الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: في الأحكام الشرعية
1-
الحاكم:
1-
من هو؟
2-
بم يعرف حكمه؟
لا خلاف بين علماء المسلمين، في أن مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين هو الله سبحانه، سواء أظهر حكمه في فعل المكلف مباشرة من النصوص التي أوحى بها إلى رسوله، أم اهتدى المجتهدون إلى حكمه في فعل المكلف، بواسطة الدلائل، والأمارات التي شرعها لاستنباط أحكامه، ولهذا اتفقت كلمتهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا. واشتهر من أصولهم "لا حكم إلا لله"، وهذا مصداق قوله سبحانه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} .
وإنما اختلف علماء المسلمين في أن أحكام الله في أفعال المكلفين، هل يمكن للعقل أن يعرفها بنفسه من غير وساطة رسل الله، وكتبه بحيث إن من لم تبلغه دعوة رسول يستطيع أن يعرف حكم الله في أفعاله بعقله أم لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه؟ فلا خلاف في أن الحاكم هو الله، وإنما الخلاف فيما يعرف به حكم الله.
ولعلماء المسلمين في هذا الخلاف مذاهب ثلاثة:
1-
مذهب الأشاعرة:
أتباع أبي الحسن الأشعري، وهو أنه: لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين إلا بواسطة رسله وكتبه؛ لأن العقول تختلف اختلافا بينا في الأفعال، فبعض العقول يستحسن بعض الأفعال، وبعضها يستقبحها، بل عقل الشخص الواحد يختلف في الفعل الواحد، وكثيرا ما يغلب الهوى على العقل فكون التحسين أو التقبيح بناء على الهوى، فعلى هذا لا يمكن أن يقال: ما رآه العقل حسنا فهو حسن عند الله ومطلوب لله فاعله، ويثاب عليه من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو قبيح عند الله ومطلوب لله تركه، ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب؛ أن الحسن من أفعال المكلفين هو ما دل الشارع على أنه حسن بإباحته، أو طلب فعله، والقبيح هو ما دل الشارع على أنه قبيح بطلبه
تركه، وليس الحسن ما رآه العقل حسنا ولا القبيح ما رآه العقل قبيحًا. فمقياس الحسن والقبح في هذا المذهب هو الشرع لا العقل، وهذا يتفق وما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو القانون، فما أوجبه القانون أو أباحه فهو خير، وما حظره فهو شر.
وعلى هذا المذهب لا يكون الإنسان مكلفًا من الله بفعل شيء، أو ترك شيء إلا إذا بلغته دعوة الرسول، وما شرعه الله. ولا يثاب أحد على فعل شيء ولا يعاقب على ترك أو فعل، إلا إذا علم من طريق رسل الله ما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه، فمن عاش في عزلة تامة بحيث لم تبلغه دعوة رسول، ولا شرعه فهو غير مكلف من الله بشيء ولا يستحق ثوابًا وعقابًا. وأهل الفترة -وهم من عاشوا بعد موت رسول الله وقبل مبعث رسول- غير مكلفين بشيء ولا يستحقون ثوابا ولا عقابا. ويؤيد المذهب قوله سبحانه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .
2-
مذهب المعتزلة:
أتباع واصل بن عطاء وهو أنه يمكن أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسله وكتبه؛ لأن كل فعل من أفعال المكلفين فيه صفات وما يترتب عليه من نفع أو ضرر أن يحكم بأنه حسن أو قبيح، وحكم الله سبحانه على الأفعال هو على حسب ما تدركه العقول من نفعها أو ضرها، فهو سبحانه يطالب المكلفين بفعل ما فيه نفعهم حسب إدراك عقولهم؛ وبترك ما فيه ضررهم حسب إدراك عقولهم، فما رآه العقل حسنا فهو مطلوب لله ويثاب من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو مطلوب لله تركه ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب أن الحسن من الأفعال ما رآه العقل حسنا لما فيه من نفع، والقبيح من الأفعال ما رآه العقل قبيحا لما فيه من الضرر، وأن أحكام الله في أفعال المكلفين هي على وفق ماتدركه عقولهم فيها من حسن أو قبح، وهذا المذهب يتفق، وما ذهب إليه أكثر علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو ما يدرك في الفعل من نفع أو ضرر لأكبر مجموعة من الناس يصل إليهم أثر الفعل.
وعلى هذا المذهب فممن لم تبلغهم دعوة الرسل، ولا شرائعهم فهم مكلفون من الله بفعل ما يهديهم عقلهم إلى أنه حسن ويثابون من الله على فعله، وبترك ما يهديهم عقلهم إلى أنه قبيح ويعاقبون من الله على فعله. وأصحاب هذا المذهب
يؤيدونه بأنه لا يستطيع عاقل أن ينكر أن كل فعل فيه خواص، وله آثار تجعله حسنا أو قبيحا. ومن الذي لا يدرك بعقله أن الشكر على النعمة والصدق والوفاء، والأمانة كل منها حسن، وأن ضد كل منها قبيح. ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن الله ما شرع أحكامه في أفعال المكلفين إلا بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، ويقولون: إن من بلغتهم شرائع الله مكلفون من الله بما تقضي به هذه الشرائع ومن لم تبلغهم شرائع الله مكلفون من الله بما تهديهم إليه عقولهم، فعليهم أن يفعلوا ما تستحسنه عقولهم، وأن يتركوا ما تستقبحه عقولهم.
3-
مذهب الماتريدية:
أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا المذهب وسط معتدل وهو الراجح في رأيى، وخلاصته أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، وأن العقل بناء على هذه الخواص والآثار يستطيع الحكم بأن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحا فهو قبيح. ولكن لا يلزم أن تكون أحكام الله في أفعال المكلفين على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح؛ لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ؛ ولأن بعض الأفعال مهما تشتبه فيه العقول فلا تلازم بين أحكام الله وما تدركه العقول، وعلى هذا لا سبيل إلى معرفة حكم الله إلا بواسطة رسله. فهؤلاء وافقوا المعتزلة في أن حسن الأفعال، وقبحها مما تدركه العقول بناء على ماتدركه من نفعها أو ضررها، وخالفوهم في أن حكم الله لا بد أن يكون على وفق حكم العقل، وفي أن ما أدرك العقل حسنه هو مطلوب لله فعله، وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب لله تركه. ووافقوا الأشاعرة في أنه لا يعرف حكم الله إلا بواسطة رسله وكتبه. وخالفوهم في أن الحسن والقبح للأفعال شرعيان لا عقليان. وفي أن الفعل لا يكون حسنا إلا بطلب الله فعله. ولا يكون قبيحًا إلا بطلب الله تركه؛ لأن هذا ظاهر البطلان. فإن أمهات الفضائل يدرك العقل حسنها لما فيها من نفع، وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها لما فيها من ضرر ولو لم يرد بهذا شرع.
وهذا الخلاف لا يترتب عليه أثر إلا بالنسبة لمن لم تبلغهم شرائع الرسل، وأما من بلغتهم شرائع الرسل، فمقياس الحسن والقبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق. فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله. وما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله.