الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه
"غير الواضح الدلالة من النصوص، وهو ما لا يدل على المراد منه بنفس صيغته، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي. إن كان يزال خفاؤه بالبحث والاجتهاد فهو الخفي أو المشكل، وإن كان لا يزال خفاؤه إلا بالاستفسار من الشارع نفسه فهو المجمل، وإن كان لا سبيل إلى إزالة خفائه فهو المتشابه".
قدمنا في القاعدة الثالثة أن مراتب الواضح الدلالة تتفاوت في وضوحها وبينا في تلك القاعدة أقسام الواضح الدلالة. ونبين في هذه القاعدة أقسام غير الواضح الدلالة، ومراتب خفائه وما يزال به الخفاء.
وقد قسم الأصوليون غير الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام أيضا: الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه.
وهذا بيان المراد اصطلاحًا بكل واحد من هذه الأقسام الأربعة، وأمثلته وحكمه:
1-
الخفي:
المراد بالخفي في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي يدل على معناه دلالة ظاهرة، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء تحتاج إزالته إلى نظر وتأمل، فيعتبر اللفظ خفيا بالنسبة إلى هذا البعض من الأفراد، ومنشأ هذا الغموض أن الفرد فيه صفة زائدة على سائر الأفراد أو ينقص عنها صفة، أو له اسم خاص؛ فهذه الزيادة أو النقص أو التسمية الخاصة تجعله موضع اشتباه، فيكون اللفظ خفيا بالنسبة إلى هذا الفرد؛ لأن تناوله لا يفهم من نفس اللفظ، بل لا بد له من أمر خارجي.
مثال ذلك لفظ السارق، معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوم المملوك للغير خفية من حرز مثله، ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالنشال "الطراز" فإنه آخذ المال في حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارقة الأعين. فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه وهو جرأة المسارقة، ولذا
سمي باسم خاص. فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده، أو لا يصدق عليه فيعاقب تعزيرا؟ وقد ثبت بالاجتهاد اتفاقا وجوب قطع يده من طريق دلالة النص؛ لأنه أولى بالحكم من جهة أن علة القطع أكثر توافرا فيه. وكالنباش، فإنه أخذ مال غير مرغوب فيه عادة من قبور الموتى، كأكفانهم وثيابهم، فهو يغاير السارق من جهة أنه لا يأخذ مملوكا من حرز، ولذا سمي باسم خاص به فهل يصدق عليه لفظ السارق فتقطع يده أو لا يصدق فيعاقب تعزيرًا. وقد ثبت للشافعي، وأبي يوسف أنه سارق فتقطع يده. وثبت لسائر أئمة الحنفية أنه غير السارق فيعاقب تعزيرًا بما يردعه ولا تقطع يده؛ لأنه أخذه مالًا غير مرغوب فيه ولا مملوكا لأحد ومن غير حرز شبهه يسقط الحد، وكذا لفظ القاتل في حديث:"لا يرث القاتل"، هل يتناول القاتل خطأ أو بالتسبب أو لا يتناوله. والبائع إذا أخذ من المشتري نقودا على أن يأخذ منها ثمن المبيع ويرد الباقي اختفى، هل يصدق عليه أنه سارق أو خائن الأمانة. وكذا كل لفظ دل دلالة ظاهرة على معناه، ولكن وجد خفاء واشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد يعتبر اللفظ خفيا بالنسبة إلى هذه الأفراد.
وأمثلة هذا في القوانين الشرعية والوضعية كثيرة. ومن أظهرها بعض الجرائم التي يشتبه في أنها جناية أو جنحة، أي في انطباق أحد اللفظين عليها.
والطريق لإزالة هذا الخفاء هو بحث المجتهد وتأمله. فإن رأى اللفظ يتناول هذا الفرد، ولو بطريق الدلالة جعله من مدلولاته فأخذ حكمه، وإن رأى اللفظ لا يتناوله بأي طريق منطرق الدلالة لم يجعله من مدلولاته فلا يأخذ حكمه، وهذا مما تختلف فيه أنظار المجتهدين. ولذلك جعل بعضهم النباش سارقا ولم يجعله آخرون. ومرجعهم في اجتهادهم لإزالة هذا الخفاء هو علة الحكم، وحكمته، ما ورد في هذا الشأن من النصوص، فقد تكون العلة أكثر توافرا في هذا الفرد، وربما لا تكون متحققة فيه، وقد يدل على حكمه نص آخر يتناوله بوضوح.
2-
المشكل:
المراد بالمشكل في اصطلاح الأصوليين؛ اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لا بد من قرينة خارجية تبين ما يراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث.
فسبب الخفاء في الخفي ليس من نفس اللفظ، ولكن من الاشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد لعوامل خارجية، وأما سبب الخفاء في المشكل فمن نفس اللفظ لكونه موضوعا لغة لأكثر من معنى، ولا يفهم المعنى المراد منه بنفسه، أو لتعارض ما يفهم من نص مع ما يفهم من نص آخر.
وقد ينشأ الإشكال في النص من لفظ مشترك فيه، فإن اللفظ المشترك موضوع لغة لأكثر من معنى واحد، وليس في صيغته دلالة على معنى معين مما وضع له، فلا بد من قرينة خارجية تعينه كلفظ القرء في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، فإنه موضوع في اللغة للطهر وللحيض، فأي المعنيين هو المراد في الآية، وهل تنقضي عدة المطلقة بثلاث حيضات أو بثلاثة أطهار؟ ذهب الشافعي وبعض المجتهدين إلى أن القرء في الآية المراد منه الطهر، والقرينة هي تأنيث اسم العدد؛ لأنه يدل لغة على أن المعدود مذكر وهو الأطهار لا الحيضات -وذهبت الحنفية وفريق آخر من المجتهدين إلى أن القرء في الآية هو الحيض والقرينة:
أولًا: حكمة تشريع العدة، فإن الحكمة في إيجاب العدة على المطلقة تعرف براءة رحمها من الحمل، والذي يعرف هذا هو الحيض لا الطهر.
وثانيا: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، فإنه جعل مناط الاعتداد بالأشهر عدم الحيض، فدل على أن الأصل هو الاعتداد بالحيض.
وثالثا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان". فالتصريح بأن عدة الأمة بالحيض بيان للمراد بالقرء في اعتداد الحرة، وأما تأنيث اسم العدد فمراعاة تذكير لفظ المعدود وهو القرء.
وقد ينشأ الإشكال في مقابلة النصوص بعضها ببعض، أي يكون كل نص على حدته ظاهر الدلالة على معناه ولا إشكال في دلالته، ولكن الإشكال في التوفيق والجمع بين هذه النصوص. ومثال هذا قوله تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} مع قوله سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} مع قوله سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ، وسائر النصوص التي ظاهرها التعارض.
والطريق لإزالة إشكال المشكل هو الاجتهاد. فعلى المجتهد، إذا ورد في النص لفظ مشترك أن يتوصل بالقرائن، والأدلة التي نصبها الشارع إلى إزالة إشكاله وتعيين المراد منه، كما تبين من اجتهاد المجتهدين تعيين المراد بلفظ القرء في الآية، واختلاف وجهة نظرهم في هذا التعيين، وإذا وردت نصوص ظاهرها التخالف والتعارض، فعلى المجتهد أن يؤولها تأويلا صحيحا يوفق بينها، ويزيل ما في ظاهرها من اختلاف، وهاديه في هذا التأويل: إما نصوص أخرى، أو قواعد الشرع أو حكمة التشريع.
3-
المجمل:
المراد بالمجمل في اصطلاح الأصوليين: اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا توجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، فسبب الخفاء فيه لفظي لا عارض.
فمن المجمل الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية، ووضعها لمعان اصطلاحية شرعية خاص، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والربا، وغير هذا من كل لفظ أراد به الشارع معنى شرعيا خاصا لا معناه اللغوي.
فإذا ورد لفظ منها في نص شرعي كان مجملا حتى يفسره الشارع. ولذا جاءت السنة العملية والقولية بتفسير الصلاة، وبيان أركانها وشروطها وهيئاتها، وقال الرسول:"صلوا كما رأيتموني أصلي". وكذلك فسر الزكاة والصيام والحج والربا، وكل ما جاء مجملًا في نصوص القرآن.
ومن المجمل اللفظ الغريب الذي فسره النص نفسه بمعنى خاص، كلفظ القارعة في قوله تعالى:{الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} ، ولفظ الهلوع في قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} .
ومن المجمل في نصوص القوانين الوضعية كلمة "أصل الأوقاف" الواردة بالمادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، فإن الشارع أراد بها معنى أجمله، ولم
يفصله، ولذا ظل السنين العديدة مثار الخلاف بين الهيئات القضائية في مصر حتى فصلها الشارع المصري بعض التفصيل في الفقرة 2 من المادة 28 من لائحة التنظيم القضائي للمحاكم المختلطة الصادرة في سنة 1927 ونصها:"كذلك لا تختص المحاكم المختلطة بالمنازعات المتعلقة مباشرة، أو بالواسطة بأصل الواقف أو بصحته أو بتفسيره أو تطبيق بعض شروطه أو بتعيين النظار وعزلهم".
وكلمة الأحوال الشخصية الواردة في عبارة: "غير ذلك مما يتعلق بالأحوال الشخصية" في المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، فإن المراد منها مجمل فسره الشارع المصري أخيرًا في المادة 2 من القانون رقم 91 سنة 1938 التي بينت المراد من الأحوال الشخصية.
وكلمات ضبط الإشهادات وكتابة سنداتها وتسجيلها الواردة في المادة 363 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية. ولهذا فسّر الشارع كل كلمة منها بمادة، فكل لفظ لا يفهم المراد منه بنفسه بسبب وضعه لغة لأكثر من معنى إذا حفت به قرائن يمكن أن يتوصل بها إلى تعيين المراد منه فهو المشكل.
وكل لفظ لا يفهم المراد منه بنفسه إذا لم تحف به قرائن يتوصل بها إلى فهم المراد منه فهو المجمل.
فسبب إجمال اللفظ، إما كونه من المشترك الذي لا تحف به قرينة تعين أحد معانيه، أو إرادة الشارع منه معنى خاصًّا غير معناه اللغوي، أو غرابة اللفظ وغموض المراد منه.
والمجمل بأي سبب من هذه الأسباب الثلاثة لا سبيل إلى بيانه وإزالة إجماله، وتفسير المراد منه إلا بالرجوع إلى الشارع الذي أجمله؛ لأنه هو الذي أبهم مراده ولم يدل عليه لا بصيغة لفظية ولا بقرائن خارجية. فإليه يرجع في بيان ما أبهمه. وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل وكان بيانًا وافيًا قاطعًا، صار به المجمل من المفسر، كالبيان الذي صدر مفصلا للزكاة والصلاة والحج وغيرها.
وإذا صدر من الشارع بيان للمجمل، ولكن بيان غير واف بإزالة الإجمال صار به المجمل من المشكل، وفتح الطريق للبحث والاجتهاد لإزالة إشكاله، ولم يتوقف بيانه على الرجوع إلى الشارع؛ لأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين
فتح الباب للبيان بالتأمل والاجتهاد. ومثال ذلك الربا، ورد في القرآن مجملا وبينه الرسول بحديث الأموال الربوية الستة1، ولكن هذا البيان ليس وافيا؛ لأنه لم يحصر الربا فيها، وبهذا فتح الباب لبيان ما يكون فيه الربا قياسا على ما ورد في الحديث. ولفظ أصل الوقف ورد في القانون مجملا، وبينه الشارع في الفقرة 2 من المادة 28 من لائحة التنظيم القضائي، ولكنه بيان غير واف ولا حاصر، فصار اللفظ به من المشكل. وفتح الطريق لبيانه بالاجتهاد.
4-
المتشابه:
المراد بالمتشابه في اصطلاح الأصوليين، اللفظ الذي لا تدل صيغته بنفسها على المراد منه. ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره.
والمتشابه بهذا المعنى ليس في النصوص التشريعية منه شيء. فلا يوجد في آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام لفظ متشابه لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما يوجد في مواضع أخرى من النصوص مثل الحروف المقطعة في أوائل بعض السور: ال م. ق. ص. ح م، ومثل الآيات التي ظاهرها أن الله يشبه خلقه في أن له يدًا وعينًا ومكانًا، مثل قوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، وقوله:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، فالحروف الهجائية المقطعة في أوائل بعض السور لا تدل بنفسها على المراد منها، ولم يفسر الله ما أراده منها فهو أعلم بمراده. وكذلك الآيات الموهم ظاهرها تشبيه الخالق بخلقه لا يمكن أن يفهم منها معنى ألفاظها اللغوية؛ لأن الله سبحانه منزه عن اليد والعين والمكان وكل ما يشبه خلقه، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولم يبين الشارع ما أراد منها فهو أعلم بمراده. هذا هو رأي السلف في معنى المتشابه. فهم يفوضون إلى الله علمه ويؤمنون به ولا يبحثون في تأويله، وأما رأي الخلف فهو أن هذه الآيات ظاهرها مستحيل؛ لأن الله لا يد له ولا عين ولا مكان، ولك ما ظاهره مستحيل إرادته يجب أن يؤول ويصرف عن هذا الظاهر، ويراد به معنى
1 نص الحديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، والتمر بالتمر، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم. إذا كان يدا بيد".
يحتمله اللفظ ولو بطريق المجاز، وليس فيه تشبيه الخالق بخلقه. فقوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} تأويله: قدرة الله فوق قدرتهم. وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} تأويله: واصنع الفلك برعايتنا وإحاطتنا. وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ....} تأويله: أنه سبحانه مع كل من يتناجون بعلمه وإحاطته وهكذا.
ومنشأ هذا الخلاف في قوله تعالى في شأن المتشابهات: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، فمن جعل الوقف على لفظ الجلالة قال: لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله، فتؤمن به ونفوض علمه له ولا نبحث في تأويله، ومن جعل الوقف على:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قال: "لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فهم يعلمون تأويله بإرادة معنى يحتمله اللفظ ويتفق وتنزيه الخالق عن مشابهة خلقه.
والذي يظهر لي أنه الحق هو تفسير المتشابهات في القرآن بالمشتبهات أي المحتملات التي يكون احتمالها مجالا للاختلاف في تأويلها، وهي تقابل المحكمات التي أحكمت عباراتها وحفظت من الاشتباه واحتمال التأويل. فعلى هذا ليس في القرآن ما لا سبيل إلى علم المراد منه، وإنما فيه ألفاظ تدل على المراد منها نفسها من غير اشتباه ولا احتمال للتأويل والاختلاف، وفيه ألفاظ تدل على معنى ويحتمل أن يراد منها غيره، وهذا مجال البحث والاجتهاد لإزالة الاحتمال وتعيين المراد، وفيه ألفاظ لا تدل على المراد منها بنفسها، ولكن أحاطها الشارع بقرائن أو ألحقها ببيان يفسر ما أراد منها؛ لأن الله أنزل القرآن للتدبر والذكر فكيف يكون في آياته ما لا سبيل إلى فهمه مطلقًا: والمقطعات في أوائل بعض السور ذكرت للدلالة على أن القرآن الذي أعجز الناس هو مكون من حروفهم، وليس من حروف أخرى غريبة عنهم، ولهذا يرى أن أكثر السور المبدوءة بهذه المقطعات فيها ذكر الكتاب بعد سرد هذه الحروف.