الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
المحكوم فيه:
تعريفه:
المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به حكم الشارع.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، الإيجاب المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو: الإيفاء بالعقود فجعله واجبًا.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الندب المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو كتابة الدين، فجعله مندوبًا.
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} التحريم المستفاد من هذا الخطاب تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو قتل النفس، فجعله محرما.
وقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الكراهة المستفادة من هذا الخطاب تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو إنفاق المال الخبيث، فجعلته مكروهًا.
وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الخطاب تعلق بالمرض والسفر، فجعل كلا منهما مبيحا للفطر.
فكل حكم من أحكام الشارع فهو لا بد متعلق بفعل من أفعال المكلفين على جهة الطلب، أو التخيير، أو الوضع.
ومن المقرر أنه لا تكليف إلا بفعل، أي أن حكم الشارع التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف، فإذا حكم الشارع إيجابا أو ندبا فالأمر واضح؛ لأن متعلق الإيجاب فعل الواجب على سبيل الحتم. ومتعلق الندب فعل المندوب لا على سبيل الحتم والإلزام، فالتكليف في الحالين بفعل.
وإذا كان حكم الشارع تحريما أو كراهة، فالمكلف به في الحالين هو فعل أيضا؛ لأنه هو كف النفس عن فعل المحرم أو المكروه. فمعنى قولهم:"لا تكليف إلا بفعل" أن الفعل يشمل الكف؛ أي المنع للنفس عن فعل. وبهذا تكون جميع الأوامر والنواهي متعلقة بأفعال المكلفين، ففي الأوامر: المكلف به: فعل المأمور به، وفي النواهي: هو الكف عن المنهي عنه.
شرط صحة التكليف بالفعل:
يشترط في الفعل الذي يصح شرعا التكليف به ثلاثة شروط:
أولها: أن يكون معلوما للمكلف علما تام حتى يستطيع المكلف القيام به كما طلب منه.
وعلى هذا فنصوص القرآن المجملة؛ أي التي لم يبين المراد منها، لا يصح تكليف المكلف بها إلا بعد أن يلحق بها بيان الرسول عليه الصلاة والسلام. فقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} لم يبين النص القرآني أركان الصلاة، وشروطها وكيفية أدائها، فكيف يكلف بالصلاة من لا يعرف أركانها وشروطها وكيفية أدائها؟ لذلك بين الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المجمل وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي".
وكذلك الحج والصوم والزكاة، وكل فعل متعلق به خطاب من الشارع مجمل لا يعلم مراد الشارع به، لا يصح التكليف به، ولا مطالبة المكلفين بامتثاله إلا بعد بيانه، ولهذا أعطى الله رسوله سلطة التبيين بقوله:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وبين الرسول بسنته القولية والفعلية ما أجمل في القرآن. واتفق العلماء على أنه لا يسوغ تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وثانيها: أن يكون معلوما أن التكليف به صادر ممن له سلطان التكليف. وممن يجب على المكلف اتباع أحكامه؛ لأنه بهذا العلم تتجه إرادته إلى امتثاله، وهذا هو السبب في أن أول بحث في أي دليل شرعي هو حجيته على المكلفين. أي أن الأحكام التي يدل عليها أحكام واجب على المكلف تنفيذها. وهو السبب أيضا في أن كل قانون وضعي يتوج بالديباجة الخاصة التي تدل على أن الحاكم أصدر القانون بناء على عرض مجلس الوزراء وموافقة البرلمان، ليعلم المكلفون أن القانون صادر ممن لهم سلطان التشريع، وممن يجب عليهم امتثال تكاليفهم، فيتجهوا للتنفيذ.
ويلاحظ أن المراد بعلم المكلف بما كلف به إمكان علمه به، لا علمه به فعلا، فمتى بلغ الإنسان عاقلا قادرا على أن يعرف الأحكام الشرعية بنفسه أو بسؤال أهل الذكر عنها، اعتبر عالما بما كلف به، ونفذت عليه الأحكام وألزم
بآثارها ولا يقبل منه الاعتذار بجهلها، ولهذا قال الفقهاء: لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي؛ لأنه لو شرط لصحة التكليف علم المكلف فعلا بما كلف به ما استقام التكليف، واتسع المجال للاعتذار بجهل الأحكام.
وعلى هذا التقنين الوضعي، فالناس يعتبرون عالمين بالقانون بتيسير إمكان علمهم به، وذلك بنشره بالطريق القانوني بعد إصداره، ولا اعتبار؛ لأن كل فرد من المكلفين علم به فعلا أو لا، ولذا جاء في مادة 22 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية:"لا يقبل من أحد أن يدعى بجهله القانون". وكذلك المراد بعلم المكلف بأن تكليفه بما كلف به صادر ممن يجب عليه امتثال أحكامه، إمكان علمه بهذا لا علمه به فعلا.
فكل حكم شرعي يمكن للمكلف أن يعرف دليله، وأن يعرف أن دليله حجة شرعية، على المكلفين اتباع ما يستمد منه. سواء أكان هذا بنفسه أم بواسطة سؤال أهل الذكر عنه.
وثالثها: أن يكون الفعل المكلف به ممكنًا، أو أن يكون في قدرة المكلف أن يفعله أو أن يكلف عنه. ويتفرع عن هذا الشرط أمران:
أحدهما: أن لا يصح شرعا التكليف بالمستحيل، سواء أكان مستحيلا لذاته أم مستحيلا لغيره، فالمستحيل لذاته أي المستحيل عقلا هو ما لا يتصور العقل وجوده، كالجمع بين الضدين، مثل إيجاب الفعل وتحريمه في وقت واحد على شخص واحد أو الجمع بين النقيضين كالنوم واليقظة في وقت واحد والمستحيل لغيره، أو العادي، ما يتصور العقل وجوده، ولكن ما جرت سنن الكون ولا العادة المطردة بوجوده، كطير الإنسان في الهواء بغير طائرة ووجود زرع بغير بذرة؛ لأن ما لا يتصور وجوده عقلا أو عادة لا يمكن المكلف فعله، وهو ليس في وسعه، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو حكيم منزه عن العبث وعن التكليف بفعل ما لا سبيل إلى فعله، وعن هذا تفرع قول الأصوليين:"الشخص الواحد في الوقت الواحد بالشيء الواحد لا يؤمر وينهى"؛ لأن هذا تكليف بالجمع بين النقيضين، وهما فعل الشيء وتركه في وقت واحد من مكلف واحد.
وثانيهما: أنه لا يصح شرعا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلا أو يكف غيره من فعل؛ لأن فعل غيره أو كف غيره ليس ممكنا له هو. وعلى هذا لا يكلف
إنسان بأن يزكي أبوه أو يصلي أخوه أو يكف جاره عن السرقة. وكل ما يكلف به الإنسان مما يخص غيره هو النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا من فعله المقدور له.
وكذلك لا يصح شرعا أن يكلف الإنسان بأمر من الأمور الجبلية للإنسان التي هي مسببات لأسباب طبيعية ولا كسب للإنسان فيها، ولا اختيار، كالانفعال عند الغضب، والحمرة عند الخجل، والحب والبغض، والحزن والفرح، والخوف، حين وجود أسبابها، والهضم والتنفس، والطول والقصر، والسواد والبياض، وغير ذلك من الغرائز التي فطر عليها الناس، ووجودها وعدمها خاضع لقوانين خلقية، وليس خاضعًا لإرادة المكلف واختياره، فهي خارجة عن قدرته، وليست من الممكنات له.
وإذا ورد في بعض النصوص ما يدل ظاهره على أن فيه تكليفا بما ليس مقدورا للإنسان من هذه الأمور، فهو ليس على ظاهره، وبتحقيق النظر فيه يتبين أنه تكليف بما هو مقدور.
مثلًا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" ظاهره التكليف بالكف عن أمر طبيعي غير كسبي وهو الغضب عند وجود داعيته، ولكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الغضب، ويلحق الغضوب من ثورة نفسه ومظاهر انتقامه، فالمراد: اضبط نفسك حين الغضب وكفها عن آثاره السيئة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل"، ظاهره التكليف بأن يقتله غيره، ولكن حقيقته التكليف بأن لا يظلم ولا يبدأ بعدوان، فالمراد: لا تظلم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "أحبوا الله لما أسدى عليكم من نعمه". ظاهره التكليف بالحب. ولكن حقيقته التكليف بالنظر في النعم التي أسداها الله إليكم حتى تكونوا دائمًا ذاكرين شاكرين.
وقوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ظاهره تكليفهم الآن بأن يكونوا حين يموتون مسلمين، ولكن حقيقته تكليفهم الآن بأن يسيروا في طريق يثبت
إيمانهم ويقوي عقائدهم حتى يؤدي بهم هذا إلى أن يموتوا على دينهم. وقوله تعالى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} ظاهره التكليف بأن لا يحزن الإنسان على شيء فاته، ولا يفرح بشيء أتاه، وهذا غير مقدور له، لكن حقيقته التكليف بالكف عما يعقب الاسترسال في الحزن من السخط، وما يعقب الاسترسال في الفرح من البطر والزهو.
وهكذا كل ما ورد من أمثال هذه النصوص فهو مؤول بأن التكليف فيه إما ورد على ما يلحق الأمر الطبيعي ويترتب عليه من آثار، أو على ما يسبقه من بواعث ودوافع، وهذه اللواحق والسوابق أمور كسبية للإنسان وفي مقدوره.
ولا يتبادر إلى الذهن من اشتراط أن يكون الفعل مقدورا للمكلف لصحة التكليف به شرعا أن هذا يسلتزم أن لا تكون في الفعل أية مشقة على المكلف؛ لأنه لا منافاة بين كون الفعل مقدورا، وكونه شاقا. وكل ما يكلف به الإنسان لا يخلو من نوع مشقة؛ لأن التكليف هو الإلزام بما فيه كلفة ونوع مشقة.
غير أن المشقة نوعان -النوع الأول: مشقة جرت عادة الناس أن يحتملوها وهي في حدود طاقتهم، ولو داموا على احتمالها لا يلحقهم أذى ولا ضرر لا في نفس ولا في مال ولا في أي شأن من شئونهم، كالمشقات التي يحتملها الناس في المداومة على طرق السعي للرزق من زرع وحرث واتجار وغيرها، والمشقات التي يحتملها الموظفون في أداء واجباتهم، وكل عامل في أداء عمله.
والتكاليف الشرعية لا تخلو عن مشقات من هذا النوع فيها صعوبة، ولكنها محتملة، والمداومة عليها لا تلحق بمن داوم عليها ضررا ولا أذى. والشارع ما قص بالتكاليف هذه المشقات التي تلابسها وإنما قصد بها المصالح المترتبة عليها، وإلزام المكلف أن يحتمل مشقة في حدود طاقته في سبيل ما يترتب له من مصالح؛ كالطبيب الذي يلزم المريض أن يتناول الدواء المر لما يترتب على تناوله من شفائه فهو يحمله مرارته في سبيل السلامة من أمراضه، فالصلاة والزكاة والصيام، ومسائر ما أمر به المكلف وما نهى عنه: في القيام بها نوع مشقة وصعوبة على نفس المكلف ولكنها صعوبة محتملة وفي حدود الطاقة، وهي وسيلة إلى غاية ومصالح لا بد للإنسان منها لاستقامة حياته: والشارع ما أراد إيلام المكلف وتحميله
المشقات، وإنما أراد إصلاح حاله. كما أن الطبيب ما أراد إيلام المريض بمرارة الدواء وإنما أراد شفاءه.
النوع الثاني: مشقة خارجة عن معتاد الناس، ولا يمكن أن يداوموا على احتمالها؛ لأنهم إذا داوموا عليها انبتوا وانقطعوا، ونالهم الضرر والأذى في أنفسهم أو أموالهم، وأي شأن من شئونهم؛ كالمشقة في صوم الوصال، والمثابرة على قيام الليل، والترهب، والصيام قائمًا في الشمس، والحج ماشيًا، والتزام العزيمة في حال الترخيص بتركها مهما لحق من ضرر، فهذه المشقة لا يكلف الشارع بتكاليف تلابسها، ولا يلزم المكلف باحتمالها؛ لأن المقصد الأول من التشريع رفع الضرر عن الناس، وفي التكاليف بما فيه من هذا النوع من المشقة إضرار بالناس، وتكليفهم بما ليس في وسعهم، وقد شرع الله أحكام الرخص عند طروء الأعذار دفعا لهذا النوع من المشقة، فما أباح الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وما أباح التيمم عند عدم الماء أو حال المرض، وما أباح المحظورات عند الضرورات أو الحاجات، إلا لدفع هذه المشقات، فلا يصح أن يكلف المكلف بأحكام فيها مشقات قد قصد الشارع دفعها.
فالمشقة التي من هذا النوع إذا كان يجلبها نفس العمل المكلف به، فقد دفعها الله بتشريع الرخص، وإذا كان يجلبها المكلف على نفسه بإرادته، فقد نهاه الله عن ذلك وحرمه عليه، ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال، وعن قيام الليل كله، وعن الترهب، وقال:"أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال لمن نذر أن يصوم قائما في الشمس: "أتم صومك ولا تقم في الشمس". وقال: "خذوا من الأعمال ما تطيقون"، "والقصد القصد تبلغوا"، "هلك المتنطعون"، "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى". وحكم بإثم من ترك الرخص واستمسك بالعزيمة محتملا ما فيها من ضرر، وقال:"ليس من البر الصيام في السفر". وقال: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".