الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
المحكوم عليه:
المحكوم عليه: هو المكلف الذي تعلق حكم الشارع بفعله.
ويشترط في المكلف لصحة تكليفه شرعا شرطان:
أحدهما: أن يكون قادرًا على فهم دليل التكليف، بأن يكون في استطاعته أن يفهم النصوص القانونية التي يكلف بها من القرآن والسنة بنفسه أو بالواسطة؛ لأن من لم يستطع فهم دليل التكليف لا يمكنه أن يتمثل ما كلف به، ولا يتجه قصده إليه، والقدرة على فهم أدلة التكليف إنما تتحقق بالعقل وبكون النصوص التي يكلف بها العقلاء في متناول عقولهم فهمها؛ لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك، وبه توجه الإرادة إلى الامتثال، ولما كان العقل أمرًا خفيًّا لا يدرك بالحس الظاهر، ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر يدرك بالحس هو مظنة للعقل وهو البلوغ، فمن بلغ الحلم من غير أن تظهر أعراض خلل بقواه العقلية فقد توافرت فيه القدرة على أن يكلف. وعلى هذا لا يكلف المجنون، ولا الصبي لعدم وجود العقل الذي هو وسيلة فهم دليل التكليف، ولا يكلف الغافل والنائم والسكران؛ لأنهم في حالة الغفلة والنوم أو السكر ليس في استطاعتهم الفهم. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل". وقال عليه الصلاة والسلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها".
وأما إيجاب الزكاة والنفقة والضمان على الصبي والمجنون فليس تكليفا لهما، وإنما هو تكليف الولي عليهما بأداء الحق المالي المستحق في مالهما، كأداة ضريبة أطيانهما وأملاكهما.
وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ، فليس تكليفا للسكارى حين سكرهم أن لا يقربوا الصلاة، وإنما هو تكليف للمسلمين في حال صحوهم أن لا يشربوا الخمر، إذا دنا وقت الصلاة حتى لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فكأنه سبحانه قال: إذا دنا وقت الصلاة فلا
تشربوا الخمر، وأما إيقاع طلاق السكران على مذهب الحنفية فهو عقاب له على سكره، ولهذا شرطوا أن يكون جانيًا بسكره بأن شرب محرما طائعا.
وأما من لا يعرفون اللغة العربية، ولا يستطيعون فهم أدلة التكليف الشرعية من القرآن والسنة، كاليابانيين والهنود والجاويين وغيرهم، فهؤلاء لا يصح تكليفهم شرعا إلا إذا تعلموا اللغة العربية واستطاعوا أن يفهموا نصوصها، أو ترجمت أدلة التكليف الشرعية إلى لغتهم، بحيث يستطيعون أن يجدوا كتابا دينيا بلغتهم يبين لهم ما يكلفهم به الإسلامي، أو قامت طائفة بتعلم لغات هذه الأمم التي لا تعرف اللغة العربية، ونشرت بينهم تعاليم الإسلام، وأدلته التكليفية مخاطبة لهم بلغتهم، وهذا الطريق الثالث هو الطريق القويم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع أشهد الله أنه بلغ رسالته، وأمر المسلمين أن يبلغ منهم الشاهد الغائب، والشاهد يشمل كل من اهتدى إلى الإسلام وعرف أحكامه. والغائب يشمل كل من لم يعرف لغة القرآن ولم يستطع فهم آياته. فأما إذا ترك هذا الغائب على حاله لا يعرف لغة القرآن، ولا يستطيع أن يفهم دلائله، ولا ترجمت آياته إلى لغته، ولا قام أحد يعرف لغة القرآن بتعليمه ما يكلف به باللغة التي يفهمها؛ فهو شرعًا غير مكلف؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. ولهذا قال الله تعالى في سورة إبراهيم:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .
وثانيهما: أن يكون أهلًا لما كلف به.
والأهلية معناها في اللغة: الصلاحية. يقال: فلان أهل للنظر على الوقف أي صالح له.
وأما في اصطلاح الأصوليين فالأهلية تنقسم إلى قسمين: أهلية وجوب، وأهلية أداء، فأهلية الوجوب هي صلاحية الإنسان، لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وأساسها الخاص التي خلق الله عليها الإنسان، واختصه بها من بين أنواع الحيوان، وبها صلح لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات. وهذه الخاصة هي التي سماها الفقهاء الذمة. فالذمة هي الصفة الفطرية الإنسانية التي بها ثبتت للإنسان حقوق قبل غيره، ووجبت عليه واجبات لغيره.
وهذه الأهلية أي أهلية الوجوب ثابتة لكل إنسان بوصف أنه إنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى، وسواء أكان جنينا أم طفلا أم مميزا أم بالغا، أم رشيدا أم سفيهًا،
عاقلا أو مجنونا، صحيحا أو مريضا؛ لأنها مبنية على خاصة فطرية في الإنسان. فكل إنسان أيا كان له أهلية الوجوب ولا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب؛ لأن أهليته للوجوب هي إنسانيته.
وأما أهلية الأداء: فهي صلاحية المكلف، لأن تعتبر شرعا أقواله وأفعاله. بحيث إذا صدر منه عقد أو تصرف كان معتبرا شرعا وترتبت عليه أحكامه، وإذا صلى أو صام أو حج أو فعل أي واجب كان معتبرا شرعا ومسقطا عنه الواجب، وإذا جنى على غيره، في نفس أو مال أو عرض أخذ بجنايته وعوقب عليها بدنيا وماليا، فأهلية الأداء هي المسئولية وأساسها في الإنسان التمييز بالعقل.
حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب:
الإنسان بالنسبة لأهلية الوجوب به حالتان اثنتان فقط:
فقد تكون له أهلية وجوب ناقصة إذا صلح؛ لأن تثبت له حقوق، لا لأن تجب عليه واجبات، أو العكس، ومثلوا للأول بالجنين في بطن أمه فإنه تثبت له حقوق؛ لأنه يرث ويوصى له ويستحق في ربع الوقف، ولكن لا تجب عليه لغيره واجبات، فأهلية الوجوب الثابتة له ناقصة، ومثلوا للثاني بالميت، إذا مات مدينا فإنه تبقى عليه حقوق دائنيه، بل إن بعض الفقهاء اعتبر للميت بعد موته أهلية وجوب كاملة، إذا مات دائنا ومدينا فتكون له حقوق على مدينيه، وعليه حقوق لدائنيه، وهذا كلام لا وجه له. والحق أن الموت قضى على خاصة الإنسان، فليست له ذمة ولا أهلية وجوب كاملة ولا ناقصة، وأما مطالبة مدينيه بما عليهم من الديون؛ فلأنها صارت حقا للورثة، والورثة خلفوا مورثهم فيما كان له وفيما كان عليه في حدود ما تركه، وبعبارة أخرى ورثوا ما له من ديون على غيره، وآلت إليهم تركته مشغولة بديون لغيره.
وقد تكون له أهلية وجوب كاملة إذا صلح، لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وهذه تثبت لكل إنسان من حين ولادته، فهو في طفولته وفي سن تمييزه، وبعد بلوغه، على أية حال كان في أي طور من أطوار حياته له أهلية وجوب كاملة. وكما قدمنا لا يوجد إنسان عديم أهلية الوجوب.
حالات الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء:
الإنسان بالنسبة لأهلية الأداء له حالات ثلاث:
1-
قد يكون عديم الأهلية للأداء أصلًا، أو فاقدها أصلا. وهذا هو الطفل في زمن طفولته والمجنون في أي سن كان. فكل منهما لكونه لا عقل له لا أهلية أداء له، وكل منهما لا تترتب آثار شرعية على أقواله ولا على أفعاله، فعقوده وتصرفاته باطلة، غاية الأمر أنه إذا جنى أحدهما على نفس أو مال يؤاخذ ماليا لا بدنيا، فإذا قتل الطفل أو المجنون أو أتلف مال غيره ضمن دية القتيل أو ما أتلفه ولكنه لا يقتص منه. وهذا معنى قول الفقهاء:"عمد الطفل أو المجنون خطأ"؛ لأنه ما دام لا يوجد العقل لا يوجد القصد فلا يوجد العمد.
2-
وقد يكون ناقص الأهلية للأداء، وهو المميز الذي لم يبلغ الحلم، وهذا يصدق على الصبي في دور التمييز قبل البلوغ، ويصدق على المعتوه، فإن المعتوه ليس مختل العقل ولا فاقده ولكنه ضعيف العقل ناقصه، فحكمه حكم الصبي المميز. وكل منهما لوجود وثبوت أصل أهلية الأداء له بالتمييز تصح تصرفاته النافعة له نفعا محضا، كقبوله الهبات والصدقات بدون إذن وليه.
وأما تصرفاته الضارة بماله ضررا محضا، كتبرعاته، وإسقاطاته، فلا تصح أصلا ولو أجازها وليه، فهبته ووصيته ووقفه وطلاقه وإعتاقه كل هذه باطلة ولا تلحقها إجازة وليه.
وأما تصرفاته الدائرة بين النفع له والضرر به، فتصح منه ولكنها تكون موقوفة على إذن وليه بها. فإن أجاز وليه العقد أو التصرف نفذ، وإن لم يجزه بطل.
فصحة أصل هذه العقود والتصرفات من المميز أو المعتوه مبنية على ثبوت أصل أهلية الأداء له، وجعلها موقوفة على إذن الولي مبني على نقص هذه الأهلية، فإذا انضم الولي أو إجازته إلى التصرف جبر هذا النقص، فاعتبر العقد أو التصرف من ذي أهلية كاملة.
3-
وقد يكون كامل الأهلية للأداء وهو من بلغ الحلم عاقلا. فأهلية الأداء الكاملة تتحقق ببلوغ الإنسان عاقلا.
والأصل أن أهلية الأداء بالعقل، ولكنها ربطت بالبلوغ؛ لأن البلوغ مظنة العقل، والأحكام تربط بعلل ظاهرة منضبطة، فالبالغ سواء كان بلوغه بالسن أو بالعلامات يعتبر عاقلا وأهلا للأداء كامل الأهلية ما لم يوجد ما يدل على اختلال عقله أو نقصه.
عوارض الأهلية:
قدمنا أن أهلية الوجوب تثبت للإنسان بوصف أنه إنسان، وأنه وهو جنين في بطن أمنه تثبت له أهلية وجوب ناقصة، وبعد ولادته تثبت له أهلية وجوب كاملة في طفولته، وفي سن تمييزه وبعد بلوغه وفي نومه ويقظته وفي جنونه وإفاقته وفي رشده وسفهه. وما دام حيا لا يعرض لهذه الأهلية ما يزيلها أو ينقصها.
وأما أهلية الأداء فقد قدمنا أنها لا تثبت وهو جنين قبل أن يولد، ولا وهو طفل لم يبلغ السابعة، وأنه من سن التمييز أي بعد السابعة إلى سن البلوغ أي خمس عشرة سنة تثبت له أهلية أداء ناقصة. ولهذا يصح بعض تصرفاته ولا يصح بعضها، ويتوقف بعضها على إذن الولي أو إجازته. وأنه من سن بلوغه الحلم تثبت له أهلية أداء كاملة غير أن هذه الأهلية قد تعرض لها عوارض، منها ما هو عارض سماوي لا كسب للإنسان فيه ولا اختيار، كالجنون والعته والنسيان، ومنها ما هو عارض كسبي يقع بكسب الإنسان، واختياره كالسكر والسفه والدين.
وهذه العوارض التي تعرض لأهلية الأداء منها ما يعرض للإنسان، فيزيل أهليته للأداء أصلا كالجنون، والنوم والإغماء فالمجنون والنائم، والمغمى عليه ليس لواحد منهم أهلية أدء أصلا، ولا تترتب على تصرفاته آثارها الشرعية، وما وجب على المجنون بمقتضى أهليته للوجوب من واجبات مالية يؤديها عنه وليه، وما وجب على النائم والمغمى عليه بمقتضى أهليتهما للوجوب من واجبات بدنية، أو مالية يؤديها كل منهما بعد يقظته أو إفاقته.
ومنها ما يعرض للإنسان فينقص أهليته للأداء ولا يزيله كالعته، ولهذا صحت بعض تصرفات المعتوه دون بعضها كالصبي المميز.
ومنها ما يعرض للإنسان فلا يؤثر في أهليته لا بإزالتها ولا بنقصها، ولكن يغير بعض أحكامه لاعتبارات ومصالح قضت بهذا التغير، لا لفقد أهلية أو نقصها
كالسفه، والغفلة والدين، فكل من السفيه وذي الغفلة بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة، ولكن محافظة على مال كل منهم من الضياع، ومنعا من أن يكون كل منهما عالة على غيره حجر عليهم في التصرفات المالية، فلا تصح معاوضة مالية منهما، ولا تبرعات مالية، لا لفقد أهليتهما، أو نقصها، ولكن محافظة على مالهما.
وكذلك المدين بالغ عاقل له أهلية أداء كاملة. ولكن محافظة على حقوق دائنيه حجر عليه أن يتصرف في ماله بما يضر بحقوق الدائنين كالتبرعات.
فأهلية الأداء أساسها التمييز بالعقل، وأمارة العقل البلوغ، فمن بلغ عاقلًا فأهليته للأداء كاملة، وإذا طرأ عليه طارئ ذهب بعقله كالجنون، أو أضعفه كالعته، أو حال دون فهمه كالنوم والإغماء، فهذا الطارئ عارض له تأثير في أهلية الأداء بإزالتها أو بنقصها.
وإذا طرأ على الإنسان طارئ لم يذهب بعقله ولم يضعفه ولم يحل دون فهمه، فهذا الطارئ لا تأثير له في أهلية الأداء لا بإزالة ولا بنقص، وإن كان يقضي بتغير بعض الأحكام لمصالح اقتضت هذا التغير، كالسفه والغفلة والدين. ولهذا لا يرى الإمام أبو حنيفة الحجر بواحد من هذه الثلاثة؛ لأنه لا تأثير لواحد منها في أهلية الإنسان، ويرى أن المصالح التي ترتب على الحجر بها لا توازن بالضرر الذي يلحق الإنسان من الحجر عليه، واعتباره غير أهل.