الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل السادس: المصلحة المرسلة
1-
تعريفها.
2-
أدلة من يحتجون بها.
3-
شروط الاحتجاج بها.
4-
أظهر شبه من لا يحتجون بها.
1-
تعريفها:
المصلحة المرسلة أي المطلقة، في اصطلاح الأصوليين: المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت مطلقة؛ لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء، ومثالها المصلحة التي شرع لأجلها الصحابة اتخاذ السجون، أو ضرب النقود، أو إبقاء الأرض الزراعية التي فتحوها في أيدي أهليها ووضع الخراج عليها، أو غير هذا من المصالح التي اقتضتها الضرورات، أو الحاجات أو التحسينات ولم تشرع أحكام لها، ولم يشهد شاهد شرعي باعتبارها أو إلغائها.
وتوضيح هذا التعريف أن تشريع الأحكام ما قصد به إلا تحقيق مصالح الناس، أي جلب نفع لهم أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم، وإن مصالح الناس لا تنحصر جزئياتها، ولا تتناهى أفرادها وأنها تتجدد بتجدد أحوال الناس، وتتطور باختلاف البيئات، وتشريع الحكم قد يجلب نفعا في زمن وضررا في آخر، وفي الزمن الواحد قد يجلب الحكم نفعا في بيئة ويجلب ضررا في بيئة أخرى.
فالمصالح التي شرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ودل على اعتبارها عللا لما شرعه، تيسمى في اصطلاح الأصوليين: المصالح المعتبرة من الشارع، مثل حفظ حياة الناس، شرع الشارع له إيجاب القصاص من القاتل العامد، وحفظ ما لهم الذي شرع له حد السارق والسارقة. وحفظ عرضهم الذي شرع له حد القاذف والزاني والزانية، فكل من القتل العمد، والسرقة، والقذف، والزنا، وصف مناسب، أي أن تشريع الحكم بناء عليه يحقق مصلحة، وهو معتبر من الشارع؛ لأن الشارع بنى الحكم عليه، وهذا المناسب المعتبر من الشارع إما مناسب مؤثر، وإما مناسب ملائم، على حسب نوع اعتبار الشارع له، ولا خلاف في التشريع بناء عليه كما قدمنا.
وأما المصالح التي اقتضتها البيئات والطوارئ بعد انقطاع الوحي، ولم يشرع الشارع أحكاما لتحقيقها، ولم يقم دليل منه على اعتبارها أو إلغائا، فهذه تسمى المناسب المرسل أو بعبارة أخرى المصلحة المرسلة، مثل المصلحة التي اقتضت أن الزواج الذي لا يثبت بوثيقة رسمية لا تسمع الدعوى به عند الإنكار، ومثل المصلحة التي اقتضت أن عقد البيع الذي لا يسجل لا ينقل الملكية، فهذه كلها مصالح لم يشرع الشارع أحكاما لها، ولم يدل دليل منه على اعتبارها أو إلغائها، فهي مصالح مرسلة.
2-
أدلة من يحتجون بها:
ذهب جمهور علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة حجة شرعية يبنى عليها تشريع الأحكام، وأن الواقعة التي لا حكم فيها بنص أو إجماع، وقياس أو استحسان، يشرع فيها الحكم الذي تقتضيه المصلحة المطلقة، ولا يتوقف تشريع الحكم بناء على هذه المصلحة على وجود شاهد من الشرع باعتبارها.
ودليلهم على هذا أمران:
أولهما: أن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم، واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس.
وثانيهما: أن من استقرأ تشريع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين؛ يتبين أنهم شرعوا أحكاما كثيرة لتحقيق مطلق المصلحة، لا لقيام شاهد باعتبارها. فأبو بكر جمع الصحف المفرقة التي كانت مدونا فيها القرآن، وحارب مانعي الزكاة، واستخلف عمر بن الخطاب، وعمر أمضى الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات، ووضع الخراج ودون الدواوين، واتخذ السجون، ووقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة، وعثمان جمع المسلمين على مصحف واحد ونشره وحرق ما عداه، وورث زوجة من طلق زوجته للفرار من إرثها، وعلى حرق الغلاة من الشيعة الروافض، والحنفية حجروا على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس، والمالكية أباحوا حبس المتهم وتعزيره توصلا إلى إقراره، والشافعية أوجبوا القصاص من الجماعة إذا قتلوا الواحد، وجميع هذه
المصالح التي قصدوها بما شرعوه من الأحكام هي مصالح مرسلة، وقد شرعوا بناء عليها؛ لأنه مصلحة؛ ولأنها لا دليل من الشارع على إلغائها، وما وقفوا عن التشريع لمصلحة حتى يشهد شاهد شرعي باعتبارها، ولهذا قال القرافي:"إن الصحبة عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار" وقال ابن عقيل: "السياسة كل فعل تكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي، ومن قال: "لا سياسة إلا بما نطق به الشرع فقد غلط وغلط الصحابة في شريعتهم".
3-
شروط الاحتجاج بها:
من يحتجون بالمصلحة المرسلة احتاطوا للاحتجاج بها حتى لا تكون بابا للتشريع بالهوى والتشهي، ولهذا اشترطوا في المصلحة المرسلة التي يبني عليها التشريع شروطا ثلاثة:
أولها: أن تكون مصلحة حقيقية وليست مصلحة وهمية، والمراد بهذا أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا أو يدفع ضررًا، وأما مجرد توهم أن التشريع يجلب نفعًا، من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر، فهذا بناء على مصلحة وهمية. ومثال هذه المصلحة التي تتوهم في سلب الزوج حق تطليق زوجته، وجعل حق التطليق للقاضي فقط في جميع الحالات.
ثانيها: أن تكون مصلحة عامة وليست مصلحة شخصية. والمراد بهذا أن يتحقق من أن تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعا لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضررا عنهم وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم. فلا يشرع الحكم؛ لأنه يحقق مصلحة خاصة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم. فلا بد أن تكون لمنفعة جمهور الناس.
ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكما، أو مبدأ ثبت بالنص أو الإجماع لا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة الابن والبنت في الإرث؛ لأن هذه مصلحة ملغاة لمعارضتها نص القرآن، ولهذا كانت فتوى يحيى بن يحيى الليثي المالكي فقيه الأندلس، وتلميذ الإمام مالك بن أنس خاطئة؛ وذلك أن أحد ملوك الأندلس أفطر عمدا في رمضان، فأفتاه الإمام يحيى بأنه لا كفارة لإفطاره إلا أن يصوم شهرين متتابعين، وبنى فتواه على أن المصلحة تقتضي هذا، إذ أن
المقصود من الكفارة زجر المذنب وردعه حتى لا يعود إلى مثل ذنبه، ولا يردع هذا الملك إلا هذا، فأما إعتاقه رقبة فهذا يسير عليه ولا ردع فيه. فهذه الفتوى بنيت على مصلحة ولكنها تعارض نصا؛ لأن النص صريح في أن كفارة من أفطر في رمضان عمدا إعتاق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، بلا تفريق بين ملك يفطر وفقير يفطر، فالمصلحة التي اعتبرها المفتي لإلزام الملك بالتكفير بصيام شهرين خاصة مصلحة ليست مرسلة بل هي ملغاة.
ومن هذا يتبين أن المصلحة، وبعبارة أخرى الوصف المناسب إذا دل شاهد شرعي على اعتباره بنوع من أنواع الاعتبار، فهو المناسب المعتبر من الشارع، وهو إما المناسب المؤثر أو المناسب الملائم، وإذا دل شاهد شرعي على إلغاء اعتباره فهو المناسب الملغي، وإذا لم يدل شاهد شرعي على اعتباره، ولا على إلغائه فهو المناسب المرسل، وبعبارة أخرى المصلحة المرسلة.
أظهر شبه من لا يحتجون بها:
ذهب بعض علماء المسلمين إلى أن المصلحة المرسلة التي لم يشهد شاهد شرعي باعتبارها، ولا بإلغائها لا يبنى عليها تشريع.
ودليلهم أمران:
الأول: أن الشريعة راعت كل مصالح الناس نصوصها، وبما أرشدت إليه من القياس، والشارع لم يترك النالس سدى، ولم يهمل أية مصلحة من غير إرشاد إلى التشريع لها، فلا مصلحة إلا ولها شاهد من الشارع باعتبارها، والمصلحة التي لا شاهد من الشارع باعتبارها ليست في الحقيقة مصلحة، وما هي إلا مصلحة وهمية ولا يصح بناء التشريع عليها.
والثاني: أن التشريع بناء على مطلق المصلحة فيه فتح باب لأهواء ذوي الأهواء، من الولاة والأمراء ورجال الإفتاء، فبعض هؤلاء قد يغلب عليهم الهوى والغرض فيتخيلون المفاسد مصالح، والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والبيئات، ففتح باب التشريع لمطلق المصلحة فتح باب الشر.
والظاهر لي: هو ترجيح بناء التشريع على المصلحة المرسلة؛ لأنه إذا لم يفتح
هذا الباب جمد التشريع الإسلامي، ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات. ومن قال: إن كل جزئية من جزئيات مصالح الناس، في أي زمن وفي أي بيئة قد راعاها الشارع، وشرع بنصوصه ومبادئه العامة ما يشهد لها ويلائمها، فقوله: لا يؤيده الواقع؛ فإنه مما لا ريب فيه أن بعض المصالح التي تجد لا يظهر شاهد شرعي على اعتبارها ذاتها.
ومن خاف من العبث والظلم واتباع الهوى باسم المصلحة المطلقة،؟؟؟ خوفه بأن المصلحة المطلقة لا يبنى عليها تشريع إلا إذا توافرت فيها الشروط الثلاثة التي بيناها، وهي أن تكون مصلحة عامة حقيقية لا تخالف نصا شرعيا ولا مبدأ شرعيا.
قال ابن القيم: "من المسلمين من فرطوا في رعاية المصلحة المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة، لا تقوم بمصلح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق الحق والعدل، ومنهم من أفرطوا فسوغوا ما ينافي شرع الله، وأحدثوا شرا طويلا وفسادا عريضا".