المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته - علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع ط المدني

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن حياة المؤلف:

- ‌الكتاب الأول: علم أصول الفقه

- ‌الطبعة السابعة:

- ‌افتتاحية الطبعة السابعة:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1947:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1942:

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: في الأدلة الشرعية

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول: القرآن

- ‌الدليل الثاني: السنة

- ‌الدليل الثالث: الإجماع

- ‌الدليل الرابع: القياس

- ‌الدليل الخامس: الاستحسان

- ‌الدليل السادس: المصلحة المرسلة

- ‌الدليل السابع: العرف

- ‌الدليل الثامن: الاستصحاب

- ‌الدليل التاسع: شرع من قبلنا

- ‌الدليل العاشر: مذهب الصحابي

- ‌القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

- ‌ الحاكم:

- ‌ الحكم:

- ‌ المحكوم فيه:

- ‌ المحكوم عليه:

- ‌القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

- ‌تمهيد:

- ‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص

- ‌القاعدة الثانية: في مفهوم المخالفة

- ‌القاعدة الثالثة: في الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته

- ‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته

- ‌القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته

- ‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

- ‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع

- ‌القاعدة الثانية: فيما هو حق الله. وما هو حق المكلف

- ‌القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه

- ‌القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم

- ‌القاعدة الخامسة: في التعارض والترجيح

- ‌الكتاب الثاني: خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌تمهيد في بيان المراد من التشريع:

- ‌ عهد الرسول:

- ‌ عهد الصحابة:

- ‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين:

- ‌ عهد التقليد:

- ‌المحتويات:

- ‌محتويات علم أصول الفقه:

- ‌محتويات خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي:

الفصل: ‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته

‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته

إذا ورد في النص الشرعي لفظ عام ولم يقم دليل على تخصيصه، وجب حمله على عمومه وإثبات الحكم لجميع أفراده قطعًا. فإن قام دليل على تخصيصه وجب حمله على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، وإثبات الحكم لهذه الأفراد ظنا لا قطعا، ولا يخصص عام إلا بدليل يساويه أو يرجحه في القطعية أو الظنية.

تعريف العام:

العام: هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله، واستغراقه لجميع الأفراد، التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها، فلفظ "كل عقد" في قوله الفقهاء: كل عقد يشترط لانعقاده أهلية العاقدين، لفظ عام يدل على شمول كل ما يصدق عليه أنه عقد من غير حصر في عقد معين أو عقود معينة. ولفظ "من ألقى" في حديث:"من ألقى سلاحه فهو آمن"، لفظ عام يدل على استغراق كل فرد ألقى سلاحه من غير حصر في فرد معين أو أفراد معينين.

من هذا يؤخذ أن العموم من صفات الألفاظ؛ لأنه دلالة اللفظ على استغراقه لجميع أفراده، وأن اللفظ إذا دل على فرد واحد كرجل، أو اثنين كرجلين، أو كمية محصورة من الأفراد كرجال، ورهط ومائة وألف، فليس من ألفاظ العموم، وأن الفرق بين العام والمطلق، هو أن العام يدل على شمول كل فرد من أفراده، وأما المطلق فيدل على فرد شائع أو أفراد شائعة لا على جميع الأفراد. فالعام يتناول دفعة واحدة كل ما يصدق عليه من الأفراد، والمطلق لا يتناول دفعة واحدة إلا فردًا شائعا من الأفراد. وهذا هو المراد بقول الأصوليين: عموم العام شمولي، وعموم المطلق بدلي.

ألفاظ العموم:

استقراء المفردات والعبارات في اللغة العربية دل على أن الألفاظ التي تدل بوضعها اللغوي على العموم والاستغراق لجميع أفرادها هي:

1-

لفظ كل، ولفظ جميع -"كل راع مسئول عن رعيته"، {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} - كل خطأ يحدث ضررًا بالغير يلزم فاعله بالتعويض.

ص: 171

2-

المفرد المعروف بأل تعريف الجنس: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، البيع ينقل الملكية؛ لأن الجنس يتحقق في كل فرد من أفراده لا في فرد خاص أو أفراد مخصوصين.

3-

الجمع المعرف بأل تعريف الجنس: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ

} ، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . والجمع المعرف بالإضافة:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

4-

الأسماء الموصولة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} ، {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} ، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .

5-

أسماء الشرط: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} .

6-

النكرة في سياق النفي أي النكرة المنفية: "لا ضرر ولا ضرار". "لا هجرة بعد الفتح"، {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

فكل لفظ من هذه الألفاظ موضوع في اللغة وضعًا حقيقيا للدلالة على استغراق جميع أفراده، وإذا استعمل في غير هذا الاستغراق كان استعمالًا مجازيا لا بد له من قرينة تدل عليه، وتصرفه عن المعنى الحقيقي.

دلالة العام:

لم يختلف الأصوليون في أن كل لفظ من ألفاظ العموم التي بيناها موضوع لغة لاستغراق جميع ما يصدق عليه من الأفراد، ولا في أنه إذا ورد في نص شرعي دل على ثبوت الحكم المنصوص عليه لكل ما يصدق عليه من الأفراد، إلا إذا قام دليل تخصيص على الحكم ببعضها. وإنما اختلفوا في صفة دلالة العام الذي لم يخصص على استغراقه لجميع أفراده، هل هي دلالة قطعية أو دلالة ظنية.

فذهب فريق منهم وفيهم الشافعية إلى أن العام الذي لم يخصص ظاهر في العموم لا قطعي فيه. فهو ظني الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص كان ظني الدلالة أيضًا على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، فهو ظني الدلالة قبل التخصيص وبعده. ويترتب على هذا أنه يصح تخصيص العام بالدليل الظني

ص: 172

مطلقًا، سواء كان أول تخصيص أو ثاني تخصيص؛ لأن الظني يخصص بالظني، وأنه لا يتحقق التعارض بين عام وبين خاص قطعي؛ لأن شرط تحقق التعارض بين الدليلين أن يكونا قطعيين أو ظنيين، بل يعمل بالخاص فيما دل عليه. ويعلم بالعام فيما عداه، وحجتهم على ما ذهبوا إليه أن استقراء النصوص الشرعية التي وردت فيها ألفاظ العموم دل على أنه ما من عام إلا وخصص، وعلى أن العام الذي بقي على عمومه نادر جدا، وما استفيد بقاؤه على عمومه إلا من قرينة صاحبته، وإذاكان الشأن والكثير الغالب في كل عام أنه غير باق على عمومه؛ فإذا ورد العام مطلقا عن دليل يخصصه فهو بناء على الكثير الغالب محتمل للتخصيص. وعلى هذا فالعام المطلق عن دليل يخصصه ظاهر في العموم لا قطعي فيه.

وذهب فريق منهم وفيهم الحنفية إلى أن العام الذي لم يخصص قطعي في العموم، فهو قطعي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص صار ظاهرًا في دلالته على ما بقي بعد التخصيص، أي ظني الدلالة عليه. ففي هذا المذهب: العام الذي لم يخصص قطعي الدلالة على استغراقه جميع أفراده، وإذا خصص صار ظني الدلالة على ما بقي من أفراده بعد التخصيص.

ويترتب على هذا أنه لا يصح أن يخصص العام أول تخصيص بدليل ظني؛ لأن الظني لا يخصص القطعي، وأنه لا يصح أن يخصص ثانيا وثالثا بدليل ظني؛ لأنه بعد التخصيص الأول صار ظنيا، والظني يخصص الظني، وأنه يتحقق التعارض بين العام الذي لم يخصص، وبين الخاص القطعي؛ لأنهما قطعيان، وحجتهم على ما ذهبوا إليه "أن اللفظ العام موضوع حقيقة لاستغراق جميع ما صدق عليه معناه من الأفراد". واللفظ حين إطلاقه يدل على معناه الحقيقي قطعًا، فالعام المطلق عن قرينة تخصصه يدل على العموم قطعا، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بدليل. ولهذا استدل الصحابة والتابعون الأئمة المجتهدون بعموم الألفاظ العامة التي وردت في النصوص مطلقة عن التخصيص، واستنكروا تخصيصها من غير دليل، فإذا خصص العام بدليل دل هذا على صرفه عن معناه الحقيقي وهو العموم، واستعماله في معنى مجازي وهو الخصوص، وصار محتملًا لتخصيص ثان قياسا على التخصيص الأول؛ لأن علة التخصيص الأول قد تتحقق

ص: 173

في أفراد أخرى، فكأن التخصيص الأول فتح ثغرة في العموم، ومهد لفتح ثغرات أخرى. ولهذا صار العام الذي خصص ظني الدلالة على ما بقي بعد التخصيص.

والذي يظهر لي بعد المقارنة بين أدلة الفريقين، وأمثلتهما وشواهدهما أنه ليس بين رأييهما اختلاف جوهري من الناحية العملية؛ لأنه لا خلاف بينهما في أن العام يجب العمل بعمومه حتى يقوم على تخصيصه دليل، ولا في أن العام يحتمل أن يخصص بدليل، وأن تخصيصه بغير دليل تأويل غير مقبول. والقائلون بأن العام الذي لم يقم دليل على تخصيصه قطعي الدلالة على العموم، ما أرادوا بكونه قطعي الدلالة أنه لا يحتمل التخصيص مطلقا، وإنما أرادوا أنه لا يخصص إلا بدليل، والقائلون بأنه ظني الدلالة على العموم ما أرادوا أنه يخصص مطلقًا. وإنما أرادوا أنه يخصص بالدليل.

أنواع العام:

وقد ثبت باستقراء النصوص أن العام ثلاثة أقسام.

1-

عام يراد به قطعا العموم: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه كالعام في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} . في كل واحدة من هاتين الآيتين، تقرير سنة إلهية عامة لا تتخصص ولا تتبدل، فالعام فيهما قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص.

2-

وعام يراد به قطعا الخصوص: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه وتبين أن المراد منه بعض أفراده مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، فالناس في هذا النص عام، مراد به خصوص المكلفين؛ لأن العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين، مثل قوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} ، فأهل المدينة والأعراب في هذا النص لفظان عامان مراد بكل منهما خصوص القادرين؛ لأن العقل لا يقضي بخروج العجزة. فهذا عام مراد به الخصوص ولا يحتمل أن يراد به العموم.

3-

عام مخصوص: وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، مثل أكثر النصوص التي وردت

ص: 174

فيها صيغ العموم، مطلقة عن قرائن لفظية أو عقلية أو عرفية تعين العموم أو الخصوص. وهذا ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه، مثل {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} .

قال الشوكاني في التفريق بين العام الذي يرد به الخصوص، والعام المخصوص: العام الذي يراد به الخصوص هو العام الذي صاحبته حين النطق به قرينة دالة على أنه المراد به الخصوص لا العموم، مثل خطابات التكليف العامة، فالمراد بالعام فيها خصوص من هم أهل للتكليف لاقتضاء العقل إخراج من ليسوا مكلفين. ومثل:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} ، فالمراد كل شيء مما يقبل التدمير. وأما العام المخصوص فهو الذي لم تصاحبه قرينة دالة عن أنه مراد به بعض بعض أفراده، وهذا ظاهر في دلالته على العموم حتى يقوم دليل على تخصيصه.

تخصيص العام:

تخصيص العام في اصطلاح الأصوليين هو تبيين أن مراد الشارع من العام ابتداء بعض أفراده لا جميعها، أو هو تبيين أن الحكم المتعلق بالعام من ابتداء تشريعه حكم لبعض أفراده، فحديث:"لا قطع في أقل من ربع دينار" تخصيص للعام في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ؛ لأنه تبيين؛ لأن حكم القطع ما شرع لكل سارق وسارقة؛ وحديث: "ليس للقاتل ميراث" تخصيص لعموم الوارث في آيات المواريث؛ لأنه تبيين؛ لأن حكم الإرث ما شرع لكل قريب.

إما إذا شرع الحكم ابتداء متعلقا بكل أفراد العام، ثم قضت المصلحة بقصر الحكم على بعض أفراده، وقام الدليل على هذا القصر فلا يسمى هذا في اصطلاح الأصوليين تخصيصًا، وإنما يسمى نسخا جزئيا؛ لأنه إبطال العمل بحكم العام بالنسبة لبعض أفراده. فقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ، هو نسخ جزئي للعام في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ؛ لأن هذه الآية الثانية بعمومها تشمل كل قاذف سواء قذف زوجته أو غيرها، وقد شرع الحكم ابتداء عامًا، ثم قام الدليل وهو آيات اللعان على قصر الجلد على القاذف الذي يقذف غير زوجته، ودل على هذا حديث ابن مسعود،

ص: 175

قال: كنا جلوسا في المسجد ليلة الجمعة إذ دخل أنصاري فقال: يا رسول الله، أرأيتم الرجل يجد مع زوجته رجلًا، فإن قتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ، ثم قال: اللهم افتح، فنزلت آية اللعان في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ

} الآيات.

ومن هذا ينتج أن التخصيص في اصطلاح الأصوليين لا بد أن يكون بدليل مقارنة لتشريع العام؛ لأن بهذه المقارنة يتبين أن المراد ابتداء من العام بعض أفراده، وأما إذا كان متأخرًا عنه فهو نسخ جزئي له.

دليل التخصيص:

ودليل التخصيص قد يكون غير مستقل لفظا عن نص العام بأن يكون متصلا به وكالجزء منه. وقد يكون مستقلا عن نص العام، ومنفصلا عنه. ومن أظهر الأدلة المتصلة غير المستقلة: الاستثناء، والشرط، والوصف، والغاية. فالاستثناء كقوله تعالى في آية المداينة، بعد أن أر بكتابة الدين المؤجلة:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} . والشرط كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . والوصف كقوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، والغاية كقوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} .

ومن أظهر أدلة التخصيص المستقلة المنفصلة: العقل، والعرف، والنص، وحكمة التشريع.

فمن التخصيص بالعقل ما بيناه من قبل من تخصيص الناس في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} بمن عدا فاقدي الأهلية من الصبيان والمجانين، وتخصيص العام في كل خطاب تكليفي بمن هم أهل للتكليف. وتخصيص أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب بالقادرين على الجهاد مع الرسول؛ لأن العقل يقضي بأن يوجه الخطاب إلى من هم أهل له، وأن يخص بالتكليف من توافرت فيهم الأهلية للمكلف به، والشرع يؤيد هذا التخصيص الذي يقتضيه العقل، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية.

ومن التخصيص بالعرف، تخصيص الوالدات في قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} بمن عدا الوالدة الرفيعة القدر، التي ليس من عادة مثلها أن تلزم بإرضاع ولدها، كما ذهب إلى هذا الإمام مالك، وتخصيص الطعام

ص: 176

في حديث نهي رسول الله عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا بالطعام الذي كان متعارفا إطلاق لفظ الطعام عليه وقت التشريع، وتخصيص كل شيء في قوله تعال:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} بكل شيء قابل للتدمير. وبعض الأصوليين يعتبر دليل التخصيص في المثال الأخير الحس، وبعضهم يعتبره العقل والنتيجة واحدة، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فكثيرا ما يخصص العرف بعض الألفاظ العامة في مواد القانون، وكثيرا ما يخصص العرف التجاري بعض النصوص العامة في صيغ العقود.

ومن التخصيص بالنص: ما أشرنا إليه من قبل، في مواضع كثيرة، كقوله تعالى في المطلقات قبل الدخول:{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الذي خصص عموم قوله سبحانه: {الْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} .

ولا خلاف بين الأصوليين، في أنه يجوز تخصيص عام القرآن بالقرآن والسنة المتواترة؛ لأن نصوص القرآن والسنة المتواترة قطعية الثبوت، فيخصص بعضها بعضًا. وأما تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة، فذهب جمهور الأصوليين إلى أنه سائغ، واحتجوا بوقوعه والاتفاق على العمل به. فحديث:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته". خصص عموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، وحديث:"ليس للقاتل ميراث"، خصص عموم الوارث في آيات المواريث؛ والرجم خصص عموم الزاني والزنية، وحديث:"لا قطع في أقل من ربع دينار"، خصص عموم السارق والسارقة، وحديث:"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، خصص عموم:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، ودعوى تواتر بعض هذه الأحاديث أو شهرتها لا يقوم عليها دليل، وهذا المذهب هو السديد. والذين منعوا تخصيص عام الكتاب بالسنة غير المتواترة يصطدمون بعدة تخصيصات نبوية، لا سبيل لهم إلى إنكارها، ولا إلى تأويلها، ولا إلى إثبات تواترها.

وتخصيص نصوص في القوانين الوضعية لنصوص عامة فيها كثير. فمن ذلك المادة 164 من القانون المدني، التي تجعل التمييز مناط المسؤلية عن العمل غير المشروع وتعويض ما ينجم عنه من ضرر، فقد خصصت بفقرتها الثانية إذا تقرر أنه وقع الضرر من شخص عديم التمييز ولم يكن من يسأل عنه، أو تعذر الحصول على تعويض من المسئول، فإنه يجوز للقاضي إلزام من وقع منه الضرر بتعويض عادل.

ص: 177

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: إذا ورد النص الشرعي بصيغة عامة وجب العمل بعمومه الذي دلت عليه صيغته، ولا اعتبار لخصوص السبب الذي ورد الحكم بناء عليه، سواء كان السبب سؤالا أم واقعة حدثت؛ لأن الواجب على الناس اتباعه هو ما ورد به نص الشارع، وقد ورد نص الشارع بصيغة العموم فيجب العمل بعمومه، ولا تعتبر خصوصيات السؤال أو الواقعة التي ورد النص بناء عليها؛ لأن عدول الشارع في نص جوابه أو فتواه عن الخصوصيات، إلى التعبير بصيغة العموم قرينة على عدم اعتباره تلك الخصوصيات.

روى أن قوما قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر، ولو توضأنا بما معنا من الماء خشينا العطش، أنتوضأ بماء البحر؟ فقال الرسول:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته". فهذه الصيغة العامة -هو الطهور ماؤه- تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهر كل أنواع التطهير في حال الضرورة والاختيار. فيجب العمل بعمومها، ولا عبرة بكون السؤال ورد خاصا عن التوضؤ، ولا بكون السائلين سألوا عن حالة ضرورتهم إلى الماء خشية العطش، وروي أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد، وقد أخذ عمهما مالهما، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال الرسول لعم البنتين:"أعط البنتين الثلثين وللزوجة الثمن وما بقي فهو لك"، فهذا الحديث يدل بعمومه على أن لبنتي المتوفى الثلثين، ولا اعتبار لكونهما لا مال لهما أو لكون أبيهما قتل في أحد. وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميمونة وهي ميتة فقال:"أيما إهاب دبغ فقد طهر" فكل جلد دبغ صار طاهرا ولا اعتبار لخصوص جلد الشاة.

قال الآمدي في الأحكام: أكثر العموميات وردت على أسباب خاصة فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان. وآية الظاهر نزلت في حق مسلمة بن صخر. وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية، إلى غير ذلك. والصحابة عمموا أحكام هذه الآيات من غير نكير فدل على أن السبب غير مسقط للعموم، نعم إذا ورد النص جوابا غير مستقل بنفسه عن السؤال بأن كان الجواب نعم أو لا، أو ما في أحدهما، فإنه يكون تابعا للسؤال في عمومه وخصوصه. أما في عمومه، فمثاله ما روي أن رسول الله سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال:"أينقص الرطب إذا يبس"؟، قالوا: نعم، قال:"فلا إذن". وأما في خصوصه فمثاله

ص: 178

قول الرسول لأبي بردة، وقد سأله عن الأضحية بجذعة من المعز:"تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك". فما دام الجواب الشرعي عن السؤال وورد تابعا للسؤال غير مستقل بنفسه، فهو تابع للسؤال في عمومه وخصوصه. وكان السؤال معادا في الجواب.

وأما الجواب المستقل إذا ورد عاما فهو عام ولا عبرة بخصوصيات سببه، وعلى هذا أصول القوانين الوضعية، فمادة تحديد سن الزواج عامة، ولا عبرة بخصوصيات الواقعة، أو الوقائع التي كانت سببا في تشريعها. والمواد التي منعت سماع دعوى الزواج أو الطلاق أو النفقة في بعض الحالات عامة، ولا عبرة بخصوصيات الوقائع التي كانت سببًا في تشريعها، والمادة 115 من الدستور التي كانت توجب التجديد النصفي كل خمس سنوات عامة، ولا عبرة بخصوصيات السبب الذي بني عليه تشريعها؛ لأن السبب كما قال الإمام الشافعي: لا يصنع شيئا، إنما تصنع الألفاظ. ويلاحظ الفرق بين حكمة تشريع النص وبين ما ورد النص بناء عليه من سؤال أو واقعة، فإن حكمة تشريع العام قد تخصصه بلا خلاف. وأما ما ورد في النص بناء عليه فهو المراد بقولهم، لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ.

ص: 179