المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عهد الصحابة: - علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع ط المدني

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن حياة المؤلف:

- ‌الكتاب الأول: علم أصول الفقه

- ‌الطبعة السابعة:

- ‌افتتاحية الطبعة السابعة:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1947:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1942:

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: في الأدلة الشرعية

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول: القرآن

- ‌الدليل الثاني: السنة

- ‌الدليل الثالث: الإجماع

- ‌الدليل الرابع: القياس

- ‌الدليل الخامس: الاستحسان

- ‌الدليل السادس: المصلحة المرسلة

- ‌الدليل السابع: العرف

- ‌الدليل الثامن: الاستصحاب

- ‌الدليل التاسع: شرع من قبلنا

- ‌الدليل العاشر: مذهب الصحابي

- ‌القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

- ‌ الحاكم:

- ‌ الحكم:

- ‌ المحكوم فيه:

- ‌ المحكوم عليه:

- ‌القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

- ‌تمهيد:

- ‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص

- ‌القاعدة الثانية: في مفهوم المخالفة

- ‌القاعدة الثالثة: في الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته

- ‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته

- ‌القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته

- ‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

- ‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع

- ‌القاعدة الثانية: فيما هو حق الله. وما هو حق المكلف

- ‌القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه

- ‌القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم

- ‌القاعدة الخامسة: في التعارض والترجيح

- ‌الكتاب الثاني: خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌تمهيد في بيان المراد من التشريع:

- ‌ عهد الرسول:

- ‌ عهد الصحابة:

- ‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين:

- ‌ عهد التقليد:

- ‌المحتويات:

- ‌محتويات علم أصول الفقه:

- ‌محتويات خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي:

الفصل: ‌ عهد الصحابة:

2-

‌ عهد الصحابة:

هذا العهد ابتدأ بوفاة رسول الله في سنة: 11 للهجرة، وانتهى في أواخر القرن الأول الهجري، وأطلقنا عليه عهد الصحابة؛ لأن السلطة التشريعية فيه تولاها رءوس أصحاب الرسول، ومنهم من عاش إلى العقد العاشر الهجري مثل أنس بن مالك الذي توفي سنة 93هـ.

وهذا العهد هو عهد التفسير التشريعي، وفتح أبواب الاستنباط فيما لا نص فيه من الوقائع، فإن رءوس الصحابة صدرت عنهم آراء كثيرة في تفسير نصوص الأحكام في القرآن والسنة تعد مرجعا تشريعيا لتفسيرها وتبيينها.

وصدرت عنهم فتاوى كثيرة بأحكام في وقائع لا نص فيها تعتبر أساسا للاجتهاد والاستنباط.

من تولوا سلطة التشريع في هذا العهد:

العهد التشريعي الأول -وهو عهد الرسول- خلف للمسلمين قانونا مكونا من نصوص الأحكام في القرآن والسنة، ومواد هذا القانون الأساسي ليس كل واحد من المسلمين أهلا لأن يرجع إليها بنفسه، ويفهم ما تدل عليه من الأحكام؛ لأن فيهم العامة الذين لا يتوصلون إلى فهم النصوص إلا بواسطة من يفهمهم إياها، ومن جهة ثانية: مواد هذا القانون لم تكن نشرت بين المسلمين نشرا عاما يجعلها في متناول كل واحد منهم؛ لأن نصوص القرآن كانت في أول هذا العهد مدونة في صحف خاصة محفوظة في بيت الرسول وبيوت بعض أصحابه، والسنة لم تكن مدونة أصلًا، ومن جهة ثالثة: مواد القانون شرعت أحكاما لحوادث وأقضية وقعت حين تشريعها، ولم تشرع أحكاما لحوادث فرضية يحتمل وقوعها، وقد طرأت للمسلمين حاجات وحوادث وأقضية لم تطرأ في عهد الرسول، ولا يوجد فيما خلفه من النصوص ما يدل على حكمها.

لهذه الأسباب الثلاثة رأى العلماء من الصحابة والرءوس فيهم أن عليهم واجبا تشريعيا لا بد أن يقوموا به، وهذا الواجب هو أن يبينوا للمسلمين ما يحتاج إلى التبيين، والتفسير من نصوص الأحكام في القرآن والسنة، وأن ينشروا بين

ص: 230

المسلمين ما حفظوا من آيات القرآن وأحاديث الرسول، وأن يفتوا الناس فيما يطرأ لهم من الوقائع، والأقضية التي لا نص فيها.

هؤلاء العلماء من الصحابة الذين قاموا بهذا الواجب التشريعي من بيان النصوص ونشرها، والإفتاء فيما لا نص فيه هم رجال السلطة التشريعية في هذا العهد، وهم الذين خلفوا الرسول في رجوع المسلمين إليهم، ولم يكتسبوا هذا الحق التشريعي من تعيين الخليفة أو انتخاب الأمة، وإنما كسبوه بمميزاتهم الشخصية التي امتازوا بها، فقد طالت صحبتم للرسول وحفظوا عنه القرآن والسنة، وشاهدوا أسباب نزول الآيات وورود السنن، وكثير منهم كانوا مستشاري الرسول في اجتهاده؛ فلهذه المزايا كانوا أهلا لأن يبينوا النصوص، ويجتهدوا فيما لا نص فيه، وأهلا لأن يرجع المسلمون إليهم ويثقوا بما يصدر عنهم من بيان أو إفتاء، ومن أشهر هؤلاء المفتين من الصحابة بالمدينة: الخلفاء الأربعة الراشدون، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وبمكة: عبد الله بن عباس، وبالكوفة: علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وبالبصرة: أنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وبالشام: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وبمصر عبد الله بن عمرو بن العاص، وعدد من عرفوا من الصحابة بالإفتاء، وحفظت عنهم: مائة ونيف وثلاثون ما بين رجل وامرأة، ولكن أشهرهم من ذكرنا.

وقد كان هؤلاء المفتون في أول هذا العهد أكثريتهم العظمى بالمدينة، وبعد أن امتدت الفتوح الإسلامية تفرقوا بالأمصار، ولهذا كان التشريع في أول هذا العهد باجتهاد الجماعة؛ ثم بعد ذلك صار باجتهاد الأفراد.

مصادر التشريع في هذا العهد:

كانت مصادر التشريع في هذا العهد ثلاثة: القرآن، والسنة، واجتهاد الصحابة، فكانت إذا عرضت حادثة أو وقعت خصومة نظر أهل الفتيا من الصحابة في كتاب الله، فإن وجدوا فيه نصا يدل على حكمها أمضوه، وإن لم يجدوا في كتاب الله نصا وعلموا من السنة ما يدل على حكمها أمضوه، وإن لم يجدوا ما يدل على حكمها في القرآن، أو السنة اجتهدوا في معرفة حكمها واستنبطوه بالقياس على ما ورد فيه النص، أو بما تقتضيه روح التشريع ومصالح الناس.

ص: 231

وحجتهم في الرجوع إلى القرآن والسنة ما ورد في آيات كثيرة من الأمر بطاعة الله والرسول، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول، والتسليم لما قضى به الله والرسول.

وحجتهم في الرجوع إلى اجتهادهم ما شاهدوه من الرسول حين كان يرجع إلى اجتهاده إذا لم ينزل عليه بالتشريع وحي إلهي، ما ورد من أن رسول الله لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له:"بم تقضي"؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد"؟ قال: أقضي بسنة رسول الله، قال:"فإن لم تجد"؟ قال: أجتهد رأيي؛ فأقره الرسول وحمد الله على توفيقه. وما فهموه من تعليل بعض الأحكام في نصوص القرآن والسنة، فإنهم فهموا من هذا أن المقصود من تشريع الأحكام تحقيق مصالح الناس، وأنه كلما دعت المصالحة إلى التشريع وجب على المسلمين أن يشرعوا ما يحققها.

لهذه البراهين اتفقت كلمة المفتين من الصحابة على الرجوع إلى هذه المصادر التشريعية الثلاثة، وعلى ترتيب الرجوع إليها كما ذكرنا.

ما طرأ على مصادر التشريع:

وقد طرأ في هذا العهد على المصدر الأول، وهو آيات الأحكام في القرآن، طارئ له أثر تشريعي خالد، وهذا الطارئ هو تدوين هذه الآيات في ضمن تدوين القرآن، ونشرها على المسلمين كافة بطريق قانوني رسمي بحيث صار ميسورًا لكافة المسلمين أينما كانوا حفظها، والعلم بنصوصها من غير اختلاف في مفرد أو جملة، وذلك أن رسول الله في حياته اتخذ كتابا لتدوين ما يوحى إليه من القرآن، فكان إذا أوحي إليه بآية أو آيات من القرآن قرأها على المسلمين، فيكتبها من حضر من كتاب وحيه، ويكتبها من حرص على أن يكتب لنفسه من صحابته، ويحفظها منهم عدد كثير، وقد توفي الرسول وكل آيات القرآن مدونة، وكثير من أصحابه يحفظونه كله أو بعضه، ولكن هذا التدوين في حياة الرسول تارة كان على الورق، وتارة كان على بعض الأحجار الرقيقة البيضاء وتارة كان على سعف النخل، وكان كل كاتب من كتاب الوحي، عنده مجموعة مما كتب، وكذلك عند بعض الصحابة وفي بيت الرسول، ولم تكن من هذه المدونات مجموعة واحدة.

ص: 232

فلما نشبت حروب الردة في خلافة أبي بكر الصديق، وأصبح كثير من الصحابة عرضة، لأن يموتوا في هذا القتال، خشي ولاة الأمر أن تضيع صحيفة من القرآن محفوظة عند واحد منهم فأشاروا على أبي بكر أن يجمع كل ما دون فيه من القرآن ويضم بعضه إلى بعض، ويكون من متفرقه مجموعة واحدة، فعهد أبو بكر بهذا إلى زيد بن ثابت -من أشهر كتاب الوحي، ومن أحفظ الصحابة للقرآن- فأخذ زيد في جمع هذه المدونات المفرقة مع مقابلة ما دونه كتاب الوحي بما دونه من دون لنفسه من الصحابة، والمقابلة بين ما دون في السطور وما حفظ في الصدور وأتم جمع ما دون فيه القرآن، وضم بعضه إلى بعض مرتبًا مضبوطا على ملأ من المهاجرين والأنصار، وبقيت هذه المجموعة عند أبي بكر، ثم خلفه في حفظها عمر، ثم خلفته في حفظها أم المؤمنين حفصة بنت عمر.

وفي سنة "20هـ" أخذ الخليفة عثمان بن عفان هذه المجموعة من أم المؤمنين حفصة، وعهد إلى زيد بن ثابت وبعض الصحابة أن يكتبوا منها عدة نسخ لتنشر في أمصار المسلمين حتى يتيسر لكل مسلم الرجوع إلى القرآن، وحتى لا يقع اختلاف بسبب اختلاف لهجات الأداء، وقد كتبوا ست نسخ احتفظ الخليفة عثمان لنفسه بواحدة ووزع الباقيات بالمدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، ودمشق، ووضعت بالمساجد العامة وصارت مرجع المسلمين يحفظون منها، وينقلون عنها بلا تغيير ولا تبديل، والأثر التشريعي الخالد لهذا التدوين أن آيات الأحكام في القرآن بهذا التدوين تواتر نقلها كتابة ومشافهة، وصارت كلها قطعية الورود، وكفى المسلمون عناء الجهود في روايتها وأسانيد رواتها، ولم يطرأ من هذه الناحية أي اختلاف.

وأما المصدر التشريعي الثاني -وهو نصوص الأحكام في السنة- فلم يدون في هذا العهد، كما أن السنة كلها لم تدون فيه؛ لأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فكر في تدوينها، ولكنه بعد التروي والتشاور خشي أن يؤدي تدوينها إلى أن تلتبس الستة بالقرآن؛ فلم ينفذ ما فكر فيه، انقضى القرن الأول الهجري من غير أن تدون السنة ما عدا ما روي من أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كانت له صحيفة اسمها الصادقة دون فيها الأحاديث التي سمعها من رسول الله نفسه.

ولكنهم مع عدم تدوينهم السنة اتخذوا بعض احتياطات رأوا فيها ما يكفل الوثوق من روايتها، وتحرى الرواة في نقلها، فقد كان أبو بكر لا يقبل الحديث من

ص: 233

راو إلا إذا أيده شاهد، وعمر كان يطالب الراوي أن يأتي بالبينة على أنه روى، وعلي بن أبي طالب كان يستحلف الراوي، ولكن هذه الاحتياطات لم تحقق الغرض منها، وما قامت مقام التدوين، وقد كان لعدم تدوين السنة من فجر الإسلام أثران:

إحداهما: أنه اضطر علماء المسلمين إلى بذل جهود في بحث رواة الأحاديث ودرجات الثقة بهم، وانقسمت الأحاديث باعتبار رواتها إلى أحاديث قطعية الورود، وأحاديث ظنية الورود، والظنية إلى: صحيح، وحسن، وضعيف. ووضع فن الحديث رواية، وألفت فيه عدة مؤلفات.

وثانيهما: أن عدم التدوين لم يجمع المسلمين على مجموعة واحدة من السنة، كما جمعوا على القرآن وهذا أفسح في المجال للتحريف، والزيادة والنقص عمدا أو خطأ، مما أدى بعد إلى اختلاف في أن السنة حجة ومصدر تشريعي أو لا: وأدى إلى اختلاف من يحتجون بها في طريق الوثوق بما يحتجون به منها، وسيأتي بيان هذا.

وأما المصدر التشريعي الثالث، وهو اجتهاد بعض المفتين من الصحابة، فلم يدون أيضا من آثار، في هذا العهد شيء، وكان تقديرهم لفتاويهم أنها آراء فردية إن تكن صوابا فمن الله، وإن تكن خطأ فمن أنفسهم، وما كان واحد مهم يلزم الآخر أو يلزم أن مسلم بفتواه، وكثيرًا ما خالف عمر أبا بكر، وكثيرا ما تحاج زيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، والوقائع التي اختلف الصحابة في أحكامها كثيرة، وأدلتهم تدل على مبلغ حريتهم في البحث، وتحريهم جلب المصالح ودرء المفاسد.

الخطة التشريعية في هذا العهد:

كانت الخطة التشريعية التي سار عليها رجال التشريع من الصحابة بالنسبة إلى المصادر التشريعية، أنهم إذا وجدوا نصا في القرآن أو السنة يدل على حكم الواقعة التي طرأت لهم وقفوا عند هذا النص وقصروا جهودهم التشريعية على فهمه، والوقوف على المراد منه ليصلوا إلى تطبيقه تطبيقا صحيحا على الوقائع، ولا تتجاوز سلطتهم التشريعية حدود هذا، وإذا لم يجدوا نصا في القرآن والسنة يدل على حكم ما عرض لهم من الوقائع لاستنباط حكمه، وكانوا في

ص: 234

اجتهادهم يعتمدون على ملكتهم التشريعية التي تكونت لهم من مشافهة الرسول ومشاهدتهم تشريعه واجتهاده، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامة، فتارة كانوا يقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص، وتارة كانوا يشرعون ما تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة، ولم يتقيدوا بقيود في المصلحة الواجب مراعاتها، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نص فيه فسيحًا مجاله، وفيه متسع لحاجات الناس ومصالحهم، وقد دخلت في الإسلام شعوب مختلفة وبلاد متنائية، وكانت حرية هذا الاجتهاد كفيلة بالتقنين والتشريع لكل معاملتهم وحاجاتهم.

وكانوا في أول عهدهم -أي في خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر- يتولون سلطتهم التشريعية فيما لا نص فيه في جمعية تشريعية مكونة من رءوسهم وما يصدر عنهم من الأحكام يعتبر حكم جماعتهم. يدل على ذلك ما رواه البغوي في مصابيح السنة قال:"كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكان عمر يفعل ذلك؛ فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء؛ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رءوس المسلمين؛ فإن اجتمعوا على شيء قضى به".

وبهذا الاجتماع كان الاختلاف في الآراء نادرا؛ لأن كل واحد من رءوس التشريع المجتمعين يبدي للآخرين ما عنده من وجوه النظر، وما يستند إليه من أدلة، ووجهتهم الحق والصواب وأكثر الأحكام التي يقال فيها: إنها أجمع عليها الصحابة شرعت في هذه الفترة من هذا العهد.

أما بعد أن فتح الله للمسلمين كثيرا من البلاد وتفرق رءوس الصحابة في مختلف الأمصار، وصار غير ميسور للخليفة بالمدينة أن يجمع هؤلاء الرءوس من الكوفة والبصرة والشام ومصر وغيرها كلما عرضت واقعة ليس فيها نص في القرآن أو السنة، فقد أخذ رجال التشريع من الصحابة يتولون سلطتهم التشريعية

ص: 235

أفرادا أو جماعات، وكان بكل مصر من أمصار المسلمين واحد أو أكثر تصدر عنهم الفتاوى فيما لا نص فيه، والتبيين والتفسير للنصوص، ومن النتائج الحتمية لهذا أن يقع اختلاف بينهم في أحكام كثيرة من الوقائع لعدة أسباب:

أولها: أن أكثر نصوص الأحكام في القرآن والسنة ليست قطعة الدلالة على الماد منها بل هي ظنية الدلالة، وكما تحتمل أن تدل على معنى تحتمل أن تدل على معنى آخر بسبب أن في النص لفظا مشتركا لغة بين معنيين أو أكثر أو أن فيه لفظا عاما يحتمل التخصيص أو لفظا مطلقا يحتمل التقييد، فكل مشرع يفهم منه حسب ما ترجح عنده من القرائن ووجهات النظر. والجزئيات التي اختلفوا فيها بناء على اختلافهم في فهم النص كثيرة جدًّا.

وثانيها: أن السنة لم تكن مدونة ولم تجتمع الكلمة على مجموعة منها وتنشر بين المسلمين لتكون مرجعا لهم على السواء بل كانت تتناقل بالرواية والحفظ، وربما علم منها المفتي في مصر ما لم يعلمه المفتي في دمشق، وكثيرًا ما كان يرجع بعض المفتين منهم عن فتواه إذا علم من الآخر سنة لم يكن يعلمها.

وثالثها: أن البيئات التي يعيشون فيها مختلفة والمصالح والحاجات التي يشرعون لها متفاوتة، فعبد الله بن عمر بالمدينة لا يطرأ له ما يطرأ لمعاوية بن أبي سفيان في الشام، ولا ما يطرأ لعبد الله بن مسعود بالكوفة، فبناء على اختلاف البيئات اختلفت الأنظار في تقدير المصالح والبواعث على تشريع الأحكام.

فلهذه الأسباب الثلاثة وجدت فتاوى مختلفة للصحابة في الواقعة الواحدة، ولكل واحد منهم دليل على ما أفتى به.

وقد كانت خطتهم في المبادئ التشريعية العامة التي راعوها في تشريعهم هي الخطة الإسلامية، وهي الاقتصار على تشريع ما تدعو إليه الحاجة فقط، وعدم سبق الحوادث بالتشريع، ومسايرة المصالح، ورعاية التيسير والتخفيف.

ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية:

الآثار التشريعية التي خلفها هذا العهد ثلاثة:

الأول: شرح قانوني لنصوص الأحكام في القرآن والسنة، فإن مجتهدي الصحابة لما بحثوا في هذه النصوص لتطبيقها على الوقائع تكونت لهم آراء في

ص: 236

فهمها وما يراد منها، وكانوا في تقدير آرائهم يستندون إلى ملكتهم اللسانية، وملكتهم التشريعية وما وقفوا عليه من حكم التشريع، وأسباب نزول القرآن، وورود السنة، فمن مجموعة هذه الآراء تكون شرح قانوني لنصوص الأحكام يعد أوثق مرجع لتفسيرها وبيان إجمالها، ووجوه تطبيقها، ويتجلى هذا في كتب تفسير القرآن بالمأثور مثل: التفسير المنسوب لابن عباس، وتفسير محمد بن جرير الطبري.

والثاني: عدة فتاوى اجتهادية صدرت من الصحابة في وقائع لا نص على حكمها؛ فإن المجتهدين منهم كانوا إذا لم يجدوا نصًّا في القرآن أو السنة على كم الواقعة المعروضة اجتهدوا لاستنباط حكمها بطريق من طرق الاستنباط؛ وبهذا الاستنباط شرعوا أحكاما كثيرة في وقائع عديدة في مختلف البلدان، وكان الفتاوى التي صدرت في أول عهدهم لها صبغة غير الصبغة التي للفتاوى الني صدرت منهم بعد ذلك؛ لأن الأولى في الغالب صدرت عن اجتهاد الجماعة، وأما الثانية فقد صدرت عن اجتهاد الأفراد.

وقد عنى بعض رجال الحديث في أول العهد بتدوين السنة بأن يدونوا فتاوى الصحابة في مختلف أبواب الأحكام مع السنة، وسيتبين في العهد التشريعي الثالث أن الاحتجاج بهذه الفتاوى كان موضع اختلاف الأئمة، فمنهم من لا يخرج عنها، ومنهم من يخالفها.

الثالث: انقسام حزبي ابتدأ سياسيا بشأن الخلافة والخليفة، وانقلب دينيا ذا أثر خطير في التشريع، وذلك أنه بعد أن قتل عثمان بن عفان وبويع بالخلافة علي بن أبي طالب، ونازعه عليها معاوية بن أبي سفيان، واشتعلت الحرب بين الفريقين، وانتهت إلى تحكيم الحكمين نتج عن هذا انقسام المسلمين إلى أحزاب ثلاثة: الخوارج، والشيعة، وأهل السنة والجماعة، وهم جمهور الأمة.

فالخوارج جماعة من المسلمين نقموا من عثمان سياسته في خلافته، ونقموا من علي قبوله التحكيم، ونقموا من معاوية توليه الخلافة بالقوة، فخرجوا عليهم جميعا، وكان مبدؤهم أن خليفة المسلمين يجب أن ينتخبه المسلمون بانتخاب حر ممن توافرت فيه الكفاءة للخلافة، سواء كان قرشيا أم غير قرشي، ولو كان عبدا حبشيا، وأنه لا تجب طاعته إلا إذا كان عمله في حدود القرآن والسنة، فإن جاوز حدودهما وجبت معصيته، وسلكوا في تأييد مبدئهم، والانتقام من خصومهم كل وسائل العنف والشدة في حربهم، وفي تأييد عقيدتهم.

ص: 237

وأما الشيعة فهم جماعة من المسلمين أحبوا علي بن أبي طالب وذريته وأفرطوا في هذه المحبة، ورأوا أنه هو وذريته أحق بالخلافة من غيره؛ لأنه هو الوصي الذي أوصى إليه الرسول بالخلافة من بعده.

وانقسموا فيما بينهم فرقًا بشأن توارث هذه الخلافة إلى: كيسانية، وزيدية، وإسماعيلية، وجعفرية، كل فرقة تجعل الخلافة في فرع خاص من ذرية علي.

وأما جمهور المسلمين، وهم أهل السنة والجماعة، فهم الذين لم يذهبوا مذهب الخوارج ولا مذهب الشيعة، ولم يروا أن الخلافة وصية لأحد، ورأوا أن الخليفة ينتخب من أكفأ قريش إن وجد، لا يفاضلون بين الخلفاء ولا بين غيرهم من الصحابة ويؤولون ما كان بينهم من خصومات بأنها كانت اجتهادية في أمور سياسية لا ترتبط بكفر ولا إيمان.

هذا الانقسام السياسي بين الأحزاب الثلاثة كان له أثر تشريعي؛ لأن الخوارج كانوا لا يأخذون بالأحكام التي وردت في أحاديث رواها عثمان، أو علي أو معاوية أو رواها صحابي ممن ناصروا واحدا منهم، وردوا كل أحاديثهم وآرائهم وفتاويهم، ورجحوا كل ما روي عمن يرضونهم وآراء علمائهم وفتاويهم، وبهذا كان له فقة خاص، وكذلك الشيعة ردوا أحاديث كثيرة رواها عن الرسول جمهور الصحابة ولم يعولوا على آرائهم وفتاويهم، وعولت كل طائفة منهم على الأحاديث التي رواها أئمتهم من آل البيت والفتاوى التي صدرت عنهم، وبهذا كان لهم أيضا فقه خاص، وكتب فقههم المبطوعة لا تحصى، وأما جمهور المسلمين فكانوا يحتجون بكل حديث صحيح رواه الثقات العدول بلا تفريق بين صحابي وصحابي، ويأخذون بفتاوى الصحابة وآرائهم جميعا على التفصيل الذي سنبينه، وبهذا كان أحكامهم لا تتفق مع أحكام الخوارج والشيعة في عدة موضوعات، كالإرث والوصية وبعض عقود الزواج وغيرها.

وهذه نبذة في التعريف بأشخاص بعض رءوس التشريع من الصحابة وهم: زيد بن ثابت من رءوس التشريع بالمدينة، وعبد الله بن عباس رأس التشريع بمكة، وعبد الله بن مسعود رأس التشريع بالعراق، وعبد الله بن عمرو بن العاص رأس التشريع بمصر.

ص: 238

زيد بن ثابت:

هو أبو سعيد زيد بن ثابت الضحاك النجاري الأنصاري. قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان يحفظ من القرآن وقتئذ ست عشرة سورة، شهد غزوة الخندق وما بعدها من المشاهد، وأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم راية بني النجار يوم تبوك وكانت مع عمارة بن حزم، فلما استفسر عن سبب أخذها منه قال: القرآن مقدم، وزيد أكثر أخذًا للقرآن منك. وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي والرسائل. روي عنه أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا فتعلم السريانية"، فتعلمتها في سبعة عشر يوما، وتعلم العبرانية في خمسة عشر يوما. وكان يكتب لأبي بكر عمر في خلافتهما، وولي بيت المال لعثمان، وكان كل من عمر وعثمان يستخلفه على المدينة إذا حج، وهو الذي جمع القرآن بإشارة أبي بكر وعمر، وقال له أبو بكر: إنك شاب ثقة لا نتهمك. وكفى بهذا تعديلًا.

كان زيد رأسا في القضاء والفتوى والجراءة والفرائض، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة:"أفرضكم زيد"، وقال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين الفرائض والقرآن. وعن ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وبالجملة فقد كان واسع الاطلاع، ضليعا في فهم تعاليم الإسلام، له القدرة الفائقة على استنباط الأحكام، إذا رأى فيما لم يرد فيه أثر. قال سليمان بن يسار: ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحدا في القضاء، والفتوى والفرائض والقراءة. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا اتفق الشيخان على خمسة منها. وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بحديث توفي رضي الله عنه سنة 15هـ.

عبد الله بن عباس:

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقال له: الحبر والبحر لكثرة علمه، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين حين كان بنو هاشم بالشعب، ولما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حنكه بريقه، وضمه إلى صدره،

ص: 239

وقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". وفي رواية: "علمه الحكمة". وقد انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير، وكان أكثر الصحابة إفتاء على الإطلاق، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد الستة المكثرين لرواية الحديث. فقد روي له ألف وستمائة وستون حديثا. اتفق الشيخان منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري منها بمائة وعشرين. ومسلم بتسعة وأربعين، وجل مروياته عن كبار الصحابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولابن عباس ثلاث عشرة سنة، فكان يجتهد في تعرف ما عند الصحابة من حديث وعلم، وكان يقول: وجدت عامة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الأنصار، فإني كنت لآتي الرجل فأجده نائما لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ وأسأله عما أريد ثم أنصرف. ولسعة علمه وقوة حجته وصفاء ذهنه كان عمر يدنيه ويعظمه ويعتد به مع حداثة سنه، ولما قال له عبد الرحمن بن عوف: إن أبناءنا مثله. قال عمر: إنه من حيث تعلم "يريد: قدمه علمه".

وكان من الأدب بمكان، فإذا سأله عمر مع الصحابة يقول: لا أتكلم حتى يتكلموا، وكان عمر يقول له: إنك لأصبح فتياننا وجها، وأحسنهم خلقا، وأفهمهم في كتاب الله. وروى البخاري في تفسير سورة النصر عن ابن عباس أن عمر دعا ذات يوم شيوخ بدر ودعاني معهم، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم، فقال لي: أكذلك يا ابن عباس؟ قلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن له. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وبالجملة فقد ظهر النبوغ العربي في ابن عباس بأكمل معانيه علما وفصاحة وكمالا وألمعية، وكان واسع الاطلاع في نواح علمية مختلفة، يعرف الشعر، والأنساب، وأيام العرب، ويعلم ما ورد في القرآن، وأسباب نزوله، وحساب الفرائض، والمغازي، ويعرف شيئًا من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل. قال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وكان ابن عمر يقول: "ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"، وقال عطاء:"ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس"، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع، وقال عبيد الله بن عبد الله

ص: 240

ابن عتبة: ما رأيت أحدًا أعلم من ابن عباس بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقضاء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا أفقه منه، ولا أعلم بتفسير القرآن وبالعربية وبالشعر، والحساب والفرائض وكان يجلس يوما للفقه، ويما للتأويل، ويوما للمغازي، ويوما للشعر، ويوما لأيام العرب، وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، ولا سائلا سأله إلا وجد عنده علما، كانت أكثر حياته علمية يتعلم ويعلم، لم يشغل بالإمارة إلا قليلا لما استعمله علي على البصرة وتوفي بالطائف سنة 68هـ عن أحد وسبعين عاما. وعلى ابن عباس يدور علم أهل مكة في التفسير والفقه.

عبد الله بن مسعود:

هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، وينسب إلى أمه أحيانا فيقال: ابن أم عبد، أسلم قديما، قال: رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وهو أول من جهر بالقرآن وأسمعه قريشا: هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد بدرا، واحدا، والمشاهد كلها. وهو الذي أجهز على أبي جهل يوم بدر، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان شديد الملازمة كثير الخدمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب سواكه وطهوره ونعله، يلبسه إياه إذا قام ويخلعه، ثم يجعله في ذراعه إذا جلس، يمشي أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب حتى لقد ظنه بعضهم من قرابته، ففي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حينا لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نرى من كثرة دخوله ودخول أمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومه له. وقيل لحذيفة: أخبرنا برجل قريب للسمت والدل والهدى من رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ عنه، فقال: لا نعلم أحدا أقرب سمتا ودلا وهديا برسول الله من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة. وقال عقبة بن عامر: ما أدري أحدا أعلم بما نزل على محمد بن عبد الله. فقال أبو موسى: إن تقل ذلك فإنه يسمع حين لا نسمع؛ ويدخل حين لا ندخل؛ وصح عنه أنه قال: أخذت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم

ص: 241

سبعين سورة. وروى له ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على أربع وستين، وانفرد البخاري بواحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، وكان من أنفذ الصحبة بصيرة في الفتيا، ومن ساداتهم في القرآن والفقه؛ لما سيره عمر إلى الكوفة كتب إلى أهلها: إني قد بعثت عمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي. وقد أقام في الكوفة يأخذ عنه أهله الحديث والفقه، وهو معلمهم، وقاضيهم ومؤسس طريقتهم، وقد كان من منحى عمر، وأظهر مناحيه الاعتداد بالرأي حيث لا نص، وتلقى عنه طريقته: علقمة بن قيس النخعي وأخذها إبراهيم النخعي عن علقمة وإبراهيم هو أستاذ حماد بن أبي سليمان، وحماد هو أستاذ أبي حنيفة. قدم ابن مسعود في آخر عمره من الكوفة إلى المدينة ومات بها سنة 32هـ.

عبد الله بن عمرو بن العاص:

أسلم عبد الله قبل أبيه عمرو، وكان أصغر منه باثنتي عشرة سنة، وكان عالما بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة، وقد امتاز بأنه ما كان يكتفي بحفظ ما سمعه من رسول الله، بل كان يكتبه، وقد استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يكتب عنه فأذن له فقال: يا رسول الله؛ أكتب ما أسمع في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول إلا حقا. وقال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب، وقال مجاهد: أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة تحت مفروشه فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئا؟ قال: هذه الصادقة، ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد، إذا سلمت لي هذه، وكتاب الله، والوعظ فلا أبالي على ما كانت عليه الدنيا. وقد شهد مع أبيه فتح مصر، واختلط بها، وروى عنه أهلها أكثر من مائة حديث، وكان مرجعهم في شئونهم التشريعية يفتيهم ويعلمهم، وعنه أخذ مفتي مصر: يزيد بن حبيب، وتلاميذه، كالليث بن سعد، وأقرانه، فهو في مصر كعبد الله بن مسعود بالكوفة، وعبد الله بن عباس بمكة. وقد قال ابن سعد أنه توفي رحمه الله بمصر، ودفن بداره سنة سبع وسبعين هجرية، في خلافة عبد الملك بن مروان.

ص: 242