المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع - علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع ط المدني

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌لمحة عن حياة المؤلف:

- ‌الكتاب الأول: علم أصول الفقه

- ‌الطبعة السابعة:

- ‌افتتاحية الطبعة السابعة:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1947:

- ‌فاتحة طبعة سنة 1942:

- ‌مقدمة:

- ‌القسم الأول: في الأدلة الشرعية

- ‌مدخل

- ‌الدليل الأول: القرآن

- ‌الدليل الثاني: السنة

- ‌الدليل الثالث: الإجماع

- ‌الدليل الرابع: القياس

- ‌الدليل الخامس: الاستحسان

- ‌الدليل السادس: المصلحة المرسلة

- ‌الدليل السابع: العرف

- ‌الدليل الثامن: الاستصحاب

- ‌الدليل التاسع: شرع من قبلنا

- ‌الدليل العاشر: مذهب الصحابي

- ‌القسم الثاني: في الأحكام الشرعية

- ‌ الحاكم:

- ‌ الحكم:

- ‌ المحكوم فيه:

- ‌ المحكوم عليه:

- ‌القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية

- ‌تمهيد:

- ‌القاعدة الأولى: في طريق دلالة النص

- ‌القاعدة الثانية: في مفهوم المخالفة

- ‌القاعدة الثالثة: في الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الرابعة: في غير الواضح الدلالة ومراتبه

- ‌القاعدة الخامسة: في المشترك ودلالته

- ‌القاعدة السادسة: في العام ودلالته

- ‌القاعدة السابعة: في الخاص ودلالته

- ‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

- ‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع

- ‌القاعدة الثانية: فيما هو حق الله. وما هو حق المكلف

- ‌القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه

- ‌القاعدة الرابعة: في نسخ الحكم

- ‌القاعدة الخامسة: في التعارض والترجيح

- ‌الكتاب الثاني: خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌تمهيد في بيان المراد من التشريع:

- ‌ عهد الرسول:

- ‌ عهد الصحابة:

- ‌ عهد التدوين والأئمة المجتهدين:

- ‌ عهد التقليد:

- ‌المحتويات:

- ‌محتويات علم أصول الفقه:

- ‌محتويات خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي:

الفصل: ‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع

‌القسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية

‌القاعدة الأولى: في القصد العام من التشريع

القسم الرابع: في الأصول التشريعية

القاعدة الأولى: في المقصد العام من التشريع

"والمقصد العام للشارع من تشريعه الأحكام هو تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم، وتوفير حاجتهم وتحسينياتهم.

فكل حكم شرعي ما قصد به إلا واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس.

ولا يراعى تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحاجي، لا يراعي حاجي ولا تحسيني إذا كان في مراعاة أحدهما إخلال بضروري".

هذه القاعدة الأولى بينت المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام الشرعية؛ سواء أكانت تكليفية أم وضعية. وبينت مراتب الأحكام باعتبار مقاصدها. ومعرفة المقصد العام للشارع من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع واستنباط الحكم فيما لا نص فيه.

لأن دلالة اللفظ والعبارات على المعاني، قد تحتمل عدة وجوه. والذي يرجح واحدا من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع؛ ولأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها. والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع؛ ولأن كثيرا من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص. وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامه بأي دليل من الأدلة الشرعية، والهادي في هذا الاستدلال هو معرفة مقصد الشارع.

ولهذا يعني رجال السلطة التشريعية في الحكومات الحاضرة بوضع المذكرات التفسيرية، التي تبين المقصد من تشريع القانون بوجه عام، وتبين المقصد الخاص من كل مادة من مواده. وهذه المذكرات التفسيرية وجميع البحوث والمناقشات التي تبودلت أثناء تحضير القانون وتشريعه هي عون رجال القضاء على فهم القانون، وتطبيقه بنصوصه وروحه ومعقوله.

وكذلك نصوص الأحكام الشرعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام. وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية، أو وردت السنة القولية أو العملية.

ص: 186

فالمقصد العام للشارع من التشريع هو المبين في هذه القاعدة الأصولية الأولى، وأما الوقائع الجزئية التي شرعت لها الأحكام فهي مبينة في كتب التفسير وأسباب النزول وصحاح السنة.

ومنطوق هذه القاعدة: أن المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام هو تحقيق مصالح الناس في هذه الحياة، بجلب النفع لهم ودفع الضرر عنهم؛ لأن مصالح الناس في هذه الحياة تتكون من أمور ضرورية لهم، وأمور حاجية وأمور تحسينية، فإذا توافرت لهم ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم فقد تحققت مصالحهم، والشارع الإسلامي شرع أحكاما في مختلف أبواب أعمال الإنسان لتحقيق أمهات الضروريات والحاجيات والتحسينيات للأفراد والجماعات، وما أهمل ضروريا ولا حاجيا ولا تحسينيا من غير أن يشرع حكما لتحقيقه وحفظه، وما شرع حكما إلا لإيجاد وحفظ واحد من هذه الثلاثة، فهو ما شرع حكما إلا لتحقيق مصالح الناس، وما أهم مصلحة اقتضتها حال الناس لم يشرع لها حكما.

أما البرهان على أن مصالح الناس لا تعدو هذه الأنواع الثلاثة فهو الحس والمشاهدة؛ لأن كل فرد أو مجتمع تتكون مصلحتهم من أمور ضرورية وأمور حاجية وأمور كمالية، مثلا: الضروري لسكنى الإنسان مأوى يقبه حر الشمس وزمهرير البرد ولو مغارة في الجبل. والحاجي أن يكون المسكن مما يسهل فيه السكنى بأن تكون له نوافذ تفتح وتغلق حسب الحاجة، والتحسيني أن يجمل ويؤثث وتوفر فيه وسائل الراحة، فإذا توافر له ذلك فقد تحققت مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته في سكناه، وهكذا طعام الإنسان ولباسه، وكل شأن من شئون حياته، تتحقق مصلحته فيه بتوافر هذه الأنواع الثلاثة له. ومثل الفرد المجتمع، فإذا توافر لأفراده ما يكفل إيجاد وحفظ ضرورياتهم وحاجيتهم وتحسيناتهم، فقد يتحقق لهم ما يكفل لهم مصالحهم.

أما البرهان على أن كل حكم في الإسلام إنما شرع لإيجاد واحد من هذه الأمور الثلاثة، وحفظه فهو استقراء الأحكام الشرعية الكلية، والجزئية في مختلف الوقائع والأبواب، واستقراء العلل والحكم التشريعية التي قرنها الشارع بكثير من الأحكام.

ص: 187

وقبل أن نعرض أمثلة من هذا الاستقراء نبين المراد شرعا بالضروري، وبالحاجي وبالتحسيني.

فأما الأمر الضروري: فهو ما تقوم عليه حياة الناس ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، وإذا فقد اختل نظام حياتهم، ولم تستقم مصالحهم، وعمت فيهم الفوضى والمفاسد. والأمور الضرورية للناس بهذا المعنى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. فحفظ كل واحد منها ضروري للناس.

وأما الأمر الحاجي: فهو ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واحتمال مشاق التكاليف، وأعباء الحياة. وإذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولا تعم فيهم الفوضى كما إذا فقد الضروري، ولكن ينالهم الحرج والضيق، والأمور الحاجية للناس بهذا المعنى ترجع إلى رفع الحرج عنهم، والتخفيف عليهم ليحتملوا مشاق التكاليف. وتيسر لهم طرق التعامل والتبادل وسبل العيش.

وأما التحسيني: فهو ما تقتضيه المروءة والآداب، وسير الأمور على أقوم منهاج، وإذا فقد لا يختل نظام حياة الناس كما إذا فقد الأمر الضروري، ولا ينالهم حرج، كما إذا فقد الأمر الحاجي، ولكن تكون حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة، والأمور التحسينية للناس بهذا المعنى ترجع إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وكل ما يقصد به سير الناس في حياتهم على أحسن منهاج.

ما الذي شرعه الإسلام للأمور الضرورية للناس؟

الأمور الضرورية للناس كما قدمنا ترجع إلى خمسة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. وقد شرع الإسلام لكل واحد من هذه الخمسة أحكامًا تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاما تكفل حفظه وصيانته. بهذين النوعين من الأحكام حقق للناس ضرورياتهم.

فالدين هو مجموعة العقائد والعبادات، والأحكام والقوانين التي شرعها الله سبحانه لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقتهم بعضهم ببعض. وقد شرع الإسلام لإيجاده، وإقامته إيجاب الإيمان وأحكام القواعد الخمس التي بني عليها الإسلام،

ص: 188

وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت؛ وسائر العقائد، وأصول العبادات، التي قصد الشارع بتشريعها، إقامة الدين وتثبيته في القلوب باتباع الأحكام التي لا يصلح الناس إلا بها، وأوجب الدعوة إليه وتأمين الدعوة إليه من الاعتداء عليها وعلى القائمين بها ومن وضع عقبات في سبيلها.

وشرع لحفظه وكفالة بقائه وحمايته من العدوان عليه أحكام الجهاد، لمحاربة من يقف عقبة في سبيل الدعوة إليه، ومن يفتن متدينا ليرجعه عن دينه، وعقوبة من يرتد عن دينه، وعقوبة من يبتدع، ويحدث في الدين ما ليس منه أو يحرف أحكامه عن مواضعها، والحجر على المفتي الماجن الذي يحل المحرم.

النفس: شرع الإسلام لإيجادها الزواج للتوالد والتناسل، وبقاء النوع على أكمل وجوه البقاء.

وشرع لحفظها وكفالة حياتها، إيجاب تناول ما يقيمها من ضروري الطعام والشراب واللباس والسكن، وإيجاب القصاص والدية والكفارة على من يعتدي عليها، وتحريم الإلقاء بها إلى التهلكة، وإيجاب دفع الضرر عنها.

وشرع لحفظ العقل تحريم العقل تحريم الخمر وكل مسكر، وعقاب من يشربها أو يتناول أي مخدر.

وشرع لحفظ العرض حد الزاني والزانية وحد القذف.

والمال: شرع الإسلام لتحصيله وكسبه، إيجاب السعي للرزق وإباحة المعاملات والمبادلات التجارية والمضاربة. وشرع لحفظه وحمايته تحريم السرقة، وحد السارق والسارقة، وتحريم الغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل، وإتلاف مال الغير، وتضمين من يتلف مال غيره، والحجز على السفيه وذي الغفلة، ودفع الضرر وتحريم الربا.

وكفل حفظ الضروريات كلها بأن أباح المحظورات للضرورات.

فمن هذا يتبين أن الإسلام شرع أحكاما في مختلف أبواب العبادات، والمعاملات والعقوبات تقصد إلى كفالة ما هو ضروري للناس بإيجاده، وبحفظه وحمايته.

ص: 189

وقد دل على هذا القصد بما قرنه ببعض هذ الأحكام من العلل والحكم التشريعية. كقوله تعالى في إيجاب الجهاد: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، وقوله في إيجاب القصاص:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، وقوله سبحانه:{لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليل النهي عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه: "أرأيت إذا منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه"؟. إلى غير ذلك من العلل التي تدل على أن قصد الشارع حماية الدين، والنفس والأموال وكل ما هو ضروري للناس.

ما الذي شرعه الإسلام للأمور الحاجية للناس!

الأمور الحاجية للناس، كما قدمنا ترجع إلى ما يرفع الحرج عنهم، ويخفف عنهم أعباء التكليف، وييسر لهم طرق المعاملات والمبادلات؛ وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات، والعقوبات جملة أحكام المقصود بها رفع الحرج واليسر بالناس.

ففي العبادات شرع الرخص ترفيها، وتخفيفا عن المكلفين إذا كان في العزيمة مشقة عليهم، فأباح الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وقصر الصلاة الرباعية للمسافر، والصلاة قاعدا لمن عجز عن القيام. وأباح التيمم لمن لم يجد الماء، والصلاة في السفينة ولو كان الاتجاه لغير القبلة. وغير ذلك من الرخص التي شرعت لرفع الحرج عن الناس في عبادتهم.

وفي المعاملات، شرع كثيرا من أنواع العقود والتصرفات التي تقتضيها حاجات الناس، كأنواع البيوع والإجارات والشركات والمضاربات، ورخص في عقود لا تنطبق على القياس، وعلى القواعد العامة في العقود، كالسلم وبيع الوفاء1 والاستصناع، والمزارعة والمساقاة، وغير ذلك مما جرى عليه عرف الناس ودعت إليه حاجتهم. وشرع الطلاق للخلاص من الزوجية عند الحاجة، وأحل الصيد وميتة البحر والطيبات من الرزق، وجعل الحاجات مثل الضروريات في إباحة المحظورات.

1 من العقود المستحدثة في القرن الخامس الهجري، وجمهور الفقهاء يعتبرونه باطلا؛ لأنه يشتمل على بيع وشرط 10هـ مصححه.

ص: 190

وفي العقوبات جعل الدية على العاقلة تخفيفا عن القاتل خطأ، وردأ الحدود بالشبهات، وجعل لولي المقتول حق العفو عن القصاص من القاتل.

وقد دل على ما قصد بهذه الأحكام من التخفيف، ورفع الحرج بما قرنه ببعضها من العلل والحكم التشريعية. كقوله تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، وقوله سبحانه:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"بعثت بالحنيفية السمحة".

ما الذي شرعه الإسلام للأمور التحسينية للناس؟

الأمور التحسينية للناس كما قدمنا، ترجع إلى كل ما يجمل حالهم ويجعلها على وفاق ما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق. وقد شرع الإسلام في مختلف أبواب العبادات والمعاملات، والعقوبات أحكاما تقصد إلى هذا التحسين والتجميل، وتعود الناس أحسن العادات وترشدهم إلى أحسن المناهج وأقومها.

ففي العبادات شرع الطهارة للبدن، والثوب، والمكان، وستر العورة، والاحتراز عن النجاسات. والاستنزاه من البول. وندب إلى أخذ الزينة عند كل مسجد، وإلى التطوع بالصدقة والصلاة والصيام، وفي كل عبادة شرع مع أركانها وشروطها آدابًا لها، ترجع إلى تعويد الناس أحسن العادات.

وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير، وحرم التعامل في كل نجس وضار، ونهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، وعن تلقي الركبان، وعن التسعير، وغير ذلك مما يجعل معاملات الناس على أحسن منهاج.

وفي العقوبات، يحرم في الجهاد قتل الرهبان والصبيان والنساء، ونهى عن المثلة والغدر، وقتل الأعزل، وإحراق ميت أو حي.

وفي أبواب الأخلاق وأمهات الفضائل قرر الإسلام ما يهذب الفرد والمجتمع ويسير بالناس في أقوام السبل.

وقد دل سبحانه على قصده التحسين، والتجميل بالعلل والحكم التي قرنها ببعض أحكامه، كقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا".

ص: 191

فاستقراء الأحكام الشرعية والعلل والحكم التشريعية في مختلف الأبواب والوقائع ينتج أن الشارع الإسلامي ما قصد من تشريعه الأحكام إلا حفظ ضروريات الناس وحاجياتهم وتحسينياتهم، وهذه هي مصالحهم.

وقد أفاض الإمام أبو إسحاق الشاطبي في أول الجزء الثاني من كتاب "الموافقات"، فبإثبات هذا بما لا مزيد عليه. وبعد أن أتى بأمثلة عديد من أحكام الشريعة وحكم تشريعها تدل على أن كل حكم شرعي، إنما قصد بتشريعه حفظ واحد من هذه الثلاثة التي تتكون منها مصالح الناس، قال ما نصه:"إن الظواهر، والعمومات، والمطلقات، والمقيدات، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، يؤخذ منها أن التشريع دائر حول حفظ هذه الثلاث التي هي أسس مصالح الناس".

وقد اقتضت حكمة الشارع الإسلامي، وما أراده من حفظ هذه الأنواع الثلاثة على أتم وجه، أن شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع منها أحكاما تعتبر مكملة لها في تحقيق هذه المقاصد.

ففي الضروريات لما شرع إيجاب الصلاة لحفظ الدين، شرع أداءها جماعة وإعلانها بالأذان، لتكون إقامة الدين وحفظه أتم بإطهار شعائره والاجتماع عليها.

ولما أوجب القصاص لحفظ النفوس، وشرع التماثل فيه ليؤدي إلى الغرض منه من غير أن يثير العداوة والبغضاء؛ لأن قتل القاتل بصورة أفظع مما فعل قد تؤدي إلى سفك الدماء، وإلى نقيض المقصود من القصاص.

ولما حرم الزنا لحفظ العرض حرم الخلوة بالأجنبية سدا للذريعة. ولما حرم الخمبر حفظا للعقل حرم القليل منه ولو لم يسكر. وجعل كل ما لا يتم الواجب إلا به واجبا، ولك ما يؤدي إلى المحظورات محظورا. وحذر من كثير من المباحات، وقيد كثيرا من المطقات، وخصص كثيرا من العمومات سدا للذرائع. ولما قد شرع الزواج للتوالد والتناسل، اشترط الكفاءة بين الزوجين تكميلًا للوفاق وحسن المعاشرة. فالأحكام التي شرعها لحفظ الضروريات كملها بتشريع أحكام تحقق هذا المقصد على أكمل وجوهه.

وفي الحاجيات لما شرع أنواع المعاملات من بيوع، وإيجارات وشركات ومضاربات، كملها بالنهي عن الغرر والجهالة وبيع المعدوم، وبيان ما يصح اقتران

ص: 192

العقد به من شروط وما لا يصح، وغير ذلك مما يقصد به أن تكون المعاملات فيها سد حاجة الناس من غير أن تثير الخصومات والأحقاد.

وفي التحسينيات لما شرط الطهارة ندب فيها عدة أشياء تكملها. ولما ندب إلى التطوع جعل الشروع فيه موجبا له، حتى لا يعتاد المكلف إبطال عمله الذي شرع فيه قبل أن يتمه. ولما ندب الإنفاق ندب أن يكون الإنفاق من طيب الكسب. فمن حقق النظر في أحكام الشريعة الإسلامية، يتبين أن المقصود من كل حكم شرع فيها حفظ ضروري للناس، أو حاجي لهم، أو تحسيني، أو مكمل لما حفظ واحدًا منها.

ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها:

مما قدمنا في بيان المراد من الضروري والحاجي، والتحسيني يتبين أن الضروريات أهم هذه المقاصد؛ لأنها يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة، وشيوع الفوضى بين الناس وضياع مصالحهم، وتليها الحاجيات؛ لأنه يترتب على فقدها وقوع الناس في الحرج والعسر، واحتمال المشقات التي قد تنوء بهم؛ وتليها التحسينيات؛ لأنه لا يترتب على فقدها اختلال نظام الحياة ولا وقوع الناس في الحرج. ولكن يترتب على فقدها خروج الناس عن مقتضى الكمال الإنساني والمروءة، وما تستحسنه العقول السليمة.

فالأحكام الشرعية لحفظ الضروريات أهم الأحكام وأحقها بالمراعاة. وتليها الأحكام التي شرعت لتوفير الحاجيات. ثم الأحكام التي شرعت للتحسين والتجميل، وتعتبر الأحكام التي شرعت للتحسينيات كالمكملة التي شرعت للحاجيات. وتعتبر الأحكام التي شرعت للحاجيات كالمكلمة التي شرعت لحفظ الضروريات.

فلا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري أو حاجي؛ لأن المكمل لا يراعى إذا كان في مراعاته إخلال بما هو مكمل له. ولذا أبيح كشف العورة إذا قتضى هذا علاج أو عملية جراحية؛ لأن ستر العورة تحسيني، والعلاج ضروري. وأبيح تناول النجس إذا كان دواء أو اضطر إليه؛ لأن الاحتراز عن النجاسات تحسيني؛ والمداواة، ودفع الضروريات ضروري. وكذلك

ص: 193

أبيح بيع المعدوم في السلم والاستصناع، واغتفرت الجهالة في المزارعة والمساقاة وبيع الغائب؛ لأن حاجة الناس قضت بأن لا تراعى هذه التحسينيات.

ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري. ولهذا تجب الفرائض والواجبات على المكلفين الذين ليسوا في حال تبيح لهم الرخصة وإن شق عليهم ما كلفوا به، إذ كل تكليف فيه كلفة ومشقة. فلو روعي أن لا تنال المكلف أية مشقة لأهملت عدة من الأحكام الضرورية من عبادات وعقوبات وغيرها؛ لأن كل ما أمر به المكلف أو نهى عنه لحفظ الضروريات لا يخلو امتثاله من مشقة عليه، ولكن احتملت هذه المشقة في سبيل حفظ الضروريات للمكلفين.

وأما الأحكام الضرورية فتجب مراعاتها، ولا يجوز الإخلال بحكم منها إلا إذا كانت مراعاة ضروري تؤدي إلى الإخلال بضروري أهم منه. ولهذا وجب الجهاد حفاظًا للدين وإن كان فيه تضحية النفس؛ لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس. وأبيح شرب الخمر إذا أكره على شربها بإتلاف نفسه أو عضو منه أو اضطر إليها في ظمأ شديد؛ لأن حفظ النفس أهم من حفظ العقل، وإذا أكره على إتلاف مال غيره، أبيح له أن يقي نفسه من الهلاك بإتلاف مال غيره. فبهذه الأحكام فيها إهمال حكم ضروري مراعاة لحكم ضروري أهم منه.

فقد ثبت بالبرهان أن مقاصد الشارع مما شرعه من الأحكام، لا تعدو حفظ واحد من هذه الثلاثة أو ما يكمله، وأن هذه المقاصد مرتبة في مراعاتها حسب أهميتها، وعلى ترتيبها رتبت الأحكام التي شرعت لتحقيقها.

وعلى هذه القاعدة الأصولية التشريعية الأولى، وضعت المبادئ الشرعية الخاصة بدفع الضرر، والمبادئ الشرعية الخاصة برفع الحرج، وعن كل مبدأ من هذه المبادئ تفرعت عدة فروع، واستنبطت جملة أحكام.

وهذا بيان المبادئ الخاصة بدفع الضرر، وأمثلة مما تفرع على كل مبدأ منها:

1-

الضرر يزال شرعًا: من فروعه: ثبوت حق الشفعة للشريك أو الجار، وثبوت الخيار للمشتري في رد المبيع بالعيب وسائر أنواع الخيارات، والجبر على القسمة إذا امتنع الشريك. ووجوب الوقاية والتداوي من الأمراض. وقتل الضار من الحيوان. وتشريع العقوبات على الجرائم من حدود وتعازير وكفارات.

ص: 194

2-

الضرر لا يزال بالضرر: من فروعه: لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره. ولا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر.

3-

يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام: من فروعه: يقتل القاتل لتأمين الناس على نفوسهم. تقطع اليد لتأمين الناس على أموالهم. يهدم الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام. يحجز على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس. يباع مال المدين جبرا عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه. تسعر أثمان الحاجيات إذا غلا أربابها في أثمانها. يباع الطعام جبرا على مالكه إذا احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع من بيعه. يمنع اتخاذ حانوت حداد بين تجار الأقمشة.

4-

يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما: من فروعه: يحبس الزوج إذا ماطل في القيام بنفقة زوجته. يحبس القريب إذا امتنع عن الإنفاق على قريبه. وتطلق الزوجة للضرر وللإعسار. إذا اضطر المريض إلى تناول الميتة أو مال الغير تناوله. إذا عجز مريض الصلاة عن التطهير، أو ستر العورة أو استقبال القبلة صلى كما قدر؛ لأن ترك هذه الشروط أخف من ترك الصلاة.

5-

دفع المضر مقدم على جلب منافع: ولذا جاء في الحديث: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، ومن فروعه: يمنع أن يتصرف المالك في ملكه إذا كان تصرفه يضر بغيره. يكره للصائم أن يبالغ في المضمضة، أو الاشتنشاق.

6-

الضرورات تبيح المحظورات: من فروعه: من اضطر في مخمصة إلى ميتة أو دم أو أي محرم فلا إثم عليه في تناوله. من لم يستطع الدفاع عن نفسه إلا بالإضرار بغيره فلا إثم عليه في الدفاع به. من امتنع من أداء دينه يؤخذ الدين من ماله بغير إذنه.

7-

الضرورات تقدر بقدرها: من فروعه: ليس للمضطر أن يتناول من المحرم إلا قدر ما يسد الرمق. ولا يعفى من النجاسة إلا القدر الذي لا يمكن الاحتراز عنه، وأحكام الرخص تبطل إذا زالت أسبابها. فالتيمم يبطل إذا تيسر التطهر بالماء، والفطر يحرم في رمضان إذا أقام المسافر الصحيح، وكل ما جاز لعذر يبطل بزواله.

ص: 195

وهذا بيان المبادئ الخاصة برفع الحرج وأمثلة مما تفرع عنها:

1-

المشقة تجلب التيسر: من فروعه: جميع الرخص التي شرعها الله ترفيها وتخفيفا عن المكلف لسبب من الأسباب التي تقتضي هذا التخفيف.

وهذه الأسباب بالاستقراء سبعة:

السفر: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، وسقوط الجمعة، والجماعة، والتيمم.

المرض: ومن أجله أبيح الفطر في رمضان، والتيمم، والصلاة قاعدا، وتناول المحرم للعلاج.

الإكراه: ومن أجله أبيح للمكره التلفظ بكلمة الكفر، وترك الواجب وإتلاف مال الغير، وأكل الميتة، وشرب الخمر.

النسيان: ومن أجله رفع الإثم عمن ارتكب معصية ناسيا، ولم يبطل صوم من أكل في نهار رمضان أو شرب ناسيًا، ولم تحرم ذبيحة من ترك التسمية عليها عند ذبحها ناسيا.

الجهل: ومن أجله ساغ رد المبيع لمن اشتراه جاهلا بعيبه. وساغ فسخ الزواج بالعيب لمن تزوج جاهلا به، واغتفر التناقض في دعوى النسب للجهل. وكذلك اغتفر التناقض للوارث والوصي، وناظر الوقف للجهل.

عموم البلوى: ومن أجهله عفي عن رشاش النجاسات من طين الشوارع وغيره مما لا يمكن الاحتراز عنه. وعفي عن الغبن اليسير في المعاوضات.

النقص: ومن فرعه رفع التكليف عن فاقد الأهلية كالطفل والمجنون، ورفع بعض الواجبات عن الأرقاء وعن النساء؛ ولذا لا تجب عليهن الجمعة، ولا الجماعة ولا الجهاد.

2-

الحرج شرعا مرفوع: من فروعه: قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال من عيوب النساء وشئونهن، والاكتفاء بغلبة الظن دون التزام الجزم، والقطع في استقبال القبلة وطهارة المكان والماء والقضاء والشهادة، ومن فروعه ما قرروه من أنه إذا ضاق الأمر اتسع.

ص: 196

3-

الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات: من فروعه: الترخيص في السلم، وبيع الوفاء، والاستصناع، وضمان الدرك، وجواز الاستقراض بالربح للمحتاج، وغير ذلك مما فيه العقد أو التصرف على مجهول أو معدوم، ولكن قضت به حاجه الناس.

ومما يتفرع على هذا المبدأ حكم كثير من عقود المعاملات، وضروب الشركات التي تحدث بين الناس وتقتضيها تجارتهم. فإنه إذا قام البرهان الصحيح، ودل الاستقراء التام على أن نوعًا من هذه العقود، أو التصرفات صار حاجيا للناس بحيث ينالهم الحرج والضيق إذا حرم عليهم هذا النوع من التعامل، أبيح لهم قدر ما يرفع الحرج منه، ولو كان محظورا لما فيه من الربا أو شبهته. بناء على أن الحاجات تبيح المحظورات كالضرورات، وتقدر بقدرها كالضرورات.

قال صاحب الأشباه والنظائر: "ومن ذلك الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى، وهكذا بمصر، وقد سموه بيع الأمانة.... وفي القنية والبغية: يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح".

ص: 197