الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته
وإذا ورد في النص لفظ خاص ثبت الحكم لمدلوله قطعا، ما لم يقم دليل على تأويله وإرادة معنى آخر منه، فإن ورد مطلقا أفاد ثبوت الحكم على الإطلاق ما لم يوجد دليل يقيده. وإن ورد على صيغة الأمر أفاد إيجاب المأمور به ما لم يوجد دليل يصرفه عن الإيجاب، وإن ورد على صيغة النهي أفاد تحريم المنهي عنه ما لم يوجد دليل يصرفه عن التحريم.
اللفظ الخاص:
هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص مثل محمد. أو واحد بالنوع مثل رجل، أو على أفراد متعددة محصورة مثل ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على عدد من الأفراد، ولا تدل على استغراق جميع الأفراد.
وقد يرد اللفظ الخاص مطلقا من أي قيد، وقد يرد مقيدا بقيد، وقد يكون على صيغة طلب بالفعل؛ مثل "اتق الله". وقد يكون على صيغة النهي عن الفعل مثل:"ولا تجسسوا" فيندرج في الخاص المطلق، والمقيد والأمر والنهي.
وحكم الخاص على وجه الإجمال، أنه إذا ورد نص شرعي دل دلالة قطعية على معناه الخاص الذي وضع له حقيقة، وثبت الحكم لمدلوله على سبيل القطع لا الظن. فالحكم المستفاد من قوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} هو وجوب عشرة مساكين، ولا تحتمل العشرة نقصا ولا زيادة. والحكم المستفاد من حديث:"في كل أربعين شاة شاة"، هو تقدير النصاب الذي تجب الزكاة فيه من الغنم بأربعين، وتقدير الواجب بشاة بلا احتمال زيادة أو نقص في هذا أو ذاك.
ولكن إذا قام دليل يقتضي تأويل هذا الخاص، أي إرادة معنى آخر منه يحتمل على ما اقتضاه الدليل. ومثال هذا ما قدمناه في تأويل علماء الحنفية الشاة في الحديث السابق بما يعم الشاة وقيمتها. وتأويلهم الصاع من تمر أو شعير في صدقة الفطر بما يعم الصاع وقيمته. وتأويلهم الصاع من تمر في حديث المصراة بما يشمله، ويشمل أي عوض يماثل المتلف.
فإذا ورد الخاص مطلقا حمل على إطلاقه، وإذا ورد مقيدًا حمل على تقيده. والفرق بين اللفظ الملطق واللفظ المقيد: أن المطلق هو ما دل على فرد غير مقيد لفظًا بأي قيد، مثل: مصري، ورجل، وطائر. والمقيد هو ما دل على فرد مقيد لفظا بأي قيد، مثل: مصري مسلم، ورجل رشيد، وطائر أبيض.
فالمطلق يفهم على إطلاقه إلا إذا قام دليل على تقييده. فإن قام الدليل على تقييده كان هذا الدليل صارفًا له عن إطلاقه ومبينًا المراد منه.
ففي قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الوصية مطلقة قيدت بالحديث، الذي دل على أنه لا وصية بأكثر من الثلث، فصار المراد في الآية الوصية التي في حدود ثلث التركة.
وإذا ورد اللفظ مطلقًا في نص شرعي، وورد هو نفسه مقيدًا في نص آخر. فإذا كان موضوع النصين واحدًا بأن كان الحكم الوارد فيهما متحدا، والسبب الذي بني عليه الحكم متحدا. حمل المطلق على المقيد، أي كان المراد من المطلق هو المقيد؛ لأنه مع اتحاد الحكم والسبب، لا يتصور الاختلاف بالإطلاق والتقييد، فيكون المطلق مقيدا بقيد المقيد.
مثال هذا قوله تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ.........} الدم هنا مطلق عن القيد.
وقوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الدم هنا مقيد بالمسفوح. فالمراد بالدم في آية المائدة الدم المسفوح المنصوص على تحريمه في آية الأنعام؛ لأن الحكم في الآيتين واحد وهو التحريم، والسبب الذي بني عليه الحكم فيهما واحد وهو كونه دمًا. فلو كان الدم المحرم مطلق الدم خلا القيد وهو "مسفوحا" من الفائدة.
أما إذا اختلف النصان في الحكم، أو في السبب، أو فيهما معا، فلا يحمل المطلق على المقيد بل يعمل بالمطلق على إطلاقه في موضعه، وبالقيد على قيده في موضعه؛ لأن اختلاف الحكم والسبب أو أحدهما قد يكون هو علة الاختلاف إطلاقًا وتقييدًا، وهذا مذهب الحنفية وأكثر المالكية. أما الشافعية فوافقوهم إذا اختلف النصان حكما وسببا أو حكما فقط، وأما إذا اختلفا في السبب واتحدا في الحكم فيحمل المطلق على المقيد.
مثال النصين المختلفين حكما مع اتحاد السبب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ.....} وقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} . والسبب في الآيتين واحد وهو التطهر لإقامة الصلاة. والحكم في الأولى وجوب الغسل وفي الثانية وجوب المسح، ومثله قوله:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} .
ومثال النصين المتحدين حكمًا المختلفين سببًا، قوله تعالى في كفارة القتل خطأ:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وقوله تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وقوله في شهود المداينة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} .
وقوله في شهود المراجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
ففي الآيتين الأوليين الحكم واحد وهو وجوب تحرير رقبة، والسبب في الوجوب مختلف؛ لأنه في الأولى القتل خطأ، وفي الثانية إرادة المظاهر أن يعود إلى زوجته.
وفي الآيتين الثانيتين الحكم واحد وهو وجوب الاستشهاد بشهيدين، والسبب في الوجوب مختلف؛ لأنه في إحداهما المداينة، وفي الثانية المراجعة.
فلا يعتبر المقيد بيانا للمطلق ويحمل المطلق عليه إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا اتحد موضوعهما حكمًا وسببًا. وأما إذا اختلفا حكما، أو اختلافا سببا، فلا يحمل المطلق على المقيد بل يفهم المطلق في موضعه على إطلاقه، ويفهم المقيد في موضعه على قيده؛ لأن اختلاف الحكم قد يكون سببا في الاختلاف بالإطلاق والتقييد، أي أنه لما كان الحكم في آية الوضوء وجوب غسل الأيدي، قيدها بكونها إلى المرافق. ولما كان الحكم في آية التيمم وجوب مسح الأيدي، يقيدها بكونها إلى المرافق. ولما كان الحكم في آية التيمم وجوب مسح الأيدي، أطلقها ولم يقيدها بكونها إلى المرافق؛ لأن التيمم رخصة شرعت للتخفيف عند عدم وجود الماء، فيناسبه التخفيف أيضا في إطلاق اليد فيجزئ كل ما يصدق عليه لفظ يد. وكذلك الحال إذا اختلف السبب فقد يكون القتل خطأ اقتضى تقييد الرقبة بالإيمان
تشديدا للعقوبة، وإرادة المظاهر العودة لم يقتض هذا التشديد فجزئ تحرير أية رقبة.
صيغة الأمر:
إذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة الأمر أو صيغة الخبر التي في معنى الأمر أفاد الإيجاب؛ أي طلب الفعل المأمور به أو المخبر عنه على وجه الإلزام والحتم. فقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أفاد إيجاب قطع يد السارق والسارقة. وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} أفاد إيجاب تربص المطلقة ثلاثة قروء؛ لأن الرأي الراجح هو أن صيغة الأمر وما في معناها موضوعة لغة للإيجاب. واللفظ عند إطلاقه يدل على معناه الحقيقي الذي وضع له، ولا يصرف عن معناه الحقيقي إلا بقرينة. فإن وجدت قرينة تصرف صيغة الأمر عن الإيجاب إلى معنى آخر فهم منها ما دلت عليه القرينة كالإباحة في قوله:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} . والندب في قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله: {مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ، والتهديد في قوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} والتعجيز في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ، وغير ذلك مما تدل عليه صيغة الأمر بالقرائن. وإذا لم توجد قرينة اقتضى الأمر الإيجاب. وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة الأمر مشتركة بين عدة معان، ولا بد من قرينة لتعيين أحد معانيها شأن كل مشترك، فهي موضوعة لمعان متعددة.
وصيغة الأمر لا تدل لغة على أكثر من طلب إيجاد الفعل المأمور به، ولا تدل على طلب تكرير الفعل المأمور به، ولا على وجوب فعله فورا. فالتكرير أو المبادرة بالفعل لا تدل الصيغة عند إطلاقها على واحد منهما؛ لأن مقصود الأمر هو حصول المأمور به، هذا المقصود يتحقق بوقوعه مرة في أي وقت. فإن وجدت قرينة تدل على التكرير كان هذا التكرير مستفادا من القرينة لا من الصيغة. وكذلك إن وجدت قرينة تدل على المبادرة. ففي قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} استفيد تكرير طلب الصيام من تعليق الأمر به بشرط متكرر وهو شهود الشهر، كأنه قال: فكلما شهد أحدكم الشهر وجب عليه الصيام، وكذا في قوله:{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} .
وفي الواجبات المحددة بأوقات استفيدت المبادرة من تحديد وقت للواجب يفوت بانتهائه.
وفي الأوامر بالخيرات استفيد المبادرة من قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} .
صيغة النهي:
إذا ورد اللفظ الخاص في النص الشرعي على صيغة النهي أو صيغة الخبر التي في معنى النهي أفاد التحريم، أي طلب الكف عن المنهي عنه على وجه الإلزام والحتم. فقوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} أفاد تحريم زواج المسلم بالمشركات. وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} أفاد تحريم أخذ عوض من المطلقات؛ لأن صيغة النهي على الرأي الراجح، موضوعة لغة للدلالة على التحريم فيفهم منها عند الإطلاق. وإذا وجدت قرينة تصرفها عن المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي، فهم منها ما دلت عليه القرينة، كالدعاء في قوله:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} ، والكراهة في قوله:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
وبعض الأصوليين ذهبوا إلى أن صيغة النهي من باب المشترك هي كالأمر والخلاف فيهما واحد.
والنهي يقتضي طلب الكف دائما وفورا؛ لأنه لا يتحقق المطلوب وهو الكف إلا إذا كان دائما، بمعنى أنه كلما دعت المكلف نفسه إلى فعل المنهي عنه كفها، فالتكرير ضروري لتحقيق الامتثال في النهي. وكذلك المبادرة؛ لأن النهي عن الفعل إنما هو تحريمه لتلافي ما فيه من مضار، وهذا واجب في الحال؛ لأن من نهى عن الشيء إذا فعله ولو مرة في أي وقت لا يتحقق أنه امتثل، فتكرير الكف وكونه على الفور من مقتضيات النهي، فصيغة النهي المطلق تقتضي الفور والتكرير، وصيغة الأمر المطلق لا تقتضي فورًا ولا تكريرًا.