المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص - علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع ط المدني

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن حياة المؤلف:

- ‌الكتاب الأول: علم أصول الفقه

- ‌الطبعة السابعة:

- ‌افتتاحية الطبعة السابعة:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1947:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1942:

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: في الأدلة الشرعية

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول: القرآن

- ‌الدليل الثاني: السنة

- ‌الدليل الثالث: الإجماع

- ‌الدليل الرابع: القياس

- ‌الدليل الخامس: الاستحسان

- ‌الدليل السادس: المصلحة المرسلة

- ‌الدليل السابع: العرف

- ‌الدليل الثامن: الاستصحاب

- ‌الدليل التاسع: شرع من قبلنا

- ‌الدليل العاشر: مذهب الصحابي

- ‌القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

- ‌ الحاكم:

- ‌ الحكم:

- ‌ المحكوم فيه:

- ‌ المحكوم عليه:

- ‌القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

- ‌تمهيد:

- ‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص

- ‌القاعدة الثانية: في مفهوم المخالفة

- ‌القاعدة الثالثة: في الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته

- ‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته

- ‌القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته

- ‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

- ‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع

- ‌القاعدة الثانية: فيما هو حق الله. وما هو حق المكلف

- ‌القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه

- ‌القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم

- ‌القاعدة الخامسة: في التعارض والترجيح

- ‌الكتاب الثاني: خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌تمهيد في بيان المراد من التشريع:

- ‌ عهد الرسول:

- ‌ عهد الصحابة:

- ‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين:

- ‌ عهد التقليد:

- ‌المحتويات:

- ‌محتويات علم أصول الفقه:

- ‌محتويات خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي:

الفصل: ‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص

‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص

النص الشرعي -أو القانوني- يجب العمل بما يفهم من عبارته، أو إشارته أو دلالته، أو اقتضائه؛ لأن كل ما يفهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربعة هو من مدلولات النص، والنص حجة عليه.

"وإذا تعارض معنى مفهوم بطريق من هذه الطرق، ومعنى آخر مفهوم بطريق آخر منها رجح المفهوم من العبارات على المفهوم من الإشارة، ورجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة".

المعنى الإجمالي لهذه القاعدة: أن النص الشرعي، أو القانوني قد يدل على معان متعددة بطرق متعددة من طرق الدلالة، وليست دلالته قاصرة على ما يفهم من عبارته وحروفه، بل هو قد يدل أيضا على معان تفهم من إشارته، ومن دلالته ومن اقتضائه. وكل ما يفهم منه من المعاني بأي طريق من هذه الطرق يكون من مدلولات النص ويكون النص دليلا وحجة عليه، ويجب العمل به؛ لأن المكلف بنص قانوني مكلف بأن يعمل بكل ما يدل عليه هذا النص، بأي طريق من طرق الدلالة المقررة لغة، وإذا عمل بمدلول النص من بعض طرق دلالته وأهمل العمل بمدلوله من طريق آخر فقد عطل النص من بعض الوجوه. ولهذا قال الأصوليون: يجب العمل بما تدل عليه عبارة النص، وما تدل عليه روحه ومعقوله وهذه الطرق بعضها أقوى دلالة من بعض، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض.

أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة فهو بيان المراد بكل طريق من هذه الطرق الأربع للدلالة. وأمثلته من نصوص القوانين الشرعية والوضعية:

1-

عبارة النص:

المراد بعبارة النص صيغته المكونة من مفرداته وجمله. والمراد بما يفهم من عبارة النص المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته، ويكون هو المقصود من سياقه، فمتى كان المعنى ظاهرًا فهمه من صيغة النص، والنص سيق لبيانه وتقريره، كان مدلول عبارة النص، "ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص" فدلالة العبارة: هي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها، المقصود من سياقها سواء أكان مقصودا من سياقها أصالة أو مقصودا تبعا.

ص: 136

وأمثلة هذا لا تحصى؛ لأن كل نص قانوني إنما ساقه الشارع لحكم خاص، قصد تشريعه به وصاغ ألفاظه وعباراته لتدل دلالة واضحة عليه. فكل نص في أي قانون شرعي أو وضعي له معنى تدل عليه عباراته، وقد يكون له مع هذا معنى يدل عليه بالإشارة أو الدلالة أو الاقتضاء، وربما لا يكن، فلا حاجة إلى ذكر أمثلة مما يدل عليه النص بعبارته، وإنما نقتصر على بعض أمثلة يتبين منها الفرق بين المقصود من السياق أصالة والمقصود منه تبعًا:

قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} هذا النص تدل صيغته دلالة ظاهرة على معنيين كل منهما مقصود من سياقه، أحدهما أن البيع ليس مثل الربا، وثانيهما أن حكم البيع الإحلال، وحكم الربا التحريم، فهما معنيان مفهومان من عبارة النص، ومقصودان من سياقه؛ ولكن الأول: مقصود من السياق أصالة؛ لأن الآية سيقت للرد على الذين قالوا: إنا البيع مثل الربا. والثاني: مقصود من السياق تبعا؛ لأن نفي المماثلة استتبع بيان حكم كل منهما حتى يؤخذ من اختلاف الحكمين أنهما ليسا مثلين. ولو اقتصر على المعنى المقصود من السياق أصالة. لقال: وليس البيع مثل الربا.

وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} .

يفهم من عبارة هذا النص ثلاثة معان: إباحة ما طاب من النساء، وتحديد أقصى عدد الزوجات بأربع، وإيجاب الاقتصار على واحدة إذا خيف الجور حال تعدد الزوجات؛ لأن كل هذه المعاني تدل عليها ألفاظ النص دلالة ظاهرة، وكلها مقصودة من سياقه، ولكن المعنى الأول مقصود تبعا، والثاني والثالث مقصودان أصالة؛ لأن الآية سيقت لمناسبة الأوصياء على القصر الذين تحرجوا من قبول الوصاية خوف الجور في أموال اليتامى، فالله سبحانه نبههم1 إلى أن خوف الجور يجب أن يحول أيضا بينكم، وبين تعدد الزوجات إلى غير حد، وبغير قيد، فاقتصروا على اثنتين أو ثلاث أو أربع، وإن خفتم أن لا تعدلوا حين التعدد فاقتصروا على واحدة، فهذا الاقتصار على اثنتين أو ثلاث أو أربع، أو واحدة هو

1 جاء في تفسير البيضاوي في تفسير هذه الآية: أي إن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوجتم بهن فتزوجوا ما طاب لكم من غيرهن. أ. هـ. مصححة.

ص: 137

الواجب على من يخاف الجور، وهو المقصود أصالة من سياق الآية، وهذا استتبع بيان إباحة الزواج، فإباحة الزاج مقصود تبعا لا أصالة، والمقصود أصالة: قصر عدد الزوجات على أربع، أو واحدة، ولو اقتصر على الدلالة على المعنى المقصود من السياق لقال: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا على عدد الزواجات لا يزيد على أربع، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين العدد منهم فاقتصروا على واحدة.

2-

إشارة النص:

المراد بما يفهم من إشارة النص المعنى الذي لا يتبادر فهمه من ألفاظه، ولا يقصد من سياقه، ولكنه معنى لازم للمعنى المتبادر من ألفاظه، فهو مدلول اللفظ بطريق الالتزام، ولكونه معنى التزاميا وغير مقصود من السياق كانت دلالة النص عليه بالإشارة لا بالعبارة، وقد يكون وجه التلازم ظاهرًا، وقد يكون خفيًّا، ولهذا قالوا: إن ما يشير إليه النص قد يحتاج فهمه إلى دقة نظر ومزيد تفكير، وقد يفهم بأدنى تأمل، فدلالة الإشارة هي دلالة النص عن معنى لازم لما يفهم من عبارته غير مقصود من سياقه؛ يحتاج فهمه إلى فضل تأمل أو أدناه، حسب ظهور وجه التلازم وخفائه.

مثال هذا قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

يفهم من عبارة هذا النص أن نفقة الوالدات من رزق وكسوة، واجبة على الآباء؛ لأن هذا هو المتبادر من ألفاظه، المقصود من سياقه، ويفهم من إشارته أن الأب لا يشاركه أحد في وجوب النفقة لوالده عليه؛ لأن ولده له لا لغيره، والأب لو كان قرشيا والأم غير قرشية يكون الوالد لأبيه قرشيا؛ لأن ولده له لا لغيره، وأن الأب له عند احتياجه أن يتملك بغير عوض من مال ابنه ما يسد به حجته؛ لأن ولده له، فمال ولده له، وإنما فهمت هذه الأحكام من إشارة النص؛ لأن في ألفاظ النص نسبة المولود لأبيه بحرف اللام الذي يفيد الاختصاص {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} ، وهذا الاختصاص هو المعبر عنه في الحديث "أنت ومالك لأبيك" ومن لوازم هذا الاختصاص ثبوت هذه الأحكام، فهي أحكام لازمة لمعنى مفهوم من عبارة النص وغر مقصودة من سياقه، ولذا كان فهمها من إشارته لا من عبارته.

ص: 138

مثال آخر: قوله تعالى في بيان من لهم نصيب في الفيء1 {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} يفهم من عبارة هذا النص استحقاق هؤلاء الفقراء المهاجرين نصيبا من الفيء، ويفهم من إشارته أن هؤلاء المهاجرين زال ملكهم عن أموالهم التي تركوها حين أخرجوا من ديارهم؛ لأن النص عبر عنهم بلفظ الفقراء، ووصفهم بأنهم فقراء يستلزم أن لا تكون أموالهم باقية على ملكلهم، فهذا حكم لازم لمعنى لفظ في النص، وغير مقصود من سياق النص.

مثال: 3: قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} يفهم منه بطريق الإرشارة إيجاب إيجاب طائفة من الأمة تمثلها وتستشار في أمرها؛ لأن تنفيذ الأمر ومشاورة الأمة يستلزم ذلك.

مثال: 4: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} يفهم منه بطريق الإشارة إيجاب إيجاد أهل الذكر في الأمة.

مثال من قانون العقوبات، المادة: 274: "المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن تنفيذ الحكم برضائه معاشرتها".

هذه المادة تدل بعبارتها على عقوبة الزوجة التي ثبت زناها، وعلى أن للزوج الحق في وقف تنفيذ العقوبة، وتدل بإشارتها على أن زنا الزوجة ليس جناية على المجتمع في نظر الشارع المصري، وإنما هو جناية على الزوج، وهذا لازم لإثبات حق إسقاط عقوبته للزوج، إذ لو كان جناية على المجتمع كالسرقة ما ثبت لأحد حق إسقاط عقوبته.

مثال من القانون المدني الملغي، مادة 155: يجب على الفروع وأزواجهم ما دامت الزوجية قائمة أن ينفقوا على الأصول وأزواجهم.

دومادة 156، كذلك يجب على الأصول القيام بالنفقة على فروعهم، وأزواج الفروع والأزواج أيضا ملزمون بالنفقة على بعضهم.

1 الفيء: هو ما أخذه المسلمون من غير المسلمين من الأموال بغير قتال كمال الخراج.

ص: 139

ومادة 157: تقدير النفقات يكون بمراعاة لوازم من تفرض لهم ويسر من تفرض عليهم، وعلى كل حل يلزم دفع النفقات شهرا بشهر مقدما.

يفهم من عبارة كل مادة من هذه المواد حكم موضوعي من أحكام النفقات، ويفهم منها بالإشارة اختصاص المحاكم الأهلية بالقضاء بها، لأن يلزم من النص علها في قانونها وجوب تطبيقها، فهذا الاختصاص معنى لازم لورود هذه المواد في القانون، وغير مقصود من سياق المواد فهو مفهوم بطريق الإشارة.

وكثير من النصوص القانونية الوضعية تدل عبارتها على أحكام، وتشير إلى أحكام، وهذا ما يعبر عنه رجال القانون بقولهم: النص صريح في كذا، ويؤخد منه بطريق الإشارة كذا.

ويجب الاحتياط في الاستدلال بطريق الإشارة وقصره على ما يكون لازما لمعنى من معاني النص لزوما لا انفكاك له؛ لأن هذا هو الذي يكون النص دالا عليه، إذ الدال على الملزوم دال على لازمه، وأما تحميل النص معاني بعيدة لا تلازم بينها وبين معنى فيه بزعم أنها إشارته، فهذا شطط في فهم النصوص، وليس هو المراد بدلالة إشارة النص.

3-

دلالة النص:

المراد بما يفهم من دلالة النص المعنى الذي يفهم من روحه ومعقولة، فإذا كان النص تدل عبارته على حكم في واقعة لعلة بني عليها هذا الحكم، ووجدت واقعة أخرى، تساوي هذه الواقعة في علة الحكم أو هي أولى منها، وهذه المساواة أو الأولوية تتبادر إلى الفهم بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى اجتهاد أو قياس، فإنه يفهم لغة أن النص تناول الواقعتين، وأن حكمه الثابت لمنطوقه يثبت لمفهومه الموافق له في العلة، سواء كان مساويا أم أولى.

مثال هذا قوله تعالى في شأن الوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} تدل عبارة هذا النص على نهي الولد أن يقول لوالديه: "أف"؛ والعلة في هذا النهي ما في هذا القول لهما من إيذائهما وإيلامهما، وتوجد أنواع أخرى أشد إيذاء، وإيلاما من التأفف كالضرب والشتم، فيتبادر إلى الفهم أنها يتنالها النهي، وتكون محرمة بالنص الذي حرم التأفف؛ لأن المتبادر لغة من النهي عن التأفف، النهي عما هو أكثر منه إيذاء للوالدين فهنا المفهوم الموافق المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق.

ص: 140

مثال آخر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} .

يفهم من عبارة هذا لنص تحريم أكل الأوصياء أمول اليتامى ظلما، ويفهم من دلالته تحريم أن يؤكلوها غيرهم، وتحريم إحراقها وتبديدها وإتلافها بأي نوع من أنواع الإتلاف؛ لأن هذه الأشياء تساوي أكلها ظلما في أن كلا منها اعتداء على مال القاصر العاجز عن دفع الاعتداء، فيكون النص المحرم بعبارته أكل أموال اليتامى ظلما؛ محرما إحراقها وتبديدها بطريق الدلالة، وهنا المفهوم الوافق المسكوت عنه مساو للمنطوق، فالفرق بين دلالة النص، وبين القياس أن مساواة المفهوم الموافق لمنطوق النص تفهم بمجرد فهم اللغة من غير توقف على اجتهاد واستنباط، وأما مساواة المقيس عليه فلا تفهم بمجرد فهم اللغة، بل لا بد من اجتهاد في استنباط العلة في حكم المقيس عليه، وفي معرفة تحققها في المقيس.

مثال من القانون المدني الملغي: نصت المادة 370 على أنه "لا يكلف المؤجر بعمل أي مرمة كانت إلا إذا اشترط في العقد إلزامه بذلك" يفهم من دلالة هذا النص أنه لا يكلف المؤجر بإنشاء حجرة مثلا: لأن هذا أولى من عمل المرمة في تحقق علة المنع من التكليف به، وهي التراضي على المعقود عليه بحاله وقت العقد.

مثال من قانون العقوبات: نصت المادة 274 على "أن المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، ولكن لزوجها أن يقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت"، ويفهم من دلالة هذا النص أن للزوج أن يطلب وقف السير في دعوى الزنا قبل الحكم فيها؛ لأن من ملك وقف تنفيذ الحكم بعد صدوره ملك بالأولى وقف إجراءات الدعوى بشأنه.

ونصت المادة 237 "على أن من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المقررة في المادتين 234، 236".

يفهم من دلالة هذا النص أنه لو ضربها هي ومن يزني بها ضربا أحدث عاهة مستديمة تعتبر جريمة جنحة لا جناية؛ لأن هذا أولى بالقتل من التخفيف.

وجاء في حكم محكمة بني سويف الابتدائية الصادر في 9 ديسمبر سنة 1922 "رقم 213 ص43، ص4 مجلة المحاماة"، "إن العلة التي أدت بالشارع إلى سن قانون تشكيل اللجان لتخفيض إيجار الأطيان الزراعية إنما هي غلو

ص: 141

المؤجرين في تقدير الإيجار نظرًا لارتفاع أسعار القطن، وأسعار سائر الحاصلات من حبوب وغيرها، وما دامت هذه هي العلة التي اقتضت التخفيض في السنة التي زرعت فيها الأطيان قطنًا، فإنها تقتضي من باب أولى التخفيض أيضا في السنة التي تزرع فيها الأطيان قطنا وزرعت حبوبا".

وهذا الطريق، أي طريق الدلالة، كما يسمى دلالة النص يسمى القياس الجلي لظهور فهم المساواة، أو الأولوية بين المنطوق والمفهوم الموافق له، ويسمى حكمه مفهوم الموافقة أي المفهوم الذي وافق المنطوق في حكمه بناء على موافقته له في علته موافقة تفهم بمجرد فهم اللغة، ويسمى فحوى الخطاب أي روحه وما يعقل منه؛ لأن كل نص دل على حكم في محل لعلة، يدل على ثبوت هذا الحكم في كل محل تتحقق فيه العلة العلة بتبادر الفهم، أو تكون العلة أكثر توافرًا فيه.

4-

اقتضاء النص:

المراد بما يفهم من اقتضاء النص المعني الذي لا يستقيم الكلام إلا بتقديره، فصيغة النص ليس فيها لفظ يدل عليه ولكن صحتها واستقامة معناها تقتضيه، أو صدقها ومطابقتها للواقع تقتضيه.

مثال هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". هذه العبارة يدل ظاهرها على رفع الفعل إذا وقع خطأ أو نسيانا أو مكرها عليه، وهذا معنى غير مطابق للواقع؛ لأن الفعل إذا وقع لا يرفع، فصحة معنى هذه العبارة تقتضي ما تصح به، فيقدر هناك رفع عن أمي إثم الخطأ: فالإثم محذوف اقتضى تقديره صحة معنى النص، فيعتبر من مدلولات النص اقتضاء.

ومثال قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ....} 1 أي زواجهن وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} أي أكلها والانتفاع بها.

لأن الذات لا يتعلق بها التحريم، وإنما يتعلق التحريم بفعل المكلف فيقدر المقتضي في كل نص بما يناسبه.

ومثال هذا من عبارات الواقفين قول الواقفين: جعلت الشروط العشرة لمن يكون ناظرا على وقفي، فإن هذا يدل اقتضاء على جعلها لنفسه؛ لأنه لا يملك أن

1 آية المحرمات في سورة النساء، وهي قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ.....} تفهم منها أحكام شرعية بطرق الدلالات الأربع فتحريم الأمهات والبنات، والأخوات والعمات والخالات وسائر المذكورات صرحة في الآيات، يفهم من عبارة النص؛ لأنها معان يتبادر فهمها من ألفاظه، وهي المقصودة من سياقه. =

ص: 142

يجعلها لغيره إلا إذا كانت له، فثبوت الشروط العشرة لناظر وقفه بعبارة نصه وثبوتها لنفسه باقتضائه.

ومن هذا قول إنسان لآخر يملك عبدا: "اعتق عبدك عني بألف"، فإن هذا يدل بمقتضاه على شراء عبده منه؛ لأنه لا ينوب عنه في عتقه إلا بعد أن يتملكه منه بشرائه، فالشراء ثابت بنص هذه الصيغة اقتضاء.

ومن هذا التفصيل يثبت ما قدمناه في الإجمال، وهو أن كل معنى فهم من النص بطريق من هذه الطرق الأربع يكون من مدلولات النص، ويكون النص حجة عليه؛ لأن المعنى المأخوذ من عبارته هو المعنى المتبادر من ألفاظه المقصود من سياقه، والمعنى المأخوذ من عبارته هو المعنى المتبادر من ألفاظه المقصود من سياقه، والمعنى المأخوذ من إشارته هو المعنى الازم لمعنى عبارته لزومًا لا ينفك، فهو مدلوله بطريق الالتزام، والمعنى المأخوذ من دلالته هو المعنى الذي تدل عليه روحه ومعقوله، والمفهوم اقتضاء هو معنى ضروري اقتضى تقديره صدق عبارة النص أو استقامة معناه.

وطريق العبارة أقوى دلالة من طريق الإشارة؛ لأن الأول يدل على معنى متبادر فهمه مقصود بالسياق، والثاني يدل على معنى لازم غير مقصود بالسياق، وكل منهما أقوى من طريق الدلالة؛ لأن كلا منهما منطوق النص ومدلوله بصيغته وألفاظه، ولكن طريق الدلالة مفهوم النص ومدلوله بروحه ومعقوله، ولهذا التفاوت يرجع عند التعارض المفهوم من العبارة على المفهوم من الإشارة، ويرجح المفهوم من أحدهما على المفهوم من الدلالة.

مثال التعارض بين المفهوم بالعبارة والمفهوم بالإشارة من النصوص الشرعية

= وتحريم الخالات رضاعا، والعمات رضاعا، والأب رضاعا، يفهم من إشارة النص؛ لأن الله سبحانه وتعالى سمى اللاتي أرضعن أمهات، ويلزم من جعل المرضعة أما للرضيع أن تكون أختها خالته، وأن يكون زوجها أباه وأخت زوجها عمته؛ لأن صلة الأمومة تلزمها هذه الصلات.

وتحريم العمات والخالات يفهم منه تحريم الجدات بطريق دلالة النص؛ لأن الجدة أقرب من العمة، إذ العمة تنتسب بها، فتحريم القريبة يستلزم تحريم الأقرب منها بالأولى.

وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} يدل اقتضاء على مقدر محذوف تقديره زواج أمهاتكم؛ لأن إسناد التحريم إلى ذات الأمهات لا يستقيم، فصحة الإسناد تقتضي هذا المقدر.

وكذلك المادة 247 من قانون العقوبات تفهم منها معان بعبارتها، وإشارتها ودلالتها، وقد بان هذا مما تقدم وكذلك قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يدل بطريق العبارة على وجوب نفقة الوالدات على الأب، ويدل بطريق الإشارة على أن نفقة الولد واجبة له على أبيه وخاصة أن للأب نسبة في مال ابنه، ويدل بطريق الدلالة على وجوب أجر علاج الوالدات، وثمن أدويتهن؛ لأنهن أحوج إليه من رزقهن وكسوتهن.

ص: 143

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} مع قوله سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} تدل الآية الأولى بعبارتها على وجوب القصاص من القاتل، وتدل الآية الثانية بإشارتها على أن القاتل العامد لا يقتص منه؛ لأن في اقتصارها على أن جزاءه جهنم إشارة إلى هذا، إذ يلزم من هذا الاقتصار في مقام البيان أنه لا تجب عليه عقوبة أخرى، ولكن رجح مدلول العبارة على مدلول الإشارة ووجب القصاص، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أقل الحيض ثلاثة أو أكثره عشر"، مع قوله صلى الله عليه وسلم في تعليل نقصان الدين في النساء:"تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصلي"، فإن الحديث الأول يدل بعبارته على أن أكثر مدة الحيض عشرة أيام، والحديث الثاني يدل بإشارته على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يومًا؛ لأنه نص على أن إحداهن تقعد نصف عمرها لا تصلي، ويلزم من هذا أن تكون مدة الحيض نصف شهر حتى يتحقق أنها في نصف عمرها لا تصلي، فلما تعارض المفهوم من عبارة النص الأول، والمفهوم من إشارة النص الثاني، رجح المفهوم من العبارة، وهو تقدير أكثر مدة الحيض بعشرة أيام.

مثال هذا من القانون المدني الملغي مواد النفقات الواردة في المواد "155، 157، 158" تدل بطريق الإشارة على اختصاص المحاكم الأهلية بالفصل في قضايا هذه النفقات؛ لأن هذا يلزم من النص عليها في قانونها، والمادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية الملغاة التي جاء فيها أن ليس لهذه المحاكم أن تنظر في الأنكحة، وما يتعلق بها من قضايا المهر والنفقة، تدل بطريق العبارة على عدم اختصاص المحاكم الوطنية بقضايا النفقة، فلما تعارض المفهوم بطريق إشارة الأولى، والمفهوم بطريق عبارة الثانية، رجح المفهوم بطريق العبارة، فلا اختصاص للمحاكم الوطنية بمواد النفقات.

ومثال التعارض بين المفهوم بالإشارة والمفهوم بالدلالة من النصوص الشرعية قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} يؤخذ منه بطريق الدلالة أن من قتل مؤمنًا متعمدًا عليه أن يحرر رقبة مؤمنة؛ لأنه أولى من القاتل خطأ بهذا التكفير عن جريمته؛ لأن تحرير الرقبة كفارة للقاتل عن ذنبه، والعامد أولى أن يكفر عن ذنبه من الخاطئ، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} يؤخذ منه بطريق الإشارة أنه لا يجب عليه تحرير رقبة؛ لأن الآية تشير إلى أنه لا كفارة لذنبه في الدنيا إذ جعلت جزاءه خلوده في جهنم لا غير، فلما تعارضا رجحت الإشارة على الدلالة، فلا يجب على القاتل عمدًا تحرير رقبة.

ص: 144