المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين: - علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع ط المدني

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن حياة المؤلف:

- ‌الكتاب الأول: علم أصول الفقه

- ‌الطبعة السابعة:

- ‌افتتاحية الطبعة السابعة:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1947:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1942:

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: في الأدلة الشرعية

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول: القرآن

- ‌الدليل الثاني: السنة

- ‌الدليل الثالث: الإجماع

- ‌الدليل الرابع: القياس

- ‌الدليل الخامس: الاستحسان

- ‌الدليل السادس: المصلحة المرسلة

- ‌الدليل السابع: العرف

- ‌الدليل الثامن: الاستصحاب

- ‌الدليل التاسع: شرع من قبلنا

- ‌الدليل العاشر: مذهب الصحابي

- ‌القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

- ‌ الحاكم:

- ‌ الحكم:

- ‌ المحكوم فيه:

- ‌ المحكوم عليه:

- ‌القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

- ‌تمهيد:

- ‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص

- ‌القاعدة الثانية: في مفهوم المخالفة

- ‌القاعدة الثالثة: في الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته

- ‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته

- ‌القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته

- ‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

- ‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع

- ‌القاعدة الثانية: فيما هو حق الله. وما هو حق المكلف

- ‌القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه

- ‌القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم

- ‌القاعدة الخامسة: في التعارض والترجيح

- ‌الكتاب الثاني: خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌تمهيد في بيان المراد من التشريع:

- ‌ عهد الرسول:

- ‌ عهد الصحابة:

- ‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين:

- ‌ عهد التقليد:

- ‌المحتويات:

- ‌محتويات علم أصول الفقه:

- ‌محتويات خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي:

الفصل: ‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين:

3-

‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين:

هذا العهد ابتدأ من أول القرن الثاني الهجري، وانتهى في أواسط القرن الرابع الهجري، فهو بالتقريب 250 سنة، وسمى عهد التدوين والأئمة المجتهدين؛ لأن حركة الكتابة والتدوين نشطت فيه، فدونت السنة، وفتاوى المفتين من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وموسوعات في تفسير القرآن، وفقه الأئمة المجتهدين، ورسائل في علم أصول الفقه؛ ولأن مواهب عدد كبير من رجال الاجتهاد والتشريع ظهرت فيه وسرت فيهم روح تشريعية كان لها أثر خالد في التقنين، واستنباط الأحكام لما وقع وما يحتمل وقوعه.

وهذا هو العهد الذهبي للتشريع الإسلامي، فقد نما فيه ونضج وأثمر ثورة تشريعية أغنت الدولة الإسلامية بالقوانين والأحكام على سعة أرجائها واختلاف شئونها وتعدد مصالحها.

والأسباب التي أدت إلى نمو الفقه الإسلامي ونشاط حركة الاجتهاد في هذا العهد كثيرة، ولكن أهمها ما يأتي:

أولا: أن الدولة الإسلامية في هذا العهد اتسعت رقعتها وتباعدت أطرافها وشملت برعايتها كثيرا من الشعوب المختلفة الأجناس، والعادات والمعاملات والمصالح؛ لأن حدود الدولة الإسلامية امتدت شرقا إلى الصين، وغربا إلى بلاد الأندلس. وهذه البلدان وشعوبها لا بد لها من قوانين يرجع إليها قضاتها، وولاتها وفتاوى يرجع إليها أفرادها، ولا مصدر لهذا التقنين والإفتاء إلا مصادر الشريعة. لهذا بذل العلماء جهودهم في الرجوع إلى هذه المصادر، واستمدوا من نصوص الشريعة وروحها، وما أقامه الشارع من دلائلها، أحكام ما طرأ للدولة من مصالح وحاجات، بل زاد نشاطهم فشرعوا أحكاما لحوادث فرضية، وبهذا النشاط لم يضق التشريع الإسلامي بحاجة، ولم يقصر عن مصلحة، والنشاط السياسي يبث روح النشاط في كل شئون الدولة.

وثانيًا: أن الذين تصدوا للتقنين والإفتاء في ذلك العهد وجدوا طرق التشريع ممهدة وصعابه ميسرة؛ لأنهم وجدوا المصادر التشريعية في متناولهم ووجدوا كثيرا

ص: 243

من الوقائع والمشاكل قد عالجها سلفهم من قبلهم، فالقرآن مدون ومنشور بين لخاصة المسلمين وعامتهم، والسنة مدون أكثرها من بدء القرن الثاني الهجري، وكذلك فتاوى الصحابة والتابعين، فاليسر الذي وجده مجتهدو ذلك العهد في رجوعهم إلى القرآن والسنة والنور الذي لمحوه من فتاوى سلفهم من الصحابة، وتابعيهم ومن آثارهم في تفسير النصوص كانا من عوامل نشاطهم، ووفرة إنتاجهم والخلف يستثمر عقله وعقل سلفه.

وثالثًا: أن المسلمين في ذلك العهد كانوا شديدي الحرص على أن تكون جميع أعمالهم من عبارات ومعاملات، وعقود وتصرفات على وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فلهذا كانوا في كلياتهم وجزئياتهم يرجعون إلى المفتين ورجال التشريع، فكان المجتهدون في ذلك العهد موردا لا ينقطع وارده من أفراد وولاة وقضاة. ومن هذا اتصلت جهودهم ونما إنتاجهم.

ورابعا: أن ذلك العهد نشأت فيه أعلام لهم مواهبهم واستعداداتهم، وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها على استثمار هذه المواهب والاستعدادات.

فتكونت الملكة التشريعية لكثير من أفذاذهم أمثال: أبي حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وغيرهم من معاصريهم من الأئمة والمجتهدين، واقتدوا بهذه الملكات على تنمية الفقه الإسلامي وسد الحاجة التشريعية للدولة. فالبيئة الإسلامية في ذلك العهد أنضجت عقول ذوي المذاهب من رجالها؛ لأن العقول الراجحة كالبذر الصالح إذا وجد التربة الطيبة والجو الملائم آتى ثمراته، ولا خير في صلاح البذر إذا خبثت التربة وفسد الجو، كما أنه لا خير في طيب التربة، وحسن الجو إذا فسد البذر.

من تولى سلطة التشريع في هذا العهد:

في أواخر القرن الأول لازم الصحابة الذين تصدوا للإفتاء والتشريع في مختلف الأمصار جماعة من التابعين أخذوا عنهم القرآن، ورووا عنه السنة: وحفظوا فتاويهم؛ وفهموا منهم أسرار التشريع وطرق الاستمداد للأحكام، وهؤلاء التابعون منهم من كان يستفتي، ويفتي في حياة الصحابة أنفسهم مثل: سعيد بن المسيب بالمدينة، وعلقمة بن قيس. وسعيد بن جبير بالكوفة، حتى روي أن عبد الله بن عباس كان إذا حج أهل الكوفة واستفتوه قال لهم: أليس فيكم سعيد بن

ص: 244

جبير؟ وقد لازم هؤلاء التابعين في حياتهم جماعة من تابعي التابعين تلقوا عنهم ما تلقوه عن الصحابة؛ من القرآن والسنة، وأخذوا عنهم ما علموه من الفقه وأسرار التشريع، ولازم تابعي التابعين جماعة من طبقة الأئمة الأربعة المجتهدين ومعاصريهم من رجال التشريع.

فلما انقرض رجال التشريع من الصحابة خلفهم في تولي سلطة التشريع تلاميذهم من التابعين، وخلف هؤلاء تلاميذهم من تابعي التابعين، وخلف هؤلاء تلاميذهم من الأئمة الأربعة المجتهدين وأقرانهم.

فكان رجال التشريع في كل مصر من أمصار المسلمين طبقات؛ وكل طبقة يعد رجالها تلاميذ لسلفهم وأساتذة لخلفهم، ومن لازموا المشرعين في حياتهم، وأخذوا عنهم علمهم وفقههم تصدوا لإفتاء الناس من بعدهم، والقيام بما كان يقوم به أساتذتهم، وبهذا اتصلت حركة التشريع في الأمصار.

ففي المدينة أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب؛ وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأشهر تلاميذ هؤلاء:

سعيد بن المسيب؛ وعروة بن الزبير؛ وسائر فقهاء المدينة السبعة. وأشهر تلاميذ: هؤلاء محمد بن شهاب الزهري؛ ويحيى بن سعيد. وأشهر من خلف هؤلاء: مالك بن أنس وأقرانه.

وفي مكة أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عباس. وأشهر تلاميذه: عكرمة، ومجاهد، وعطاء. وأشهر تلاميذهم: سفيان بن عيينة، ومفتي الحرم مسلم بن خالد، وأشهر من خلف هؤلاء: الشافعي في حياته الأولى.

وفي الكوفة أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عباس، وأشهر تلاميذه: علقمة بن قيس، والقاضي شريح. وأشهر تلاميذهما: إبراهيم النخعي. وأشهر تلاميذه حماد بن أبي سليمان أستاذ أبي حنيفة وأصحابه.

وفي مصر أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص وأشهر تلاميذه: مفتي مصر يزيد بن حبيب. وأشهر تلاميذه: الليث بن سعد وأقرانه من بني عبد الحكم، وأشهر من خلف هؤلاء: الشافعي في حياته الأخيرة.

ولم يكتسب رجال التشريع من كل طبقة من هذه الطبقات سلطة التشريع من تعيين الخليفة، أو انتخاب الأمة وإنما وثق المسلمون بهم كما وثقوا بأساتذتهم من

ص: 245

الصحابة واطمأنوا إلى عدالتهم، وضبطهم، وعلمهم، وفقههم، فرجعوا إليهم يسألهم الولاة والقضاة في الأقضية والخصومات، ويستفتيهم الأفراد في وقائعهم وما يطرأ لهم من الحاجات، وكانت كل طبقة ترث من سلفها العلم والثقة، واطمئنان المسلمين إلى بيانهم النصوص وفتاويهم فيما لا نص فيه.

وكان أكثر رجال التشريع في هذا العهد يقومون بتدريس العلوم الشرعية ورواية الحديث، ومنهم ولي القضاء مثل: شريح، والشعبي، وأبي يوسف. ومنهم من كان يتجر، كأبي حنيفة، فلم يكن الإفتاء وظيفة ينقطع لها المفتي وإنما كان واجبا يتصدى للقيام به من آنس في نفسه القدرة على أدائه مع اشتغاله بوظيفته أو تجارته أو دراسته.

مصادر التشريع في هذا العهد:

كانت مصادر التشريع في هذا العهد أربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والاجتهاد بالقياس أو بأي طريق من طرق الاستنباط. فكان المفتي إذا وجد نصا في القرآن أو السنة يدل على حكم ما استفتي فيه، وقف عند النص ولا يتعدى حكمه، وإذا لم يجد في الواقعة نصا ووجد سلفه من المجتهدين أجمعوا في هذه الواقعة على حكم، وقف عنده وأفتى به، وإذا لم يجد نصا على حكم الواقعة ولا إجماعا على حكم فيها، اجتهد واستنبط الحكم بالطرق التي أرشد إليها الشارع للاستنباط.

ما طرأ على مصادر التشريع:

وقد طرأ على المصدر التشريعي الأول، وهو القرآن، في هذا العهد طارئان لهما أثرهما في حفظه، وضبطه وصونه من أي تحريف.

الأول: عناية طائفة من المسلمين بحفظه، جميعه وتصديهم لتلقي الحفاظ عنهم، وأشهر هؤلاء القراء السبعة الذين اشتهروا بالحفظ والضبط والإتقان، وما انقرضوا في القرن الثاني الهجري إلا وقد خلفهم في الحفظ والضبط تلاميذهم، وخلف هؤلاء تلاميذهم واتصل سند الحفاظ الذين تنافسوا في الضبط وساعدوا على ازدياد حفظة القرآن والتنافس في حفظه. إن تلاوته عبادة وإنه يتلى كل صلاة.

ص: 246

والطارئ الثاني: إدخال الإصلاح في رسم كتابته وشكل حروفه. وذلك أن المصحف الذي دون في عهد عثمان بن عفان ومنه نسخت عدة مصاحف ووزعت في الأمصار، كان مكتوبا بالخط الكوفي لا نقط ولا شكل، وكان الاعتماد في قراءته على التلقي من الحفظة، ولكن لما دخل في الإسلام كثير من الأمم غير العربية وخيف أن يقع بعض القارئين في الخطأ أو اللبس، وضع أبو الأسود الدؤلي بناء على طلب أمير العراق -زياد بن أبيه- علامات لشكل أواخر الكلمات. فجعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف. وعلامة الكسرة نقطة تحته، وعلامة الضمة نقطة إلى جانبه، وعلامة التنوين نقطتن.

ثم عدل الخليل بن أحمد هذه العلامات فجعل علامة التفحة ألفا مسطوحة فوق الحرف، وعلامة الكسرة ياء تحته، وعلامة الضمة واو فوقه، ولم يقتصر على شكل أواخر الكلمات بل زاد شكل الكلمات كلها، ووضع نصر بن عاصم بناء على طلب أمير العراق -الحجاج بن يوسف- النقط لما ينقط من الحروف بنقطة أو اثنتين. وبهذا التنافس في حفظ القرآن والتزايد في حفظته، وهذا الإصلاح والتهذيب في رسمه، وشكله، ونقطه، وتمييز كل حرف بما يعين على النطق به صحيحا تمت للمصدر التشريعي الأول وسائل التكميل والضبط والتيسير.

وأما المصدر التشريعي الثاني وهو السنة، فقد طرأ عليه أيضا في أول هذا العهد طارئ له أثر تشريعي عظيم، وذلك أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب في عهد خلافته إلى والي المدينة أبي بكر محمد بن عمر بن حزم:"انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم. وذهاب العلماء"، وكلف أيضا بهذا التدوين محمد بن شهاب الزهري، فقام كل منهما بتدوين ما استطاع تدوينه من السنة، وبهذا بدأ تدوين نصوص المصدر التشريعي الثاني بعد أن لبثت في القرن الهجري الأول كله يرجع إليها في صدور رواتها وحفاظها فقط، وتتابع على هذا التدوين كثير من العلماء. ففي سنة 140هـ دون الإمام مالك بن أنس كتابه: الموطأ في صحيح الحديث بناء على طلب الخليفة المنصور، وفي القرن الثاني الهجري دون أصحاب المسانيد في السنة مسانيدهم، والمسند هو: ما تجمع فيه الأحاديث حسب رواتها، فيجمع ما رواه عمر على حدة، وما رواه أبو بكر على

ص: 247

حدة بصرف النظر عن موضوع الحديث، وأقدم ما وصل إلينا منها مسند الإمام أحمد. وفي القرن الثالث الهجري دونت كتب صحاح السنة الستة وهي: صحيح البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه. وإذا قيل في الحديث رواه الستة، أو متفق عليه فالمراد أنه رواه هؤلاء جميعهم، ودون كثيرون غير هؤلاء عدة مجاميع في السنة.

ولكن هذا التدوين الذي حفظ السنة من الضياع لم يؤد إلى جمع المسلمين على مجموعة واحدة من السنة تكون مرجعا لخاصتهم وعامتهم على السواء، كما جمعت كلمتهم على مجموعة واحدة من نصوص القرآن، ولهذا بقيت السنة بعد تدوينها فيها مجال للاختلاف وإليها منفذ للوضع والافتراء، وقد فكر الخليفة المنصور العباسي في أن يكون مجموعة من السنة وينشرها بين المسلمين يجمع كلمتهم عليها والرجوع إليها، فأمر إمام المدينة مالك بن أنس أن يكتب من السنن كتابا يتجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، فكتب الإمام مالك كتابه الموطأ، وأراد المنصور أن ينفذ فكرته ويحمل الناس على الرجوع إليه وحده فقال له مالك: لا سبيل إلى ذلك يا أمير المؤمنين؛ لأن الصحابة افترقوا بعد الرسول كل يتبع ما صح عنده. وكلهم على هدى وكلهم يريد الله، فعدل المنصور عما أراد.

الخطة التشريعية في هذا العهد:

في صدر هذا العهد حين كانت السلطة التشريعية في طبقة التابعين وكبار تابعيهم، كانت خطتهم التشريعية هي خطة أساتذتهم من الصحابة في رجوعهم إلى مصادر التشريع، وفي مبادئها العامة التي راعوها في تشريعهم، ولهذا كانت فتاويهم على قدر ما وقع من الحوادث والأقضية، ولم تتسع مسافات الخلاف بينهم ولم تتجاوز أسباب اختلافهم الأسباب الثلاثة التي من أجلها اختلفت فتاوى الصحابة، ولكن من ابتداء هذا العهد وقعت بين بعض رجال التشريع مناظرات واختلافات، وكانت تؤذن بظهور خطط تشريعية جديدة، فقد وقعت في المدينة بحوث تشريعية بين: ربيعة بن أبي عبد الرحمن وبين محمد بن شهاب الزهري ونظرائه، أدت إلى أن كثيرين من فقهاء المدينة كانوا يفارقون مجلس ربيعة، وإلى أنهم لقبوه ربيعة الرأي، ووقع في الكوفة مثل هذا بين إبراهيم النخعي، وبين

ص: 248

الشعبي. فلما آلت السلطة التشريعية في أواسط القرن الهجري الثاني إلى طبقة الأئمة المجتهدين، أبي حنيفة، وأقرانه، وأصحابه، ومالك وأقرانه وأصحابه، كانت قد تكونت عدة آراء في خطة التشريع وطرأت جملة عوامل جعلت من رجال التشريع أحزابًا كل حزب له مذهب تشريعي يختلف عن مذاهب الآخرين في أحكامه، وفي طرق استنباطه وفي بعض مبادئه العامة، ومن هذا تعددت الخطط التشريعية لرجال التشريع، وتكونت المذاهب الفقهية.

أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين وتكون المذاهب:

بينا أنه في عهد الرسول لم يقع اختلاف في حكم الواقعة؛ لأن المرجع التشريعي واحد، وأنه في عهد الصحابة لما تعدد رجال التشريع منهم وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام، وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة، وأن هذا الاختلاف كان لا بد أن يقع بينهم؛ لأن المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر؛ ولأن السنة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء، وربما وقف بعضهم منها على ما لم يقف عليه الآخر؛ لأن المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع، فلهذه الأسباب اختلفت فتاويهم وأحكامهم في بعض الوقائع والأقضية مع اتفاقهم على مصادر التشريع، وترتيب رجوعهم إليها والمبادئ التشريعية العامة. أي أنهم اختلفوا في الفروع فقط. ولم يختلفوا في أصول التشريع، ولا في خطته، ولكن لما آلت السلطة التشريعية في القرن الثاني الهجري إلى طبقة الأئمة المجتهدين اتسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع، ولم تقف أسباب اختلافهم عند الأسباب الثلاثة التي بني عليها اختلاف الصحابة، بل جاوزتها إلى أسباب تتصل بمصادر التشريع وبالنزعة التشريعية وبالمبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص، وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط، بل كان اختلافًا أيضا في اسس التشريع وخططه، وصار لكل فريق منهم مذهب خاص يتكون من أحكام فرعية استنبطت بخطة تشريعية خاصة.

ويرجع اختلاف الخطة التشريعية للأئمة المجتهدين إلى اختلافهم في أمور ثلاثة: الأول: في تقدير بعض المصادر التشريعية. والثاني: في النزعة التشريعية. والثالث: في بعض المبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص.

ص: 249

فأما اختلافهم في تقدير بعض مصادر التشريع فقد ظهر فيما يأتي:

أولًا: في طريق الوثوق بالسنة والميزان الذي ترجع به رواية عن رواية، وذلك أن الوثوق بالسنة مبني على الوثوق برواتها وكيفية روايتها، وقد اختلف الأئمة في طريق هذا الوثوق فمجتهدو العراق -أبو حنيفة وأصحابه- يحتجون بالسنة المتواترة والمشهورة، ويرجحون ما يروي الثقات من الفقهاء، ولهذا قال أبو يوسف:"وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء"، ومجتهدو المدينة مالك وأصحابه يرجحون ما عليه أهل المدينة بدون اختلاف ويتركون ما خالفه من أخبار الآحاد، وباقي الأئمة يحتجون بما رواه العدول الثقات من الفقهاء وغير الفقهاء، وافق عمل أهل المدينة أو خالفه.

وترتب على هذا أن مجتهدي العراق جعلوا المشهور في حكم المتواتر وخصصوا به العام في القرآن وقيدوا به المطلق فيه، وغيرهم لم يجعلوا له هذه القوة، وترتب أيضا أن الحديث المرسل هو: ما رواه الصحابي بقوله: أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا، من غير أن يصرح بأنه سمع ذلك بنفسه أو شافهه أو شاهده، يحتج به بعض رجال التشريع ولا يحتج به بعضهم. فهذا الاختلاف في طريق الوثوق بالسنة أدى إلى أن بعضهم احتج بسنة لم يحتج بها الآخر، وبعضهم رجح سنة هي مرجوحة عند الآخر، وعن هذا نشأ اختلاف الأحكام.

وثانيا: في فتاوى الصحابة وتقديرها، فإن الأئمة اختلفوا في الفتاوى الاجتهادية التي صدرت عن أفراد الصحابة، فأبو حنيفة -ومن تابعه- خطته بالنسبة إليها: أن يأخذ بأية فتوى منها، ولا يتقيد بواحدة معينة ولا يخرج عنها جميعًا، والشافعي -ومن تابعه- خطته بالنسبة إليها أنها فتاوى اجتهادية فردية صادرة من غير معصومين فله أن يأخذ بأية فتوى منها، وله أن يفتي بخلافها كلها. وعن هذا نشأ أيضا اختلاف في الأحكام.

وثالثا: في القياس. فإن بعض المجتهدين من: الشيعة، والظاهرية أنكروا الاحتجاج بالقياس، ونفوا أن يكون مصدرا للتشريع ولهذا سموا: نفاة القياس.

وجمهور الأئمة احتجوا بالقياس، وعدوه المصدر التشريعي بعد القرآن والسنة والإجماع، ولكنهم مع اتفاقهم على أنه حجة اختلفوا فيما يصلح أن يكون علة للحكم ويبني عليه القياس، ونشأ عن هذا أيضا اختلاف في الأحكام.

ص: 250

وأما اختلافهم في النزعة التشريعية؛ فقد ظهر في انقسامهم إلى فريق أهل الحديث، ومنهم أكثر مجتهدي الحجاز، وفريق أهل الرأي، ومنهم أكثر مجتهدي العراق، وليس معنى هذا الانقسام أن فقهاء العراق لا يصدرون في تشريعهم عن الحديث؛ وأن فقهاء الحجاز لا يصدرون في تشريعهم عن الاجتهاد بالرأي؛ لأنهم جميعا متفقون على أن الحديث حجة شرعية ملزمة، وأن الاجتهاد بالرأي، أي القياس، حجة شرعية فيما لا نص فيه.

وإنما معنى هذا الانقسام وسبب هذه التسمية أن فقهاء العراق أمعنوا النظر في مقاصد الشارع، وفي الأسس التي بنى عليها التشريع، فاقتنعوا بأن الأحكام الشرعية معقول معناها، ومقصود بها تحقيق مصالح الناس، وبأنها تعتمد على مبادئ واحدة، وترمي إلى غاية واحدة، وهي لهذا لا بد أن تكون متسقة ولا تعارض ولا تباين بين نصوصها وأحكامها، وعلى هذا الأساس يفهمون النصوص، ويرجحون نصا على نص ويستنبطون فيما لا نص فيه، ولو أدى استنباطهم على هذا الأساس إلى صرف نص عن ظاهره، أو ترجيح نص على آخر أقوى منه رواية، حسب الظاهر، وهم من أجل هذا لا يتحرجون من السعة في الاجتهاد بالرأي، ويجعلون له مجالا في أكثر بحوثهم التشريعية.

وأما فقهاء الحجاز فقد عنوا بحفظ الأحاديث وفتاوى الصحابة، واتجهوا في تشريعهم إلى فهم هذه الآثار حسبما تدل عليه عبارتها، وتطبيقها على ما يحدث من الحوادث غير باحثين في علل الأحكام ومبادئها؛ فإذا وجدوا ما فهموه من النص لا يتفق مع ما يقتضيه العقل لم يبالوا بهذا، وقالوا: هو النص. وكانوا من أجل هذا يتحرجون من الاجتهاد بالرأي، ولا يلجأون إليه إلا عند الضرورة القصوى.

مثلا: ورد في الحديث أن في كل أربعين شاة شاة، وأن صدقة الفطر صاع من تمر أو شعير، وأن من رد الشاة المصراة بعد احتلاب لبنها رد صاعا من تمر.

فقهاء العراق يفهمون هذه النصوص على ضوء معناها المعقول ومقصد الشارع من تشريعها؛ وهو أن المالك أربعين شاة يجب عليه أن ينفع الفقراء بواحدة أو ما يعادلها، وأن المتصدق بصدقة الفطر يجب عليه أن ينفعهم بصاع من تمر أو ما يعادله، واللبن المحتلب يضمن بمثله أو قيمته.

ص: 251

وليس خصوص الشاة أو الصاع مقصودا للشارع، فمن زكى بقيمة الشاة أو تصدق بقيمة الصاع، أو ضمن لبن المصراة بقيمته أجزأه؛ لأن المقصود نفع الفقراء، وتعويض المال المتلف.

وأما فقهاء الحجاز فيفهمون هذه النصوص حسبما تدل عليه عبارتها الظاهرة، ولا يبحثون في علة التشريع، ولا يتجهون إلى التأويل بناء على مراعاة العلل المعقولة، وعلى هذا يوجبون الشاة بخصوصها، والصاع بخصوصه، ولا تجزئ في مذهبهم القيمة.

وأهم الأسباب التي أدت إلى اختلاف هاتين النزعتين هي:

1-

أن الأحاديث وفتاوى الصحابة لم تكن كثيرة في العراق كثرتها في الحجاز، فالحجازيون وجدوا عندهم ثروة من الآثار اعتمدوا عليها في تشريعهم، وركنوا إليها، وأما فقهاء العراق فلم تكن لديهم هذه الثروة، فاعتمدوا على عقولهم، واجتهدوا في تفهم معقول النص وعلة التشريع لتتسع معاني النصوص لما لم تتسع له ألفاظها، وأسوتهم في هذا أستاذهم عبد الله بن مسعود.

2-

إن العراق كانت فيها الفتن التي أدت إلى افتراء الأحاديث وتحريفها؛ لأنها كانت مهد الشيعة ومقر الخوارج، وقد شاهد فقهاء العراق من الجرأة على وضع الأحاديث والتحريف فيها ما لم يشاهده فقهاء الحجاز، فلهذا تشددوا في قبول الرواية والتزموا أن يكون الحديث مشهورا بين أهل الفقه، وإذا وجدوا حديثًا يفهم منه ما لا يتفق، وحكمة الشارع أولوه أو تركوه.

3-

أن بيئة العراق غير بيئة الحجاز، والأقضية والحوادث في البلدين مختلفة؛ لأن دولة الفرس خلفت في العراق أنواعًا من المعاملات والعادات والنظم لا يعهد مثلها في بلاد الحجاز، فكان مجال الاجتهاد في العراق ذا سعة وأفق البحث ممتدا، ولهذا تكونت في فقهاء العراق ملكة البحث، والتفكير وبدت لهم وجوه عديدة من الرأي والنظر في التشريع، وأما فقهاء الحجاز فقلما حدث لهم ما لم يحدث لسلفهم من التابعين أو الصحابة؛ لأن البيئة واحدة، وقلما حدث لهم ما لم يحفظوا في حكمه حديثا أو فتوى صحابي، فلما لم يجدوا للاجتهاد المجال الذي وجده العراقيون اعتادوا فهم النصوص على ظواهرها، ولم تدعهم حاجة إلى البحث في عللها أو التعمق في مقاصدها.

ص: 252

وأما اختلافهم في بعض المبادئ الأصولية اللغوية: فقد نشأ من اختلاف وجهات النظر في استقراء الأساليب العربية. فمنهم من رأى أن النص حجة على ثبوت حكمه في منطوقه، وعلى ثبوت خلاف حكمه في مفهومه المخالف، ومنهم من لم ير هذا. ومنهم من رأى أن العام الذي لم يخصص قطعي في تناول جميع أفراده، ومنهم من رأى أنه ظني. ومنهم من رأى المطلق يحمل على المقيد عند اتحاد الحكم ولو اختلف السبب، ومنهم من رأى أنه لا يحمل عليه إلا عند اتحاد الحكم والسبب. ومنهم من رأى أن الأمر المطلق للإيجاب ولا يصرف عنه إلا بقرينة، ومنهم من رأى أنه مجرد أنه طلب الفعل. والقرينة هي التي تعين الإيجاب أو غيره، إلى غير ذلك من المبادئ الأصولية التي تفرع على اختلافهم فيها كثير من الأحكام.

فالخطة التشريعية لكل مجتهد في هذا العهد كانت قائمة على طريق ثقته بالسنة، وتقديره لفتاوى الصحابة، ومسلكه في القياس، ونزعته في فهم النصوص وتأويلها وتعليلها، ومبادئه التي سار عليها من استقرائه الأحكام الشرعية والأساليب العربية، وبنى عليها استنباطه.

ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية:

أهم ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية ثلاثة:

الأول: صحاح السنة التي دونت فيه، فبعضها جمعت فيها الأحاديث على طريق المسانيد، وبعضها جمعت فيه الأحاديث حسب أبواب الفقه. وقد تنافس علماء الحديث في الجمع والضبط وتعرف الرواة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

الثاني: تدوين الفقه وأحكامه، وجمع المسائل المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، وتعليل الأحكام والاستدلال عليها؛ لأن الدولة الإسلامية في هذا العهد لما استعت أرجاؤها وزادت حضارتها وجدت فيها أقضية، وحوادث ونظم كانت مجالا فسيحا للاجتهاد والمجتهدين، فاجتهدوا في فهم النصوص، وفي الاستنباط فيما لا نص فيه، وتنافسوا في هذا الاجتهاد، وتأثروا في طرق اجتهادهم وبحثهم بطرق البحث التي ظهرت في بحوث من دخلوا في الإسلام من الأمم غير العربية، وفيما نقل إلى المسلمين من علوم وفنون.

ص: 253

فلهذا لم تكن فتاوى المجتهدين في هذا العهد مجرد فتاوى. بل كانت آراء وبحوثا معللة مؤيدة بالبرهان، وبهذا صار الفقه وأحكامه علما ذا مسائل كلية تطبق على ما وقع وما لم يقع، وكان من أحكامه أحكام لحوادث لم تقع أصلا، ودونت فيها موسوعات لا تزال مرجع المسلمين حتى اليوم؛ ومن أشهر هذه الموسوعات في مذهب الإمام أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي رواها محمد بن حسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وجمعها كتاب الكافي للحاكم الشهيد، وفي مذهب الإمام مالك كتاب المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك. وفي مذهب الإمام الشافعي: كتاب الأم الذي أملاه الشافعي على تلاميذه بمصر، وغير ذلك كثير في مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين.

3-

تدوين علم أصول الفقه، وذلك أنه لما اتخذ كل مجتهد في هذا العهد خطة تشريعية خاصة، عني بوضع الأصول، والأسس التي بنى عليها خطته واجتهاده، وكان كل مجتهد منهم يثبت مبادئه وأصوله في ثنايا مسائله وأحكامه.

ففي كثير من موضوعات الموطأ أشار الإمام مالك إلى مبادئه وقواعده التشريعية، وكذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه، حتى نقل أن أبا يوسف كتب كتابا مستقلًّا في أصول الفقه. ولكن أول من جمع هذه القواعد مرتبة معللة مقاما على كل قاعدة منها برهانها، هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي في رسالته المشهورة في علم الأصول. ولذا اشتهر أنه واضع علم أصول الفقه، والحقيقة: أنه رتبه، وصاغ قواعده صوغا علميا، ولم يبتدئ وضعه.

وهذه نُبَذ موجزة في ترجمة بعض رءوس الاجتهاد في هذا العهد.

الإمام أبو حنيفة:

هو النعمان بن ثابت، ولد بالكوفة سنة 80هـ، وتوفي ببغداد سنة "150" هـ قال حفيده إسماعيل بن حماده: نحن من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط، ذهب جدي ثابت إلى علي وهو صغير فدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته. تلقى أبو حنيفة الفقه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود. وكان أبو حنيفة خزازا بالكوفة1، وقد اشتهر بين الناس بصدق المعاملة

1 الخزاز: هو الذي يبيع الخز وهو الثياب المتخذة من الحرير أو من الحرير المخلوط بالصوف.

ص: 254

وإعلام المشتري بالثمن الحقيقي وكراهة المماكسة، ولما طلب الفقه على رأس المائة الثانية نبغ فيه نبوغا عظيما، وكان يطرح المسألة على من يحضر من طلاب العلم، ويتناقشون فيها جميعا حتى يستقر الرأي على جواب فيها أو يحتفظ كل برأيه، وبهذا كانت مسائل فقهه لا تتقرر إلا بعد المناظرة والأخذ والرد فيها غالبا.

وكانت خطته في استنباط الأحكام الفقهية ما قال هو نفسه:

إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فلما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلا قول غيرهم؛ فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، فعلي أن أجتهد كما اجتهدوا.

وقد برع في القياس، والاستحسان وتوسع فيهما، وكذا أصحابه حتى اتسعت بذلك المسائل الفقهية وكثرت كثرة عظيمة جدا، وكانوا كلهم يفترضون صورا لمسائل ويلتمسون لكل صورة جوابا، وبهذا خالفوا سنة من قبلهم، فقد كان أولئك لا ينظرون إلا في أحكام الحوادث التي وقعت بالفعل، ولا يفترضون حوادث ولا رسائل، ولا يفرعون تفريعات لا وجود لها بالفعل، بل كان بعضهم يحجم عن جواب المسألة إذا لم يجد نصا فيها، وبالجملة فقد نشط فقه الرأي على يد أبي حنيفة وأصحابه، ومن كان معه من فقهاء العراق وقضت بذلك الحضارة الجديدة. ومن ناحية الرأي والتماس العلل والأوصاف المناسبة للأحكام أمكن وضع الروابط التي تربط مسائل الشريعة بعضها ببعض، ورد كل طائفة منها إلى أصل تبنى عليه وقواعد تنظمها، حتى أصبح الفقه علما ذا قواعد وأصول بعد أن كان مسائل مبعثرة لا ألفة بينها ولا ارتباط، حتى الذين كانوا يقفون عند المروي من السنة ويهابون التكلم بالرأي، انتهى الأمر بكثير منهم إلى الآخذ بالرأي تحت اسم القياس والمصالح المرسلة، كما يظهر ذلك من مراجعة كتب المذاهب الأربعة وغيرها.

وقدكان لأبي حنيفة أصحاب أجلاء، أخذوا العلم عنه وشاركوه في الرأي والاستنباط، ونمت بهم مسائل مذهبه وكثرت، وقد امتزجت أقوالهم بأقوال إمامهم، وسميت جملة ذلك مذهب أبي حنيفة مع أنها خليط من آرائه وآراء تلاميذه، ولم يفكر أحد منهم في الانفصال من أستاذه، كما انفصل الشافعي عن

ص: 255

أستاذه مالك بن أنس، وكما انفصل أحمد عن أستاذه الشافعي. ومن أشهر أصحاب أبي حنيفة صاحباه: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن.

فأما أبو يوسف، فهو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ولد سنة 113هـ، وتوفي سنة 193هـ. وكان يشتغل أولا برواية الحديث، ثم اتصل بأبي حنيفة، فكان أكبر أصحابه وأفضل معين له. وله كتاب الخراج في نظام الأموال والضرائب، وقد طبع أكثر من مرة. وهو الذي نشر مذهب أبي حنيفة؛ لأنه كان قاضي القضاة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد. فكان لا يولي قاضيا إلا كان على مذهب أبي حنيفة.

وأما محمد بن الحسن، فقد ولد سنة 132هـ، وتوفي سنة 189هـ، نشأ بالكوفة وكان يحضر مجلس أبي حنيفة وهو صغير، وكان أبو حنيفة يتوسم فيه النباهة والذكاء، ولكن أبا حنيفة توفي وهو صغير السن؛ فأتم دراسته على أبي يوسف، وهو الذي جمع مسائل فقه أبي حنيفة، وتولى كتابتها وأملاها في كتبه الستة المشهورة وهي الأصل المسمى: بمبسوط محمد، والجامع الكبير، والجامع الصغير، وكتاب السير الكبير وكتاب السير الصغير، والزيادات. وله كتب أخرى لم ترو عنه بالشهرة التي رويت بها الكتب الأولى، ولذا سميت بالنوادر. ولأبي يوسف كتب مروية عنه كذلك، وزيد على ذلك فيما يعد أجوبة الفتاوى لحوادث لم توجد لها أجوبة فيما نقل عن الأصحاب سميت: بالواقعات. وبذا صارت مسائل الفقه الحنفي مؤلفة من ثلاثة أنواع:

الأول: كتب ظاهر الرواية، وهو المرجع الذي يعتمد عليه في المذهب الحنفي.

والثاني: كتب النوادر، وهي في الرتبة الثانية.

والثالث: الواقعات، وهي في الرتبة الثالثة؛ لأنها تخريجات لمشايخ المذهب.

وقد انتشر المذهب الحنفي بقوة السلطان في بلاد المشرق بواسطة أبي يوسف كما أسلفنا وبإيثار الخلفاء العباسيين له في القضاء على غيره، وانتشر كثيرا ببلاد المغرب إلى قريب سنة "400" حتى غلب على جزيرة صقلية "سيسليا"، وانتشر بمصر أيضا في أوائل الدولة العباسية، وزاحمه مذهب مالك، ومذهب الشافعي، وهو الآن منتشر في بلاد الهند بكثرة عظيمة جدا. وهو السائد على البلاد التركية،

ص: 256

وهو مرجع القضاء في مصر إلى الآن "انظر المادة "280" من القانون رقم 78 لسنة 1931"، وقد أدخلت بعض تغييرات قليلة من المذاهب الأخرى.

الإمام مالك:

هو مالك بن أنس الأصبحي أصله من اليمن؛ وقد كان أجداده أبو عامر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولد مالك سنة 93هـ بالمدينة المنورة، وتوفي بها سنة 179هـ، ولم يرحل عن المدينة إلى غيرها من البلاد. وكان إماما في الحديث، وإماما في الفقه معا، وقد أجمع الناس على فضله وإمامته في كل منهما.

وكان اعتماده في فتواه على كتاب الله أولا ثم على السنة، ولكنه كان يقدم عمل أهل المدينة على خبر الواحد إذا كان مخالفا؛ وذلك لاعتقاده أن أهل المدينة توارثوا ما كانوا يعملون به عن سلفهم، وسلفهم توارثوه عن الصحابة، فكان ذلك أثبت عنده من خبر الواحد. ولكن الشافعي وبعض الأئمة خالفوه في هذا، بحجة أن كثير من السنة حمله بعض الصحابة معهم إلى الأمصار والبلدان المفتوحة التي رحلوا إليها واستقروا فيها، فليست السنة كلها محصورة في عمل أهل المدينة، بل بعضها والكثير منها موجود في غيرها، وعلى ذلك إذا صح الحديث عند هؤلاء أخذوا به سواء أكان موافقا لعمل أهل المدينة أم كان مخالفا له، على عكس مالك في هذا.

وبعد السنة يرجع مالك إلى القياس، ومما لا شك فيه أن كثيرا من مسائل مذهبه بني على المصالح المرسلة، حتى إنك لتجد بعض أحكام المسائل فيه تخصيص لعموم الكتاب بالمصلحة.

وقد تلقى الشافعي عنه الحديث وتفقه به، وحضر دروسه أهل مصر، وأهل المغرب، وأهل الأندلس، وانتفعوا به انتفاعا كبيرا، ونقلوا مذهبه، ونشروه في بلادهم، وكان هو المذهب السائد على بلاد الأندلس بواسطة أمير تلك البلاد كما نشر الخلفاء العباسيين مذهب أبي حنيفة.

ومذهب مالك الآن هو السائد على بلاد المغرب، وصعيد مصر، وبلاد السودان.

ص: 257

وقد طبعت المدونة التي هي أساس فقه مالك مرتين بمصر وهي منتشرة بها، وكذلك وضع الموطأ مجردا من الشرح، وطبع مشروحا بشروح مطولة وموجزة وهو منتشر عندنا بكثرة.

واقتبس المشرع المصري بعض أحكام من مذهب مالك لترجع إليها المحاكم الشرعية في مصر، وكذلك من مذهب الشافعي ابتداء من سنة 1920م.

الإمام الشافعي:

هو محمد بن إدريس الشافعي القرشي، يلتقي نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. ولد سنة 150هـ بمدينة غزة يتيما، ثم انتقلت به أمه إلى مكة، وتوفي بمصر سنة 204هـ وضريحه بها مشهور.

وكان أبوه إدريس قد سافر إلى غزة في حاجة له هناك، وكانت أم الشافعي حاملا به، فتوفي والده إدريس هناك، وولد الشافعي بتلك المدينة فرجعت به أمه إلى مكة بعد سنتين من مولده؛ لأن مكة هي الوطن الأصلي لآباء الشافعي.

وقد حفظ الشافعي القرآن في صباه. ثم خرج إلى قبائل هذيل ببادية العرب، وكانوا من أفصح العرب، فاستفاد الفصاحة منهم، وحفظ كثيرًا من أشعارهم، وقد كان يضرب به المثل في الفصاحة.

وتفقه الشافعي بمكة على شيخ الحرم ومفتيه مسلم بن خالد، ثم رحل إلى المدينة بعد أن حفظ الموطأ وقرأه على مالك، وأخذ العلم عنه. فمالك هو الأستاذ الثاني للشافعي.

ثم سافر إلى العراق ثلاث مرات، والتقى في خلالها بأصحاب الإمام أبي حنيفة، وكانت له مناظرات مع محمد بن الحسن، ونشر بالعراق مذهبه القديم، ثم جاء إلى مصر سنة 198هـ، ونزل مدينة الفسطاط التي فيها جامع عمرو بن العاص، ونشر علمه بين المصريين، وكون مذهبه الجديد بمصر، واستمر يملي على تلاميذه ويفيدهم من علمه وفقهه إلى أن توفاه الله تعالى إليه سنة 204 كما أسلفنا.

ومن إملائه كتاب الأم وهو كتاب جليل عظيم الفائدة. وقد طبع بمصر، وهو أساس مذهبه.

ومن مفاخر الشافعي رحمه الله وضعه لعلم أصول الفقه، فقد كتب فيه

ص: 258

رسالته المعروفة، وبذلك ضبط طرق الاجتهاد واستنباط الأحكام، وابتعدت عن الفوضى بالقدر المستطاع: والشافعي هو الذي نشر مذهبه نفسه في العراق، وفي مصر. وقام بذلك تلاميذه بعده، فزاحم مذهب الحنفية ومذهب المالكية، وأصبحت له السيادة على ريف مصر "الوجه البحري" وعلى أكثر بلاد الشام، وبعض اليمن والحجاز وأواسط آسيا.

الإمام أحمد:

هو أحمد بن حنبل الشيباني المروزي، ولد بمدينة مرو1 سنة 164هـ وتوفي ببغداد سنة 241هـ.

وقد حمل إلى بغداد رضيعا، فلما شب تلقى الحديث عن أكابر المحدثين من أهل عضره؛ وتلقى عنه الحديث الأئمة العظام، منهم البخاري ومسلم.

وقد غلب عليه الاشتغال بالحديث، حتى لقب بإمام أهل السنة، وصنف مسنده المشهور في ستة مجلدات، وهو مطبوع بمصر.

وأخذ الفقه عن الإمام الشافعي، ولازمه مدة مقامه ببغداد، فهو تلميذ للشافعي في الفقه.

وهو من الأئمة المجتهدين، لكنه إلى الحديث أميل منه إلى الفقه، ولم يخرج مذهبه من حدود العراق إلا بعد القرن الرابع، ولم يظهر ظهورا بينا في مصر إلا في القرن السابع، وقد غلب على بغداد في القرن الرابع، وهو الآن المذهب السائد في البلاد النجدية، ويوجد في بعض أنحاء العراق والشام والحجاز؛ وله طلاب في الأزهر بمصر، ولكنهم قليلو العدد جدا بالنسبة لأتباع المذاهب.

وقد جمع بعض أصحاب الإمام أحمد أقواله وفتاويه في مجلدات لكننا لم نطلع عليها، ومن كتبه: كتاب المغني لابن قدامة في اثني عشر مجلدا، وهو مطبوع بمصر وهو من أجل وأعظم الكتب الفقهية، ويوجد غيره كالإقناع، والمقنع وشروحهما، والفروع، ودليل الطالب، وكل هذه الكتب مطبوعة بمصر.

1 هي مدينة مشهورة ببلاد فارس، وفي طبقات الشافعية الكبرى أن أمه جاءت به من مرو، وهو حمل إلى بغداد فولدته بها.

ص: 259