفي هذا كله برهان من الله على أن تشريع الرسول هو تشريع إلهي واجب اتباعه.
قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، وقال سبحانه:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، وقال:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فهذه الآيات تدل باجتماعها وتساندها دلالة قاطعة على أن الله يوجب اتباع الرسول فيما شرعه.
وثانيها: إجماع الصحابة رضوان الله عليهم في حياته، وبعد وفاته على وجوب اتباع سننه، فكانوا في حياته يمضون أحكامه ويمتثلون لأوامره ونواهيه وتحليله وتحريمه، ولا يفرقون في وجوب الاتباع بين حكم أوحي إليه في القرآن وحكم صدر عن الرسول نفسه، ولهذا قال معاذ بن جبل:"إن لم أجد في كتاب حكم ما أقضي به ما قضيت بسنة رسول الله". وكانوا بعد وفاته إذا لم يجدوا في
كتاب الله حكم ما نزل بهم رجعوا إلى سنة رسول الله. فأبو بكر كان إذا لم يحفظ في الواقعة سنة خرج فسأل المسلمين: "فهل فيكم من يحفظ في هذا الأمر سنة عن نبينا؟ " وكذلك كان يفعل عمر وغيره ممن تصدى للفتيا والقضاء من الصحابة، ومن سلك سبيلهم من تابعيهم وتابعي تابعيهم بحيث لم يعلم أن أحدا منهم يعتد به خالف في أن سنة رسول الله إذا صح نقلها وجب اتباعها.
وثالثها: أن القرآن فرض الله فيه على الناس عدة فرائض مجملة غير مبينة، لم تفصل في القرآن أحكامها ولا كيفية أدائها، فقال تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، ولم يبين كيف تقام الصلاة وتؤتى الزكاة ويؤدى الصوم والحج، وقد بين الرسول هذا الإجمال بسننه القولية والعملية؛ لأن الله سبحانه منحه سلطة هذا التبيين بقوله عز شأنه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
فلو لم تكن هذه السنن البيانية حجة على المسلمين، وقانونا واجبا اتباعه ما أمكن تنفيذ فرائض القرآن ولا اتباع أحكامه، وهذه السنن البيانية إنما وجب اتباعها من جهة أنها صادرة عن الرسول، ورويت عنه بطريق يفيد القطع بورودها عنه أو الظن الراجح بورودها، فكل سنة تشريعية صح صدورها عن الرسول فهي حجة واجبة الاتباع، سواء كانت مبينة حكما في القرآن أم منشئة حكما سكت عنه القرآن؛ لأنها كلها مصدرها المعصوم الذي منحه الله سلطة التبيين والتشريع.
نسبتها إلى القرآن:
أما نسبة السنة إلى القرآن، من جهة الاحتجاج بها والرجوع إليها لاستنباط الأحكام الشرعية، فهي المرتبة التالية له بحيث إن المجتهد لا يرجع إلى السنة للبحث عن واقعة إلا إذا لم يجد في القرآن حكم ما أراد معرفة حكمه؛ لأن القرآن أصل التشريع ومصدره الأول، فإذا نص على حكم اتبع، وإذا لم ينص على حكم الواقعة رجع إلى السنة، فإن وجد فيها حكمه اتبع.
وأما نسبة السنة إل القرآن من جهة ما ورد فيها من الأحكام، فإنها لا تعدو واحدا من ثلاثة:
1-
إما أن تكون سنة مقررة ومؤكدة حكما جاء في القرآن. فيكون الحكم له مصدران وعليه دليلان: دليل مثبت من أي القرآن، ودليل مؤيد من سنة
الرسول، ومن هذه الأحكام الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير الحق، وغير ذلك من المأمورات، والمنهيات التي دلت عليها آيات القرآن، وأيدتها سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويقام الدليل عليها منهما.
2-
وإما أن تكون سنة مفصلة ومفسرة ما جاء في القرآن مجملا، أو مقيدة ما جاء فيه مطلقا أو مخصصة ما جاء فيه عاما، فيكون هذا التفسير أو التقييد أو التخصيص الذي وردت به السنة تبيينًا للمراد من الذي جاء في القرآن؛ لأن الله سبحانه منح رسول الله حق التبيين لنصوص القرآن بقوله عز شأنه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، ومن هذا السنن التي فصلت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت؛ لأن القرآن أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، ولم يفصل عدد ركعات الصلاة، ولا مقادير الزكاة، ولا مناسك الحج. والسنن العملية والقولية هي التي بينت هذا الإجمال، وكذلك أحل الله البيع وحرم الربا، والسنة هي التي بينت صحيح البيع وفاسده وأنواع الربا المحرم. والله حرم الميتة، والسنة هي التي بينت المراد منها ما عدا ميتة البحر. وغير ذلك من السنن التي بينت المراد من مجمل القرآن ومطلقه وعامه، وتعتبر مكملة له وملحقة به.
3-
وإما أن تكون سنة مثبتة ومنشئة حكما سكت عنه القرآن، فيكون هذا الحكم ثابتا بالسنة ولا يدل عليه نص في القرآن، ومن هذا تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور. وتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب على الرجال، وما جاء في الحديث:"يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب". وغير ذلك من الأحكام التي شرعت بالسنة وحدها ومصدرها إلهام الله لرسوله، أو اجتهاد الرسول نفسه.
قال الإمام الشافعي في رسالته الأصولية: "لم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه، أحدها: ما أنزل الله عز وجل فيه نص كتاب، فسن رسول الله مثل ما نص الكتاب، والآخر: ما أنزل الله عز وجل فيه جملة فبين عن الله معنى ما أراد، والوجه الثالث: ما سن رسول الله مما ليس فيه نص كتاب.
ومما ينبغي التنبيه إليه أن اجتهاد الرسول في التشريع أساسه القرآن وما بثه في نفسه من روح التشريع ومبادئه، فهو يستند في تشريعه الأحكام إلى القياس على ما جاء في القرآن، أو إلى تطبيق المبادئ العامة لتشريع القرآن، فمرجع أحكام السنة إلى أحكام القرآن.
وخاصة ما قدمنا: أن الأحكام التي وردت في السنة: إما أحكام مقررة لأحكام القرآن، أو أحكام مبينة لها، أو أحكام سكت عنها القرآن مستمدة بالقياس على ما جاء فيه أو بتطيبق أصوله ومبادئه العامة، ومن هذا يتبين أنه لا يمكن أن يقع بين أحكام القرآن والسنة تخالف أو تعارض.
أقسامها باعتبار سندها 1:
تنقسم السنة باعتبار رواتها عن الرسول إلى ثلاثة أقسام: سنة متواترة وسنة مشهورة، وسنة آحاد.
فالسنة المتواترة: هي ما رواها عن رسول الله جمع يمتنع عادة أن يتواطأ أفراده على كذب، لكثرتهم وأمانتهم واختلاف وجهاتهم وبيئاتهم، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته جمع لا يتفقون على كذب من مبدأ التلقي عن الرسول إلى نهاية الوصول إلينا، ومن هذا القسم السنن العملية في أداء الصلاة وفي الصوم، والحج والأذان وغير ذلك من شعائر الدين التي تلقاها المسلمون عن الرسول بالمشاهدة، أو السماع، جموعا عن جموع، من غير اختلاف في عصر عن عصر، أو قطر عن قطر، وقل أن يوجد في السنن القولية حديث متواتر.
والسنة المشهورة: هي ما رواها عن رسول الله صحابي أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد جمع التواتر، ثم رواها عن هذا الراوي أو الرواة جمع من جموع التواتر، ورواها عن هذا الجمع جمع مثله، وعن هذا الجمع جمع، حتى وصلت إلينا بسند، أول طبقة فيه سمعوا من الرسول قوله أو شاهدوا فعله فرد أو فردان أو أفراد لم يصلوا إلى جمع التواتر، وسائر طبقاته جموع التواتر. ومن هذا القسم بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول عمر بن الخطاب، أو عبد الله بن مسعود أو
1 المراد بسند السنة: سلسلة الرواة الذين نقلوها عن الرسول إلينا. والمراد بمتن السنة: نفس الحديث المروي.
أبو بكر الصديق، ثم رواها عن أحد هؤلاء جمع لا يتفق أفراده على كذب، مثل حديث:"إنما الأعمال بالنيات"، وحديث:"بني الإسلام على خمس" وحديث: "لا ضرر ولا ضرار".
فالفرق بين السنة المتواترة والسنة المشهورة: أن السنة المتواترة كل حلقة في سلسلة سندها جمع التواتر من مبدأ التلقي عن الرسول إلى وصولها إلينا. وأما السنة المشهورة فالحلقة الأولى في سندها ليست جمعا من جموع التواتر بل الذي تلقاها عن الرسول واحد أو اثنان، أو جمع لم يبلغ جمع التواتر، وسائر الحلقات جموع التواتر.
وسنة الآحاد: هي ما رواها عن الرسول آحاد لم تبلغ جموع التواتر بأن رواها عن الرسول واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ورواها عن هذا الراوي مثله، وهكذا حتى وصلت إلينا بسند طبقاته أحاد لا جموع التواتر، ومن هذا القسم أكثر الأحاديث التي جمعت في كتب السنة وتسمى خبر الواحد.
قطعيها وظنيها:
أما من جهة الورود فالسنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول؛ لأن تواتر النقل يفيد الجزم والقطع بصحة الخبر كما قدمنا، والسنة المشهورة قطعية الورود عن الصحابي، أو الصحابة الذين تلقوها عن الرسول لتواتر النقل عنهم، ولكنها ليست قطعية الورود عن الرسول؛ لأن أول من تلقى عنه ليس جمع التواتر، ولهذا جعلها فقهاء الحنفية، في حكم السنة المتواترة، فيخصص بها عام القرآن ويقيد بها مطلقه؛ لأنها مقطوع ورودها عن الصحابي، والصحابي حجة وثقة في نقله عن الرسول، فمن أجل هذا كانت مرتبتها في مذهبهم بين المتواتر وخبر الواحد.
وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول؛ لأن سندها لا يفيد القطع.
وأما من جهة الدلالة فكل سنة من هذه الأقسام الثلاثة قد تكون قطعية الدلالة، إذا كان نصها لا يحتمل تأويلا، وقد تكون ظنية الدلالة إذا كان نصها يحتمل التأويل.
ومن المقارنة بين نصوص القرآن ونصوص السنة من جهة القطعية والظنية، ينتج أن نصوص القرآن الكريم كلها قطعية الورود، ومنها ما هو قطعي الدلالة ومنها
ما هو ظني الدلالة، وأما السنة فمنها ما هو قطعي الورود ومنها ما هو ظني الورود، وكل واحد منهما قد يكون قطعي الدلالة وقد يكون ظني الدلالة.
وكل سنة من أقسام السنن الثلاثة المتواترة، والمشهورة وسنن الأحاد؛ حجة واجب اتباعها والعمل بها، أما المتواتر؛ فلأنها مقطوع بصدورها وورودها عن رسول الله، وأما المشهورة أو سنة الآحاد؛ فلأنها وإن كانت ظنية الورود عن رسول الله، إلا أن هذا الظن يرجح بما توافر في الرواة من العدالة وتمام الضبط والإتقان، ورجحان الظن كاف في وجوب العمل، لهذا يقضي القاضي بشهادة الشاهد، وهي إنما تفيد رجحان الظن بالمشهود به، وتصح الصلاة بالتحري في استقبال الكعبة وهو إنما يفيد غلبة الظن، وكثير من الأحكام مبنية على الظن، ولو التزم القطع واليقين في كل أمر عملي لنال الناس الحرج.
ما ليس تشريعا من أقوال الرسول وأفعاله: ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال، وأفعال إنما يكون حجة على المسلمين واجبا اتباعه إذا صدر عنه بوصف أنه رسول الله وكان مقصودا به التشريع العام والاقتداء.
وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .
1-
فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام، وقعود، ومشي، ونوم، وأكل، وشرب، فليس تشريعا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني، ودل دليل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل.
2-
وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق، والتجارب في الشئون الدنيوية من اتجار أو زراعة، أو تنظيم جيش، أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض، أو أمثال هذا فليس تشريعا أيضا؛ لأنه ليس صادرا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لما رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بينها للرسول. ولما رأى الرسول أهل المدينة يؤبرون النخل، أشار عليهم أن
لا يؤبروا فتركوا التأبير1 وتلف الثمر، فقال لهم:"أبروا. أنتم أعلم بأمور دنياكم".
3-
وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعا عاما: كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} دل على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البينة شاهدان، ويراعى أن قضاء الرسول في خصومة يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما حكمه على تقدير ثبوت الوقائع، فإثباته الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقدير ثبوت الوقائع فهو تشريع، ولهذا روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم وقال:"إنما أنا بشر وأنه يأتيني الخصوم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها".
والخلاصة أن ما صدر عن رسول الله من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بيناها فهو من سنته، ولكنه ليس تشريعا ولا قانونا واجبا اتباعه.
وأما ما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به، فهو حجة على المسلمين وقانون واجب اتباعه.
فالسنة إن أريد بها طريقة الرسول وما كان عليه في حياته، فهي كل ما صدر عنه من قول وفعل أو تقرير، مقصود به التشريع واقتداء الناس به لاهتدائهم.
1 التأبير: التلقيح.