الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثالث: في القواعد الأصولية اللغوية
تمهيد:
نصوص القرآن والسنة باللغة العربية. وفهم الأحكام منها إنما يكون فهما صحيح إذا روعي فيه مقتضى الأساليب في اللغة العربية وطرق الدلالة فيها، وما تدل عليه ألفاظها مفردة ومركبة، ولهذا عنى علماء أصول الفقه الإسلامي، باستقراء الأساليب العربية وعباراتها ومفرداتها، واستمدوا من هذا الاستقراء ومما قرره علماء هذه اللغة قواعد وضوابط، يتوصل بمراعاتها إلى فهم الأحكام من النصوص الشرعية فهما صحيحًا، يطابق ما يفهمه منها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، ويتوصل بها أيضا إلى إيضاح ما فيه خفاء من النصوص، ورفع ما يقد يظهر بينها من تعارض، وتأويل ما دل دليل على تأويله، وغير هذا مما يتعلق باستفادة الأحكام من نصوصها.
وهذه القواعد والضوابط اللغوية مستمدة من استقراء الأساليب العربية، ومما قرره أئمة اللغة العربية، وليست لها صبغة دينية. فهي قواعد لفهم العبارات فهما صحيحًا، ولهذا يتوصل بها أيضا إلى فهم مواد أي قانون وضع باللغة العربية؛ لأن مواد القوانين الوضعية المصوغة باللغة العربية، هي مثل النصوص الشرعية في أنها جميعها عبارات عربية مكونة من مفردات عربية، ومصوغة في الأسلوب العربي، ففهم المعاني والأحكام منها يجب أن يسلك فيه السبيل العربي في فهم العبارات والمفردات والأساليب.
وليس من السائغ قانون ولا عقلا أن يسن الشارع قانونا من القوانين بلغة، ويتطلب من الأمة أن تفهم ألفاظ مواده وعباراتها، على مقتضى أساليب وأوضاع لغة أخرى؛ لأن شرط صحة التكليف بالقانون قدرة المكلفين به على فهمه. ولهذا يوضع القانون في الأمة بلسانها، وبلغة جمهور أفرادها، ليكون في استطاعتهم فهم الأحكام منه بأساليب الفهم في لغتهم، ولا يكون القانون حجة على الأمة إذا وضع بغير لغتها أو كان طريق فهمه غير طريق فهم اللغة التي وضع بها، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .
وعلى هذا فالقواعد والضوابط التي قررها علماء أصول الفقه الإسلامي في طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وفيما يفيد العموم من الصيغ، وفيما يدل عليه العام والمطلق والمشترك، وفيما يحتمل التأويل وما لا يحتمل التأويل، وفي أن
العبوة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي أن العطف يقتضي المغايرة، وأن الأمر المطلق يقتضي الإيجاب، غير ذلك من ضوابط فهم النصوص، واستثمار الأحكام منها؛ كما تراعى في فهم النصوص الشرعية، تراعى في فهم نصوص القانون المدني والتجاري، وقانون المرافعات والعقوبات وغيرها من قوانين الدولة الموضوعة باللغة العربية طبقا للمادة 149 من الدستور "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية".
ولا يقال: إن بعض هذه القوانين معربة عن أصل فرنسي، وواضع الأصل ما عرف أساليب اللغة العربية في الفهم، ولا قصد أن تفهم مواده على وفقها؛ لأننا نقول: إن القانون الذي كلفنا به صيغ باللغة العربية واعتبر صادرا عمن يفهم الأساليب العربية، ولا يستقيم التكليف به إلا إذا قصد فهمه على وفق أساليب اللغة التي صيغ بها، ولا عبرة بأساليب اللغة التي نقل عنها، وعلى هذا إذا تعارض النص العربي وأصله الفرنسي، ولم يمكن التوفيق بينهما يعمل بمقتضى النص العربي؛ لأن الناس لا يكلفون إلا بما يفهمون وهو ما نشر بينهم1.
نعم إذا كان النص العربي يحتمل أن يفهم على وجهين، وألفاظه تحتمل الدلالة على معنيين، ساغ الاستدلال بالأصل الفرنسي على ترجيح أحد المعنيين واختيار أحد الوجهين، كما يستدل على هذا بأية قرينة. وإذا كان في أصول القانون الوضعي أو في العرف التجاري اصطلاح خاص بدلالة بعض الأساليب على أحكام، أو بدلالة بعض الألفاظ على معان، أو بإزالة بعض أنواع الخفاء بطرق خاصة، يتبع في فهم مواد القانون ما يقضي به الاصطلاح والعرف القانونيات، لا ما تقضي به الأوضاع اللغوية.
ولهذا قرر علماء أصول الفقه أن الألفاظ التي استعملت في معان عرفية شرعية، كالصلاة والزكاة والطلاق تفهم في النصوص بمعانيها العرفية لا بمعانيها اللغوية؛ لأن المقنن يراعي في تعبيره عرفه الخاص، فإذا لم يكن له عرف خاص يراعي العرف اللغوي العام.
1 على هذا سارت محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 30 يناير سنة 1929 محتجة بأن القانون لا يكون قانونا إلا إذا نشر بين الأفراد، ونشره يكون باللغتين العربية والفرنسية، وجمهور الأفراد يجهل الغة الفرنسية، فيتحتم الأخذ بالنص العربي، وبأن لغة المناقشة في القوانين هي اللغة العربية "مجلة المحاماة ص529 السنة التاسعة"، ولا يصح الأخذ بالنص الفرنسي كما ذهبت إليه محكمة استئناف مصر في حكمها الصادر في 29 ديسمبر سنة 1924 محتجة بأنه هو الأصل الذي وضعت به المادة، فضلا عن أن اللغة الفرنسية هي لغة القانون "مجلة المحاماة ص805 السنة السادسة"؛ لأن هذا فيه تكليف الناس بما لا يفهمون، ومخاطبتهم بلغة على أن يفهموها بمقتضى لغة أخرى.