الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال
تمهيد:
أولاً: الإسناد وأهميته:
أ- تعريف الإسناد:
قال الحافظ بدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ) :
"السند: هو الإخبار عن طريق المتن، وهو مأخوذ:
إما من السند وهو ما ارتفع وعلا من سفح الجبل لأن المسند - بكسر النون - يرفعه إلى قائله.
أو من قولهم: فلان سند أي معتمد، فسمي الإخبار عن طريق المتن سنداً لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه.
وأما الإسناد فهو رفع الحديث إلى قائله، والمحدثون يستعملون السند والإسناد لشيء واحد".
وقال: "وقبله المتن: فهو في اصطلاح المحدثين ما ينتهى إليه غاية السند من الكلام، وهو مأخوذ إما من المماتنة وهي المباعدة في الغاية لأن المتن غاية السند، أو من المتن وهو ما صلب وارتفع من الأرض، أو من تمتين القوس بالعصب وهو شدها به وإصلاحها" 1 اهـ. بتصرف يسير.
وقال الحافظ الحسين بن عبد الله الطيبي (ت 743 هـ) :
1المنهل الروي لابن جماعة (ص: 29 - 30) .
"والسند: إخبار عن طريق المتن، من قولهم فلان سند أي معتمد، فسمي سنداً لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه".
والإسناد: رفع الحديث إلى قائله. فعلى هذا السند والإسناد يتقاربان في معنى الاعتماد".
وقال قبله: "المتن: هو ما اكتنف الصلب من الحيوان وبه شبه المتن من الأرض، ومَتُنَ الشيءُ قَوِيَ متنُه، ومنه حبل متين، فمتنُ كل شيء ما يتقوم به ذلك الشيء، كما أن الإنسان يتقوم بالظهر ويتقوى به.
فمتن الحديث ألفاظه التي تتقوم بها المعاني.
واختلف في متن الحديث، أهو قول الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا أو هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، والأول أظهر لما تقرر من أن السنة إما قول أو فعل أو تقرير". 1 اهـ.
ب: أهمية الإسناد:
للإسناد مكانته وأهميته في الإسلام، إذ الأصل في ذلك تلقي الأمة لهذا الدين عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وهم تلقوه عن رسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تلقى عن رب العزة والجلال
1الخلاصة في أصول الحديث (ص: 30)، وانظر: تدريب الراوي (1 / 41 - 42)، ونزهة النظر (ص: 19، 25 - 53) ، وفتح المغيث للسخاوي (1 / 14)، وانظر: مادة "سند" من صحاح الجوهري (2 / 479) ، وتاج العروس للزبيدي (2 / 381 - 382) .
بواسطة أو بغير واسطة كما هو معلوم من أقسام الوحي.
وكذلك ما صح عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَسْمَعُون ويُسْمَع مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ". 1
وللدلالة على أهمية ومكانة الإسناد من الإسلام، أذكر فيما يلي طائفة من أقوال السلف رحمهم الله:
1-
روى الإمام مسلم بسنده عن محمد بن سيرين قال: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". 2
2-
وبإسناده إلى محمد بن سيرين أيضاً قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".3 وذلك لأن الإسناد وسيلة لتمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة مما يترتب عليه معرفة أحكام أو تعاليم الدين.
1أخرجه أبو داود في كتاب العلم من السنن باب فضل نشر العلم (ح 3659) ، وأخرجه الإمام أحمد كلاهما بسند صحيح، المسند (4 / 340) ح 2947، تحقيق الشيخ أحمد شاكر، وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص: 60) وقال: "لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أربع طباق في رواة الحديث وهذه الخامسة التي نحن فيها على ما وصفه".
وأخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص: 37 - 38)، من طريقين يقوي أحدهما الآخر وعنون له بقوله:"بشارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بكون طلبة الحديث بعده واتصال الإسناد بينهم وبينه".
2مقدمة صحيح الإمام مسلم (1 / 15) ، وروى هذا القول مسلم أيضاً عن ابن المبارك، وانظر: المحدث الفاصل (ص: 209) .
3مقدمة صحيح مسلم (1 / 14)، وانظر: المحدث الفاصل (ص: 414) .
3-
وأخرج مسلم أيضاً بإسناده إلى الإمام عبد الله بن المبارك أنه قال: "بيننا وبين القوم القوائم" يعني الإسناد. 1
4-
وأخرج ابن حبان عن سفيان الثوري قال: "الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن معه سلاح فبأيِّ شيءٍ يقاتل". 2
5-
وبإسناده إلى شعبة قال: "كل حديث ليس فيه (حدثنا) و (أخبرنا) فهو مثل الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام". 3
6-
أخرج الخطيب بسنده إلى أبي بكر محمد بن أحمد (ت 331 هـ) قال: "بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها مَنْ قبلها من الأمم: الإسناد والأنساب والإعراب". 4
7-
وقال الحافظ السيوطي: قال أبو علي الحسين بن محمد الجياني الغساني (ت 498 هـ) : "خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها مَنْ قبلها: الإسناد والأنساب والإعراب". 5
8-
وقال الحافظ أبو محمد بن حزم (ت 456 هـ) :
"نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال، نقل خص الله عز وجل به المسلمين، دون سائر أهل الملل كلها. وأما مع الإرسال والإعضال فمن هذا النوع كثير من نقل اليهود بل هو أعلى
1مقدمة صحيح مسلم (1 / 15) .
2مقدمة المجروحين لابن حبان (1 / 27)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (ص: 24) .
3مقدمة المجروحين (1 / 27) .
4شرف أصحاب الحديث (ص: 40) .
5تدريب الراوي (1/159 - 160) .
ما عندهم إلا أنهم لا يقربون فيه من موسى عليه السلام كقربنا فيه من محمد صلى الله عليه وسلم
…
وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وحده فقط على أن مخرجه من كذَّاب قد صحَّ كذبه، ثم قال: وأما النقل بالطريق المشتملة على كذَّاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى" اهـ ملخصاً. 1
9-
وقال أبو حاتم الرازي رحمه الله (ت 277 هـ) :
"لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة".
فقال له رجل: يا أبا حاتم ربما رووا حديثاً لا أصل له ولا يصح.
فقال: "علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها"، ثم قال:"رحم الله أبا زرعة كان والله مجتهداً في حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم". 2
10-
روى الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) بإسناده إلى أبى العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: "إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها
1الفصل (2 / 219 - 223)، فصل:"كيف تم نقل القرآن وأمور الدين.." وهو فصل مهم جداً في هذا الباب.
2شرف أصحاب الحديث (ص: 42 - 43) .
بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمهم وحديثهم إسناد، وإنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم، وتمييز بين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات.
وهذه الأمة إنما تَنُصّ الحديث من الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة.
ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهاً وأكثر حتى يهذّبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدّوه عداً، فهذا من أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة نستوزع الله شكره هذه النعمة ونسأله التثبيت والتوفيق لما يُقرب منه ويُزْلف لديه، ويمسكنا بطاعته إنه ولي حميد.
فليس أحد من أهل الحديث يحابي في الحديث أباه ولا أخاه ولا ولده، وهذا علي بن عبد الله المديني - وهو إمام الحديث في عصره -، لا يُروى عنه حرف واحد في تقوية أبيه بل يُروى ضد ذلك، فالحمد لله على ما وفقنا ". 1
11-
وقال أبو عبد الله الحاكم ت (405 هـ) : "فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والبدع منه بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرَّت عن وجود الأسانيد فيها كانت بُتْراً".
1شرف أصحاب الحديث (ص: 40 - 41) .
ثم ذكر بإسناده إلى عتبة بن أبي حكيم أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري، قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، ألا تسند حديثك تحدثنا بأحاديث ليس لها خُطُم ولا أزمة". 1
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية (ت 728 هـ) :
"وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله سلماً إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم" 2اهـ.
ثانياً: بدء استعمال الإسناد والسؤال عنه:
تقدم في الفقرة السابقة عند الكلام عن أهمية الإسناد أن الأصل في ذلك تلقي الأمة الدين كله عن الصحابة وهم تلقوه عن رسول الله وهو تلقاه عن رب العزة والجلال.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي (ت 748 هـ) : في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: وكان أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب: "أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد في كتاب الله شيئاً وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر
1معرفة علوم الحديث (ص: 6)، والكفاية (ص: 555 - 556) .
2مجموع الفتاوى (1/9) .
لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر". 1
وقال في ترجمة عمر رضي الله عنه:
"وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب".
"فروى الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت فلم يؤذن فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اسْتأذَنَ أَحَدكُمْ ثَلاثاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ"، فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك". 2
وقال الحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) : "فقد جاء في بعض طرقه أن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا
1تذكرة الحفاظ (1 / 2) ، وقد وردت هذه القصة من أكثر من عشرين طريقاً كلها تنتهي إلى قبيصة، وهو لم يدرك أبا بكر، فتكون القصة مرسلة، لكنها مشهورة معروفة عند العلماء والله تعالى أعلم.
2تذكرة الحفاظ (1 / 6) ، والحديث بهذا اللفظ رواه البخاري في كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثاً.
يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". 1
وقال الحافظ أبو حاتم بن حبان (ت 354 هـ) :"وتبع عمر على ذلك التثبت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه باستحلاف من يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا ثقات مأمونين ليعلمهم توقي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ثم قال: "وهذان أول من فتش عن الرجال في الرواية وبحثا عن النقل في الأخبار ثم تبعهما الناس على ذلك
…
وتشديدهم فيها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم ذلك توقياً للكذب عليه ممن بعدهم لا أنهم كانوا متهمين في الرواية". 2
هذه النصوص تدل دلالة واضحة على أن التحري والتوقي في رواية الحديث والسؤال عن الإسناد قد بدأ في فترة مبكرة، لكن كثرة السؤال عن الإسناد والتفتيش عنه ازدادت بعد وقوع فتنة عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه في آخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم يزل استعمال الإسناد ينتشر ويزداد السؤال عنه مع انتشار أصحاب الأهواء بين المسلمين وكثرة الفتن التي قد تحمل على الكذب حتى أصبح الناس لا يقبلون حديثاً بدون إسناد حتى يعرف رواته ويعرف حالهم.
وفيما يلي من النصوص دلالة واضحة على ذلك:
1-
روى الإمام مسلم بإسناده إلى مجاهد قال: "جاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال:
1الفتح (11 / 26) ح 6245.
2مقدمة المجروحين (1 / 38) .
يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع، فقال: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف". 1
2-
وروى بسنده أيضاً إلى محمد بن سيرين قال:
"لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". 2
3-
وعن يعقوب بن شيبة قال: "سمعت علي بن المديني يقول: كان محمد بن سيرين ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد، لا نعلم أحداً أول منه
…
". 3
4-
روى الإمام أحمد عن جابر بن نوح قال:
"أخبرنا الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إنما سُئل عن الإسناد أيام المختار". 4
1مقدمة صحيح الإمام مسلم (1 / 13) .
2مقدمة صحيح الإمام مسلم (1 / 15) .
3شرح علل الترمذي لابن رجب (1 / 52) .
4العلل للإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (3 / 380) فقرة 5673.
والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي لأبيه صحبة، ولد سنة الهجرة وليس له صحبة، خرج على أولاد علي بن أبي طالب وانضم إلى عبد الله بن الزبير في أول أمره ثم تظاهر بعد ذلك بالمطالبة بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، ثم ادعى في آخر أيامه أن الوحي ينزل عليه، وإليه تنسب فرقة المختارية المتفرعة من الكيسانية التي تقول بأن الإمام بعد علي رضي الله عنه ابنه محمد بن الحنفية، وأنه حي وسيظهر في آخر الزمان، ويغلو بعضهم فيزعم ألوهيته، وقد قتل المختار على يد مصعب بن الزبير سنة (67 هـ) .
انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص: 94) ، لسان الميزان (6 / 6 - 7) .
5-
وروى الحافظ أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي (ت 360 هـ) بسنده إلى الإمام الشعبي عن الربيع بن خثيم قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد فله كذا وكذا، قال الشعبي: فقلت: من حدَّثك قال: عمرو بن ميمون، فلقيت عمرو ميمون وقلت: من حدَّثك فقال: أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى بن سعيد القطان: وهذا أول ما فتش عن الإسناد. 1
6-
وروى ابن أبي حاتم بإسناده إلى خالد بن نزار قال: سمعت مالكاً يقول: "أول من أسند الحديث ابن شهاب الزهري"(ت 124 هـ) . 2
1المحدث الفاصل (ص: 208) ، التمهيد لابن عبد البر (1 / 55) .
2تقدمة الجرح والتعديل (1 / 20) .
وقد علل شيخنا الأستاذ الدكتور / أكرم العمري كلام الإمام مالك فقال:
"وبسبب تأكيد الزهري على الإسناد والتزامه به قال مالك: "إن أول من أسند الحديث الزهري"، ولعله قصد بذلك في بلاد الشام، فقد "ذكر الوليد بن مسلم أن الزهري قال: يا أهل الشام ما لي أرى أحاديثكم ليس لها أزمة ولا خطم وتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ". سير أعلام النبلاء (5 / 334) .
وتوجيه الكلام إلى أهل الشام يوحي بأن التزام الإسناد في مراكز العلم الأخرى كان أكثر بحيث بدا أهل الشام متساهلين في ذلك، فنبههم الزهري إلى تقصيرهم فأصبحوا يسندون أحاديثهم، ولا يعني هذا أن الإسناد لم يكن موجوداً قبل الزهري، فقد كان بدء السؤال عن الإسناد في عهد الصحابة ثم عند كبار التابعين لكنه في جيل الزهري أصبح الالتزام بالإسناد قوياً". بحوث في تاريخ السنة المشرفة (ص: 50 - 51) .
ثالثاً: ظهور علم الرجال وبدء التصنيف فيه:
كان ظهور علم الرجال نتيجة لتطور استعمال الإسناد وانتشاره وكثرة السؤال عنه، وكلما تقادم الزمن كثرت الوسائط في الأسانيد وطالت، فاحتيج إلى بيان أحوال تلك الوسائط والتمييز بينها ولاسيما مع ظهور البدع والأهواء وكثرة أصحابها، لذلك نشأ علم الرجال الذي هو ميزة لهذه الأمة على سائر الأمم، وقد جاء التأليف فيه متأخر عن تدوين الأحاديث. 1
ولم تظهر كتب الرجال - فيما وقفت عليه - إلا من بعد منتصف القرن الثاني الهجري.
وأقدم ما وقفت على ذكره من هذه الكتب: كتاب "التأريخ" تأليف الليث بن سعد (ت 175 هـ) ، و "التأريخ" للإمام عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ) 2، وذكر الإمام الذهبي: أن للوليد بن مسلم (ت 195 هـ) كتاباً في تاريخ الرجال 3، ثم تتابع التأليف في ذلك كما سيأتي بيانه في الباب الأول من هذا البحث.
وقد كان الكلام في الرواة وبيان أحوالهم قبل التأليف فيه يتناقل مشافهة يتلقاه العلماء بعضهم عن بعض جيلاً بعد جيل.
1-
قال الحافظ ابن رجب (ت 795 هـ) : "ابن سيرين (ت 110 هـ) رضي الله عنه هو أول من انتقد الرجال وميز الثقات من غيرهم
…
".
1انظر: تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره (ص: 65) .
2انظر: فهرست النديم (ص: 252، 284) .
3تذكرة الحفاظ (1/275) .
وقال يعقوب بن شيبة: "قلت ليحيى بن معين: تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم؟ فقال برأسه، أي: لا".
وقال يعقوب أيضاً: "وسمعت علي بن المديني يقول: كان ابن سيرين ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد، لا نعلم أحداً أول منه، ثم كان أيوب (ت 131 هـ) ، وابن عون (ت 150) ، ثم كان شعبة (ت 160 هـ) ، ثم كان يحيى بن سعيد - القطان - (ت 198 هـ) ، وعبد الرحمن بن مهدي (ت 198) .
قلت لعلي: فمالك بن أنس فقال: أخبرني سفيان بن عُيينة قال: ما كان أشد انتقاء مالك للرجال". 1
2-
وقال أبو عبد الله الذهبي (ت 748 هـ) :
"فأول من زكَّى وجرح عند انقراض عصر الصحابة: الشعبي (ت 103 هـ) ، وابن سيرين (ت 110 هـ) ونحوهما، وحفظ عنهم توثيق أُناس وتضعيف آخرين فلما كان عند انقراض عامَّة التابعين في حدود الخمسين ومئة، تكلم طائفة من الجهابذة في التوثيق والتضعيف، كالأعمش (148 هـ) وشعبة بن الحجاج (ت 160 هـ) ومالك بن أنس (ت 179 هـ) .
3-
بعد أن ذكر ابن حبان تفتيش الصحابة عن الرجال قال: "ثم أخذ مسلكهم واستن بسنتهم واهتدى بهديهم فيما
1شرح العلل لابن رجب (1 / 52) .
استنوا من التيقظ في الروايات جماعة من أهل المدينة من سادات التابعين منهم: سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر (ت 106 هـ) ، وسالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ) ، وعلي بن الحسين بن علي (ت 93 هـ) ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (ت 94 هـ) ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (ت 98 هـ) ، وخارجة بن زيد ابن ثابت (ت 99 هـ) ، وعروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ) ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (ت 94 هـ) ، وسليمان بن يسار (ت بعد سنة مئة) .
فجَدُّوا في حفظ السنن والرحلة فيها، والتفتيش عنها والتفقه فيها ولزموا الدين ودعوة المسلمين.
ثم أخذ عنهم العلم وتتبع الطرق وانتقاء الرجال ورحل في جمع السنن جماعة بعدهم منهم: الزهري (ت 124 هـ) ، ويحيى بن سعيد الأنصاري (ت 144 هـ) ، وهشام بن عروة بن الزبير (ت 145 هـ) ، وسعد بن إبراهيم (ت 125 هـ) ، في جماعة معهم من أهل المدينة، إلا أن أكثرهم تيقظاً، وأوسعهم حفظأً وأدومهم رحلة وأعلاهم همة الزهري رحمة الله عليه".
ثم قال: "ثم أخذ عن هؤلاء مسلك الحديث وانتقاد الرجال وحفظ السنن والقدح في الضعفاء جماعة من أئمة المسلمين والفقهاء في الدين منهم: سفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ) ، ومالك بن أنس (ت 179 هـ) ، وشعبة بن الحجاج (ت 160 هـ) ، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت 156 هـ) ، وحماد بن سلمة (ت 167 هـ) ، والليث بن سعد (ت 175 هـ) ، وحماد بن زيد (ت 179 هـ) في جماعة
معهم، إلا أن من أشدهم انتقاء للسنن وأكثرهم مواظبة عليها، حتى جعلوا ذلك صناعةً لهم لا يشوبونها بشيء آخر ثلاثة: مالك والثوري وشعبة".
وقال: "ثم أخذ عن هؤلاء بعدهم الرسم في الحديث والتنقير عن الرجال والتفتيش عن الضعفاء والبحث عن أسباب النقل جماعة منهم: عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ) ، ويحيى بن سعيد القطان (ت 198 هـ) ووكيع بن الجراح (ت 197 هـ) ، وعبد الرحمن بن مهدي (ت 198 هـ) ومحمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) في جماعة معهم، إلَاّ أن من أكثرهم تنقيراً عن شأن المحدثين وأتركهم للضعفاء والمتروكين حتى جعلوا هذا الشأن صناعة لهم لم يتعدوها إلى غيرها مع لزوم الدين والورع الشديد والتفقه في السنن رجلان: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي".
وقال: "ثم أخذ عن هؤلاء مسلك الحديث والاختيار وانتقاء الرجال في الآثار حتى رحلوا في جمع السنن إلى الأمصار، وفتشوا المدن والأقطار، وأطلقوا على المتروكين الجرح وعلى الضعفاء القدح، وبينوا كيفية أحوال الثقات والمدلسين والأئمة والمتروكين حتى صاروا يقتدى بهم في الآثار وأئمة يسلك مسلكهم في الأخبار، جماعة منهم: أحمد بن حنبل رضي الله عنه (ت 241 هـ) ، ويحيى بن معين (ت 233 هـ) ، وعلي بن المديني (ت 234 هـ) ، وأبو بكر بن أبي شيبة (ت 235 هـ) ، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي (ت 238 هـ) ، وعبيد الله بن عمر القواريري (ت 235 هـ) ، وزهير بن حرب أبو خيثمة (ت 234 هـ) في جماعة من أقرانهم.
إلا أن من أورعهم في الدين وأكثرهم تفتيشاً عن المتروكين، وألزمهم لهذه الصناعة على دوام الأوقات: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني رحمة الله عليهم أجمعين".
ثم قال: "ثم أخذ عن هؤلاء مسلك الانتقاد في الأخبار وانتقاء الرجال في الآثار جماعة منهم: محمد بن يحيى الذهلي (ت 258 هـ) ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255 هـ) ، وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي (ت 264 هـ) ، ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) ، ومسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) ، وأبو داود سليمان ابن الأشعث (ت 275 هـ) في جماعة من أقرانهم أمعنوا في الحفظ، وأكثروا في الكتابة، وأفرطوا في الرحلة، وواظبوا على السنة والمذاكرة والتصنيف والمدارسة، حتى أخذ عنهم من نشأ بعدهم من شيوخنا هذا المذهب، وسلكوا هذا المسلك، ولولاهم لدرست الآثار، واضمحلَّت الأخبار، وعلا أهل الضلال والهوى، وارتفع أهل البدع والعمى، فهم لأهل البدع قامعون، وبالسنن شأنهم دامغون"1. اهـ. ملخصاً.
في هذا النص يلخص لنا الإمام الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البستي رحمه الله تعالى (ت 354 هـ) تلك المراحل التي مر بها هذا العلم الجليل الذي ميز الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وهو علم الرجال أو الجرح والتعديل، وذلك من حين النشأة، وهو السؤال عن الإسناد والتثبت في الرواية في عصر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بتلك المراحل المختلفة من البحث
1مقدمة المجروحين لابن حبان (1 / 38 - 58) .
والتحري عن أحوال الرواة وحفظ وضبط المروي في كل عصر إلى زمانه رحمه الله تعالى، وذلك مع الإشارة إلى ما امتاز به علماء ونقاد كل جيل من تلك الأجيال المتعاقبة، وتطور خدمتهم للسنة سنداً ومتناً رحمهم الله جميعاً.