الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثالثة: فيما يسوغ الاجتهاد فيه
"لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي".
الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين:
هو بذل الجهد للوصول إلى الحكم الشرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية.
فإن كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد دل على الحكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الورود والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها، والواجب أن ينفذ فيها ما دل عليه النص؛ لأنه ما دام قطعي الورود فليس ثبوته وصدوره عن الله أو رسوله موضع بحث وبذل جهد. وما دام قطعي الدلالة، فليست دلالته على معناه واستفادة الحكم منه موضع بحث واجتهاد. وعلى هذا فآيات الأحكام المفسرة التي تدل على المراد منها دلالة واضحة، ولا تحتمل تأويلا يجب تطبيقها. ولا مجال للاجتهاد في الوقائع التي تطبق فيها. ففي قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} لا مجال للاجتهاد في عدد الجلدات. وكذلك في كل عقوبة أو كفارة مقدرة. وفي قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، بعد أن فسرت السنة العملية المراد من الصلاة أو الزكاة، لا مجال للاجتهاد في تعرف المراد من أحدهما. فما دام النص صريحا مفسرا بصيغته أو بما ألحقه الشارع به من تفسير وبيان، فلا مساغ للاجتهاد فيما ورد فيه. ومثل هذه الآيات القرآنية المفسرة للسنن المتواترة والمفسرة، كحديث الأموال الواجبة فيها الزكاة ومقدار النصاب من كل مال منها، ومقدار الواجب فيه.
أما إذا كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد ورد فيها نص ظني الورود والدلالة أو أحدهما ظني فقط ففيهما للاجتهاد مجال؛ لأن المجتهد عليه أن يبحث في الدليل الظني الورود من حيث سنده، وطريق وصوله إلينا عن الرسول ودرجة رواته من العدالة والضبط والثقة والصدق، وفي هذا يختلف تقدير المجتهدين للدليل، فمنهم من يطمئن إلى روايته ويأخذ به، ومنهم من لا يطمئن إلى روايته ولا يأخذ به. وهذا باب من الأبواب التي اختلف من أجلها المجتهدون في كثير من الأحكام العملية.
فإذا أداه اجتهاده في سند الدليل إلى الاطمئنان لروايته، وصدق رواته، اجتهد في معرفة ما يدل عليه الدليل من الأحكام، وما يطبق فيه من الوقائع؛ لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى، ولكنه ليس هو المراد، وقد يكون عاما، وقد يكون مطلقا، وقد يكون على صيغة الأمر أو النهي، فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول، وأن العام باق على عمومه أو هو مخصص، وكذلك المطلق على إطلاقه أو هو مقيد، والأمر للإيجاب أو لغيره، والنهي للتحريم أو لغيره، وهاديه في اجتهاده القواعد الأصولية اللغوية، ومقاصد الشارع ومبادئه العامة، وسائر نصوصه التي بينت أحكاما، وبهذا يصل إلى أن النص يطبق في هذه الواقعة أو لا يطبق.
وكذلك إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها أصلا، ففيها مجال متسع للاجتهاد؛ لأن المجتهد يبحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس، أو الاستحسان أو الاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة. فالخلاصة أن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلا؛ وما فيه نص غير قطعي، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي.
وعلى هذا أصول التقنين الوضعي، فقد جاء في كتاب أصول القوانين: الأصل أنه ما دام القانون صريحًا فلا يجوز تأويله وتغيير نصوصه، بناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيير، حتى لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غير عادل؛ لأن مرجع ذلك أن المشرع نفسه، ومأمورية القاضي قاصرة على الحكم بمقتضى القانون لا الحكم على القانون.
وجاء في المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية أنه: "إن لم يوجد نص صريح بالقانون يحكم بمقتضى قواعد العدل"، فما دام في القانون نص صريح، فهو وحده الذي يقضى به.
الأهلية للاجتهاد:
بعد أن بينا ما فيه مجال للاجتهاد، وما ليس فيه مجال نبين من يكون أهلا للاجتهاد.
يشترط لتحقيق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة:
الأول: أن يكون الإنسان على علم باللغة العربية، وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليب ونسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة
الاطلاع على آدابها وآثار فصاحتها من شعر ونثر وغيرهما؛ لأن أول وجهة للمجتهد هي النصوص في القرآن والسنة، وفهمها كما يفهمها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، وتطبيق القواعد الأصولية اللغوية في استفادة المعاني من العبارات والمفردات.
الثاني: أن يكون على علم بالقرآن، والمراد أن يكون عليما بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن، وبالآيات التي نصت على هذه الأحكام، وبطرق استثمار هذه الأحكام من آياتها، بحيث إذا عرضت له واقعة كان ميسورا له أن يستحضر كل ما ورد في موضوع هذه الواقعة من آيات الأحكام في القرآن، وما صح من أسباب نزول كل آية منها، وما ورد في تفسيرها وتأويلها من آثار، وعلى ضوء هذا يستنبط حكم الواقعة.
وآيات الأحكام في القرآن ليست كثيرة، وقد خصها بعض المفسرين بتفسير خاص. ومن الممكن أن تجمع الآيات المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع في مجموعة واحدة إلى كل الآيات القرآنية التي تضمنت أحكامًا في الطلاق، وكل الآيات التي تضمنت أحكاما في الزواج، وفي الإرث، وفي العقوبات، وفي المعاملات، وفي غير ذلك من أنواع أحكام القرآن.
ومن الميسور أن يذكر مع كل آية ما ورد في الصحاح من سبب نزولها، وما ورد من الأحاديث التي فيها تبيين لمجملها، وما ورد من الآثار في تفسيرها؛ وبهذا تكون المجموعة القانونية في القرآن ميسورا الرجع إليها عند الحاجة، وميسورا مقارنة مواد الموضوع الواحد بعضها ببعض، وفهم كل مادة على ضوء سائر موضوعها؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، ومن الخطأ أن تفهم آية منه على أنها وحدة مستقلة.
الثالث: أن يكون على علم بالسنة كذلك، بأن يكون عليما بالأحكام الشرعية التي وردت بها السنة النبوية بحيث يستطيع في كل باب من أبواب أعمال المكلفين أن يستحضر ما ورد في السنة من أحكام هذا الباب، ويعرف درجة سند هذه السنة من الصحة أو الضعف في الرواية، ولقد أدى العلماء للسنة النبوية خدمات جليلة، وعنوا بفحص أسانيدها ورواة كل حديث منها، حتى كفوا من جاء بعدهم مئونة البحث في الأسانيد، وصار معروفًا في كل حديث أنه متواتر، أو مشهور، أو صحيح، أو حسن، أو ضعيف.
وكذلك عني العلماء بجمع أحاديث الأحكام، وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال المكلفين، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع إلى ما ورد في السنة الصحيحة من أحكام البيع، أو الطلاق أو الزواج أو العقوبات أو غيرها. ويستطيع أن يرجع إلى الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع واحد من موضوعات الأحكام؛ وعلى ضوئها يفهم الحكم الشرعي، ومن خير الكتب التي يرجع إليها في هذا "كتاب نيل الأوطار" للإمام الشوكاني.
الرابع: أن يعرف وجوه القياس. وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي شرعت من أجلها الأحكام، ويعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل أحكامه، ويكون خبيرًا بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم، حتى يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيرًا أيضا بمصالح الناس وعرفهم؛ وما يكون ذريعة إلى الخير والشر فيهم، حتى إذا لم يجد في القياس سبيلا إلى معرفة حكم الواقعة، سلك سبيلا أخرى من السبل التي مهدتها الشريعة الإسلامية للوصول إلى استنباط الحكم فيما لا نص فيه.
ومما ينبغي التنبيه إليه أمور ثلاثة:
أحدها: أن الاجتهاد لا يتجزأ، أي أنه لا يتصور أن يكون العالم مجتهدا في أحكام الطلاق وغير مجتهد في أحكام البيع، أو مجتهدا في أحكام العقوبات، وغير مجتهد في أحكام العبادات؛ لأن الاجتهاد -كما يؤخذ مما قدمناه- أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص، واستثمار الأحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه. فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور أن يقتدر بها في موضوع دون آخر، نعم يتصور أن يكون المرء عالمًا متخصصًا في المدنيات دون العقوبات أو في العقوبات دون المدنيات، ولكن لا يتصور أن يكون قادرًا على الاجتهاد في هذا الموضوع من الأحكام دون هذا؛ ولأن عماد المجتهد في اجتهاده فهم المبادئ العامة وروح التشريع التي بثها الشارع في مختلف أحكامه وبنى عليه تشريعه، وهذه الروح التشريعية والمبادئ العامة لا تخص بابا دون باب من أبواب الأحكام. وفهمها حق فهمها لا يتم إلا بأقصى ما يستطاع من استقراء الأحكام الشرعية وحكمها في مختلف الأبواب. وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأ، أو تعليلًا تقرر في أحكام البيع. فلا يكون
مجتهدًا إلا إذا كان على علم تام بأحكام القرآن، والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض، ومن مبادئها العامة إلى الاستنباط الصحيح.
وثانيها: أن المجتهد مأجور؛ إن أصاب فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الصواب، وإن أخطأ فله أجر واحد في اجتهاده؛ لأننا قدمنا أن الله سبحانه ما ترك الناس سدى، بل شرع لكل فعل من أفعال المكلفين حكما، ونصب لكل حكم دليلا يدل عليه. وطلب من أهل النظر في هذه الأدلة أن ينظروا فيها ليهتدوا إلى حكمه. فمن توافرت فيه أهلية النظر فيها؛ واجتهد حتى وصل إلى الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، فهو مأجور على هذا الاجتهاد، وواجب عليه أن يعمل في قضائه، وإفتائه بما أداه إليه اجتهاده؛ لأنه حكم الله حسب ظنه الراجح. والظن الراجح كما قدمنا، كاف في وجوب العمل. ولا يجب على غيره أن يقلده في العمل بما وصل إليه اجتهاده؛ لأن قول أي إنسان بعد الرسول المعصوم ليس حجة واجبا اتباعه على أي مسلم، وإنما يجوز للعامة الذي ليست لهم ملكة الاجتهاد، واستثمار الأحكام من نصوصها، أن يتبعوا المجتهدين، ويقلدوهم مصداق قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وثالثها: إن الاجتهاد لا ينقض بمثله، فلو اجتهد في واقعة وحكم فيها بالحكم الذي أداه إليه اجتهاده، ثم عرضت عليه صورة من هذه الواقعة فأداه اجتهاده إلى حكم آخر، فإنه لا يجوز له نقض حكمه السابق، كما لا يجوز لمجتهد آخر خالفه في اجتهاده أن ينقض حكمه؛ لأنه ليس الاجتهاد الثاني بأرجح من الأول، ولا اجتهاد أحد المجتهدين أحق أن يتبع من اجتهاد الآخر؛ ولأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد يؤدي إلى ألا يستقر حكم وإلى ألا تكون للشيء المحكوم به قوة. وفي هذا مشقة وحرد، وقد ورد أن عمر بن الخطاب قضى في حادثة بقضاء؛ ثم تغير اجتهاده فلم ينقض ما قضى به أولا، بل قضى في مثل هذه الحادثة بالحكم الآخر الذي أداه إليه اجتهاده الثاني وقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. وقد قضى أبو بكر في مسائل وخالفه بعده عمر فيها، ولم ينقض حكمه. وعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم قول عمر بن الخطاب في عهده لأبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء:"لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".