الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته
"إذا ورد في النص الشرعي لفظ مشترك، فإن كان مشتركًا بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي، وجب حمله على المعنى الشرعي، وإن كان مشتركا بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه. ولا يصح أن يراد بالمشترك معنياه أو معانيه معًا".
هذه القاعدة الخامسة والقاعدتان السادسة، والسابعة الآتيتان خاصة ببيان الألفاظ الثلاثة التي ترد كثيرا في النصوص الشرعية والقوانين الوضعية، وهي اللفظ المشترك، واللفظ العام، واللفظ الخاص، وبيان ما يدل عليه كل واحد منها إذا ورد في نص.
والفرق الجوهري بين هذه الألفاظ الثلاثة من حيث المعنى: أن المشترك لفظ وضع لمعان متعددة بأوضاع متعددة: كلفظ السنة وضع للهجرية وللميلادية، ولفظ اليد لليمنى واليسرى، ولفظ القرش للعشرة مليمات وللخمسة.
وإن العم لفظ وضع لمعنى واحد، وهذا المعنى الواحد يتحقق في أفراد كثيرين غير محصورين في اللفظ، وإن كانوا في الواقع محصورين أي أنه بحسب وضعه اللغوي لا يدل على عدد محصور من هذه الأفراد، وإنما يدل على شمول جميع هذه الأفراد، كلفظ الطلبة يدل على معنى يتحقق في أفراد غير محصورين ويشملهم جميعًا.
وإن الخاص لفظ لمعنى يتحقق في فرد واحد أو في أفراد محصورين، كلفظ محمد، أو الطالب أو الطلاب العشرة، أو مائة أو ألف.
فالاشتراك يتحقق بتعدد المعاني التي وضع لها اللفظ بأوضاع متعددة. والعموم يتحقق بدلالة اللفظ على شمول جميع الأفراد التي يصدق عليها من غير حصر. والخصوص يتحقق بدلالة اللفظ على الفرد أو الأفراد المحصورين التي يصدق عليها من غير شمول.
فاللفظ المشترك، وهو ما وضع لمعنيين أو أكثر بأوضاع متعددة، يدل على ما وضع له على سبيل البدل، أي يدل على هذا المعنى أو ذاك، كلفظ العين وضع في
اللغة للباصرة، ولعين الماء النابع، وللجاسوس. ولفظ القرء، وضع في اللغة للطهر، وللحيض، ولفظ السنة، ولفظ اليد.
وأسباب وجود الألفاظ المشتركة في اللغة كثيرة، أهمها اختلاف القبائل في استعمال الألفاظ للدلالة على معان، فبعض القبائل تطلق اليد على الذراع كله، وأخرى تطلق اليد على الساعد والكف، وأخرى تطلقها على الكف خاصة، فنقلة اللغة يقررون أن اليد في اللغة العربية لفظ مشترك بين المعاني الثلاثة، ومنها أن يوضع اللفظ على سبيل الحقيقة لمعنى، ثم يستعمل في غير ما وضع له مجازًا، ثم يشتهر استعمال هذا اللفظ في المعنى المجازي حتى يتناسى أنه مجازي، فيقرر علماء اللغة أن اللفظ موضوع لهذا ولهذا: كلفظ السيارة، ولفظ الدراجة، ولفظ المسرة. ومنها أن يوضع اللفظ لمعنى ثم يوضع اصطلاح شرعي أو قانوني لمعنى آخر. كلفظ الصلاة أو لفظ الدفع، وأيا كان سبب وقوع الاشتراك في الألفاظ لغة، فإن الألفاظ المشتركة بين معنيين أو أكثر ليست قليلة في اللغة وواردة في النصوص الشرعية من آي القرآن وأحاديث الرسول، وهي كما قدمنا من باب المشكل ما دامت توجد قرائن يتوصل بها إلى ترجيح أحد المعاني، وعلى المجتهد أن يزيل إشكالها ويعين المراد من كل لفظ منها إذا ورد في نص شرعي.
والمشترك قد يكون اسما كما مثلنا، أو فعلا كصيغة الأمر للإيجاب وللندب، أو حرفا مثل الواو للعطف وللحال، فإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركًا بين معنى لغوي ومعنى اصطلاحي شرعي وجب أن يراد به معناه الاصطلاحي الشرعي، فلفظ الصلاة وضع لغة للدعاة، ووضع شرعا للعبادة المخصوص. ففي قوله تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يراد منه معناه الشرعي وهو العبادة المخصوصة لا معناه اللغوي وهو الدعاة، ولفظ الطلاق وضع لغة لحل أي قيد، ووضع شرعا لحل قيد الزوجية الصحيحة، ففي قوله تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} يراد منه معناه الشرعي لا اللغوي؛ وهكذا كل لفظ مشترك بين معنى لغوي، ومعنى شرعي إذا ورد في نص شرعي، فمراد الشارع منه معناه الذي وضعه له؛ لأنه لما نقل هذا اللفظ عن معناه اللغوي إلى المعنى الخاص الذي استعمله فيه، كان اللفظ في لسان الشارع متعين الدلالة على ما وضعه الشارع له. وكذلك في نصوص القوانين الوضعية إذا كان اللفظ الوارد في النص له معنيان: معنى في اللغة ومعنى
في الاصطلاح القانوني، وجب أن يراد به معناه القانوني لا اللغوي للسبب الذي بيناه، فلفظ الدفع ولفظ الحلول وغيرهما، يراد به المعنى القانوني لا المعنى اللغوي، وكذا لفظ الضبط، ولفظ التسجيل.
وإذا كان اللفظ المشترك الوارد في النص الشرعي مشتركا بين عدة معان لغوية، وجب الاجتهاد لتعيين المعنى المراد منها؛ لأن الشارع ما أراد باللفظ إلا أحد معانيه، وعلى المجتهد أن يستدل بالقرائن، والأمارات والأدلة على تعيين هذا المراد.
فلفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، مشترك بين الطهر والحيض، وقد بينا في الكلام على المشكل ما استدل به بعض المجتهدين على أن المراد به الطهر، وما استدل به آخرون على أن المراد به الحيض.
ولفظ اليد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، مشترك بين الذراع "من رءوس الأصابع إلى المنكب"، وبين الكف والساعد "من رءوس الأصابع إلى المرفق"، وبين الكف "من رءوس الأصابع إلى الرسغين"، وبين اليمنى واليسرى. وقد استدل جمهور المجتهدين بالسنة العملية على تعيين المراد منها في الآية، وهو المعنى الأخير أي رءوس الأصابع إلى الرسغين في اليمنى.
ولفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} ، مشترك، يطلق لغة على من لم يخلف ولدًا ولا والدًا، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من جهة غيرة الولد والوالد. وقد استدل جمهور المجتهدين باستقراء آيات التوريث على تعيين أن المراد في الآية هو المعنى الأول.
ولفظ الواو في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} مشترك، يستعمل للعطف ويستعمل للحال، فإن أريد به هنا الحال كان النهي واردا على ما لم يذكر اسم الله عليه، والحال أنه فسق، أي ذكر عليه حين ذبحه اسم غير الله، وإن أريد به العطف كان النهي واردا على ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقا، سواء ذكر عليه حين الذبح اسم غير اسم الله أم لم يذكر.
والمجتهدون انقسموا في تعيين المراد منها في الآية إلى رأين، ولكل وجهة.
ولا يصح أن يراد باللفظ المشترك معنيان أو أكثر من معانيه معًا؛ بحيث يكون الحكم الذي ورد في النص متعلقا في وقت واحد بأكثر من معنى؛ لأن اللفظ ما أراد به الشارع إلا معنى واحدا من معانيه، ووضعه لمعان متعددة إنما هو على سبيل البدل، أي أنه إما أن يدل على هذا أو ذاك. فأما دلالته على هذا وذاك في وقت واحد، فهو تحميل اللفظ ما لا يدل عليه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، فلا يصح أن يراد بالقرء في الآية الطهر والحيض معا، بحيث إن المطلقة إن شاءت تربصت ثلاثة أطهار، وإن شاءت تربصت ثلاث حيضات؛ لأن اللفظ لا يدل على هذا بأي طريق من طرق الدلالة.
وكذلك الحال في نصوص القوانين الوضعية إذا ورد فيها لفظ لفظ مشترك بين عدة معان لغوية، ولم يبين الشارع المعنى الذي أراده منه، وجب الاجتهاد في تعيين المعنى، إما بواسطة نصوص أخرى في القانون، وإما بالرجوع إلى قواعد التشريع، ولا يصح أن يراد من لفظ مشترك في نص أكثر من معنى واحد؛ لأن اللفظ المشترك ما وضع إلا لمعنى واحد ولكنه دائر بين اثنين أو أكثر.