الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الخامس: الاستحسان
1-
تعريفه.
2-
أنواعه.
3-
حجيته.
4-
شبه من لا يحتجون به.
1-
تعريفه:
الاستحسان في اللغة: عد الشيء حسنا، وفي اصطلاح الأصوليين: هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقله رجح لديه هذا العدول. فإذا عرضت واقعة ولم يرد نص بحكمها، وللنظر فيها وجهتان مختلفتان إحدهما ظاهرة تقتضي حكمًا والأخرى خفية تقتضي حكمًا آخر، وقام بنفس المجتهد دليل رجح وجهة النظر الخفية، فعدل عن وجهة النظر الظاهرة فهذا يسمى شرعا: الاستحسان، وكذلك إذا كان الحكم كليا، قام بنفس المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي والحكم عليها بحكم آخر، فهذا أيضا يسمى شرعا الاستحسان.
2-
أنواعه:
من تعريف الاستحسان شرعًا يتبين أنه نوعان: أحدهما ترجيح قياس خفي على قياس جلي بدليل. وثانيهما استثناء جزئية من حكم كلي بدليل.
من أمثلة النوع الأول:
1-
نص فقهاء الحنفية على أن الواقف إذ وقف أرضًا زراعية يدخل حق المسيل، وحق الشرب حق المرور في الوقف تبعًا بدون ذكرها استحسانًا. والقياس أنها لا تدخل إلا بالنص عليها كالبيع، ووجه الاستحسان: أن المقصود من الوقف انتفاع الموقوف عليهم، ولا يكون الانتفاع بالأرض الزراعية إلا بالشرب والمسيل والطريق، فتدخل في الوقف بدون ذكرها؛ لأن المقصود لا يتحقق إلا بها كالإجارة.
فالقياس الظاهر إلحاق الوقف في هذا بالبيع؛ لأن كلا منهما إخراج ملك من مالكه. والقياس الخفي إلحاق الوقف في هذا بالإجارة؛ لأن كلا منهما مقصود به
الانتفاع، فكما يدخل المسيل والشرب والطريق في إجارة الأطيان بدون ذكرها تدخل في وقف الأطيان بدون ذكرها.
2-
نص فقهاء الحنفية على أنه إذا اختلفت البائع والمشتري في مقدار الثمن قبل قبض المبيع، فادعى البائع أن الثمن مائة جنيه، وادعى المشتري أنه تسعون يتحالفان استحسانًا، والقياس أن لا يحلف البائع؛ لأن البائع يدعي الزيادة "وهي عشرة" والمشتري ينكرها، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر فلا يمين على البائع، ووجه الاستحسان: أن البائع مدع ظاهرا بالنسبة إلى الزيادة ومنكر حق المشتري في تسلم المبيع بعد دفع التسعين، والمشتري منكر ظاهرًا الزيادة التي ادعاها البائع، وهي العشرة ومدع حق تسلمه المبيع بعد دفع التسعين، فكل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من جهة أخرى فيتحالفان.
فالقياس الظاهر: إلحاق هذه الواقعة بكل واقعة بين مدع ومنكر، فالبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.
والقياس الخفي: إلحاق الواقعة بكل واقعة بين متداعيين، كل واحد منهما يعتبر في آن واحد مدعيا ومنكرا فيتحالفان.
3-
نص فقهاء الحنفية على أن سؤر سباع الطير كالنسر والغراب والصقر والبازي، والحدأة والعقاب طاهر استحسانا نجس قياسا.
وجه القياس: أنه سؤر حيوان محرم لحمه كسؤر سباع البهائم كالفهد والنمر والسبع والذئب، وحكم سؤر الحيوان تابع لحكم لحمه.
وجه الاستحسان: أن سبع الطير وإن كان محرما لحمها إلا أن لعابها المتولد من لحمها لا يختلط بسؤرها؛ لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر، وأما سباع البهائم، فتشرب بلسانها المختلط بلعابها فلهذا ينجس سؤرها.
ففي كل مثال من هذه الأمثلة، تعارض في الواقعة قياسان أحدهما جلي متبادر فهمه، والآخر خفي دقيق فهمه، وقام للمجتهد دليل رجح القياس الخفي فعدل عن القياس الجلي فهذا العدول هو "الاستحسان"، والدليل الذي بني عليه هو وجه الاستحسان.
ومن أمثلة النوع الثاني:
نهى الشارع عن بيع المعدوم والتعاقد على المعدوم، ورخص استحسانا في السلم والإجارة والمزارعة، والمساقاة والاستصناع وهي كلها عقود؛ المعقود عليه فيها معدوم وقت التعاقد، ووجه الاستحسان حاجة الناس وتعارفهم.
ونص الفقهاء على أن الأمين يضمن بموته مجهلا؛ لأن التجهيل نوع من التعدي. واستثنى استحسانا موت الأب أو الجد أو الوصي مجهلًا، ووجه الاستحسان أن الأب والجد والوصي لكل منهم أن ينفق على الصغير ويصرف ما يحتاج إليه فلعل ما جهله كان قد صرفه في وجهه.
ونصوا على أن الأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، واستثنى استحسانًا الأجير المشترك، فإن يضمن إلا إذا كان هلاك ما عنده بقوة قاهرة، ووجه الاستحسان تأمين المستأجرين، ونصوا على أن المحجور عليه للسفه لا تصح تبرعاته، واستثنى استحسانا وقفه على نفسه مدة حياته، ووجه الاستحسان أن وقفه على نفسه فيه تأمين عقاراته من الضياع، وهذا يتفق والغرض من الحجر عليه.
ففي كل مثال من هذه الأمثلة استثنيت جزئية من حكم كلي بدليل، وهذا هو الذي يسمى اصطلاحًا الاستحسان.
3-
حجيته:
من تعريف الاستحسان وبيان نوعه يتبين أنه في الحقيقة ليس مصدرًا تشريعيا مستقلا؛ لأن أحكام النوع الأول من نوعية دليلها هو القياس الخفي الذي ترجح على القياس الجلي، بما اطمأن له قلب المجتهد من المرجحات، وهو وجه الاستحسان، وأحكام النوع الثاني من نوعه دليلها هو المصلحة التي اقتضت استثناء الجزئية من الحكم الكلي، وهي التي يعبر عنها بوجه الاستحسان.
فمن احتجوا بالاستحسان وهم أكثر الحنفية ودليلهم على حجيته: أن الاستدلال بالاستحسان إنما هو استدلال بقياس خفي، ترجح على قياس جلي، أو هو ترجيح قياس على قياس يعارضه، بدليل يقتضي هذا الترجيح، أو استدلال بالمصلحة المرسلة على استثناء جزئي من حكم كلي، وكل هذا استدلال صحيح.
4-
شبه من لا يحتجون به:
أنكر فريق من المجتهدين الاستحسان واعتبروه استنباطا للأحكام الشرعية بالهوى والتلذذ، وعلى رأس هذا الفريق الإمام الشافعي فقد نقل عنه أنه قال:"من استحسن فقد شرع"، أي ابتدأ من عنده شرعا، وقرر في رسالته الأصولية أن "مثل من استحسن حكما مثل من اتجه في الصلاة إلى جهة استحسن أنها الكعبة، من غير أن يقوم له دليل من الأدلة التي أقامها الشارع لتعيين الاتجاه إلى الكعبة" وقرر فيها أيضا أن "الاستحسان تلذذ، ولو جاز الأخذ بالاستحسان في الدين جاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعًا".
والظاهر لي أن الفريقين المختلفين في الاستحسان لم يتفقا في تحديد معناه. المحتجون به يريدون منه معنى غير الذي يريده من لا يحتجون به، ولو اتفقوا على تحديد معناه ما اختلفوا في الاحتجاج به؛ لأن الاستحسان هو عند التحقيق عدول عن دليل ظاهر أو عن حكم كلي لدليل اقتضى هذا العدول، وليس مجرد تشريع بالهوى، وكل قاض قد تنقدح في عقله في كثير من الوقائع مصلحة حقيقية، تقتضي العدول في هذه الجزئية عما يقضي به ظاهر القانون، وما هذا إلا نوع من الاستحسان.
ولهذا قال الإمام الشاطبي في الموافقات: "من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشباه المعروضة، كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى تفويت مصلحة من جهة، أو جلب مفسدة كذلك".