الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: كتب الجرح والتعديل
المبحث الأول: علم الجرح والتعديل تعريفه وحكمه وتاريخ نشأته
…
المبحث الأول: علم الجرح والتعديل، تعريفه، وحكمه، وتاريخ نشأته.
أجود وأجمع تعريف وقفت عليه لهذا العلم هو: علمٌ يتعلق ببيان مراتب الرواة من حيث تضعيفهم أو توثيقهم بتعابير فنية متعارف عليها عند علماء الحديث، وهي دقيقة الصياغة ومحددة الدَّلالة مما له أهمية في نقد إسناد الحديث 1.
حكم الجرح والتعديل:
الكلام في الرجال جرحاً وتعديلاً ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وجُوِّز ذلك تورعاً وصوناً للشريعة لا طعناً في الناس.
وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة، والتثبت في أمر الدِّين أولى من التثبت في الحقوق والأموال.
والأصل في هذا قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنِبِإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيْبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ} 2.
1انظر: بحوث في تاريخ السنة (ص: 83) ، وكشف الظنون (1 / 581) .
2سورة الحجرات - الآية (6) .
وما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: "بِئْسَ أخو العَشِيرةِ، بِئْسَ ابن العَشِيرةِ"، فلما جلس تطلَّق له النَّبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال صلى الله عليه وسلم:"يا عَائِشَة! مَتَى عَهِدْتني فَحَّاشاً؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ منزلةً عندَ اللهِ يوم القيامة مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ شَرِّه"1.
فلهذا افترض الأئمة على أنفسهم الكلام في ذلك. 2
قال أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي (ت 240 هـ) :
"قلت ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة فقال: لئن يكونوا خصمائي أحب إليَّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: لِمَ لَمْ تَذُبَّ الكَذِبَ عن حَدِيثِي. 3
وقال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ت 643 هـ) : "روينا - أو قال: بلغنا - أن أبا تراب النخشبي الزاهد سمع من أحمد بن حنبل شيئاً من ذلك، فقال له: يا شيخ لا تغتب العلماء، فقال له: ويحك هذا نصيحة
1رواه البخاري في صحيحه - كتاب الأدب - باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحِّشاً (8 / 15) .
2علوم الحديث لابن الصلاح (النوع 61، ص: 350) ، كشف الظنون (1/ 581) .
3علوم الحديث لابن الصلاح (النوع 61، ص: 350) .
وليس هذا غيبة". 1
وقال ابن الصلاح أيضاً: "ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى ويتثبَّت ويتوقَّى التساهل كي لا يجرح سليماً ويَسِم بريئاً بِسِمَةِ سوءٍ يبقى عليه الدهر عارها". 2
وقال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) :
"قد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ في أمته ممن يجيء بعده كذابين، فحذَّر منهم وأعلمنا أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، فوجب بذلك النظر في أحوال المحدثين والتفتيش عن أمور الناقلين احتياطاً للدين وحفاظاً للشريعة من تلبيس الملحدين". 3
وقال ابن الصلاح: "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنَّه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه، وتفصيله أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظاً غير مغفل، حافظاً إن حدَّث من حفظه، وضابطاً لكتابه إن حدَّث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني، والله أعلم". 4
وقال الحافظ الذهبي: "والكلام في الرواة يحتاج إلى ورعٍ تامٍّ وبراءةٍ من الهوى والميل، وخبرةٍ كاملةٍ بالحديث وعلله ورجاله، ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح وما بين ذلك من
1المصدر السابق.
2المصدر السابق.
3الكفاية (ص: 78) .
4علوم الحديث (النوع 23، ص: 94) .
العبارات المتجاذبة، ثم أهم من ذلك أن نعلم بالاستقراء التَّام: عُرْفَ ذلك الإمام الجهبذ واصطلاحه ومقاصده بعباراته الكثيرة". 1
تاريخ نشأة علم الجرح والتعديل:
نشأ هذا العلم - الذي هو ميزة تفردت بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم - مع نشأة علم الرجال وظهوره في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني.
ولعل أبا عبد الله الحاكم (ت 405 هـ) كان أول من جمع قواعد علم الجرح والتعديل واعتبرها أحد أنواع علوم الحديث 2، إذ لم يتطرق الرامهرمزي إلى ذلك في كتابه "المحدث الفاصل" الذي يعد أول مصنف في علوم الحديث، ثم اهتمَّت كتب المصطلح بعد الحاكم بقواعد علم الجرح والتعديل التي هي عبارة عن ضوابط تمنع الشطط والمغالاة، وتوجِّه المتتبع لهذا العلم إلى معرفة كيفية الإفادة منه بصورة صحيحة. 3
وقد تقدم الكلام عن مراحل نشأة علم الرجال والجرح والتعديل وتطوُّره في الفقرة الثالثة من "التمهيد".
1الموقظة للذهبي (ص: 82) .
2انظر: معرفة علوم الحديث (النوع 18، ص: 52) .
3انظر: بحوث في تاريخ السنة (ص: 87 - 88) .