الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخواتم والموازين قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 1.
3-
الوحي كله "الكتاب والسنة""المتلو والمروي"، والذي كان مقصده الأعلى إحياء النفوس في الحياة الحقيقية في الدَّارين أي إحياؤها في الدنيا بأداء واجب الامتثال والتعبد والتدين، وإحياؤها في الآخرة بتحصيل مرضاة الله والفوز بجناته وخيراته قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 2.
1 سورة الإسراء، آية 9.
2 سورة الأنفال، آية 24.
المطلب الثاني: تطور المقاصد الشرعية
شهدت المقاصد الشرعية بعد عصر النبوة وعصر السلف الصالح وعلى مر تاريخ الفقه الإسلامي تطورًا متزايدًا واهتمامًا ملحوظًا، ويمكن إيراد ذلك فيما يلي:
المقاصد في عهد الصحابة والتابعين:
المقاصد في عهدهم تمثلت في دعوتهم إلى إعمال القياس والرأي والتعليل والتفاهم إلى الأعراف والمصالح وتقرير كثير من الأحكام بموجبها ومقتضاها. قال الإمام أحمد: "الصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ويحتجون بالقياس"3 ويذكر الإمام أحمد أن ذلك العمل بالرأي القياس
1 فتاوى ابن تيمية، 19/ 285.
يعد من قبيل العمل بالمقاصد فيقول: "وهما من باب فهم مراد الشارع"1.
وشواهد ذلك كثيرة جدًّا:
ومن قبيلها نجد: جمع القرآن، وتقسم الغنائم، وصلاة التراويح، والطلاق الثلاث، وتضمين الصناع، والاجتماع لصلاة التراويح، وعدم إقامة حد السرقة عام المجاعة، وقتل الجماعة بالواحد، وتدوين الدواوين، ووضع السجلات، وغير ذلك2.
المقاصد في عهد كبار الأئمة:
يروى أن إبراهيم النخعي كان من أصحاب الرأي، وكان يُكثر من استعمال القياس والتعليل، وكان يقول:"إن أحكام الله تعالى لها غايات هي حكم ومصالح راجعة إلينا"3، كما عُرف الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة بالنظر المقاصدي والاجتهاد المصلحي الأصيل، مع التفاوت الملحوظ من حيث درجة الاعتداد بالمقاصد والتعويل عليها4، ويتجلى ذلك في أصولهم الاجتهادية ذات الصلة بالمقاصد، على نحو: الاستطلاح والاستحسان والقياس ومسائل التعليل والمناسبة والعرف وسد الذرائع وغير ذلك.
1 فتاوى ابن تيمية، 19/ 286.
2 هذ الأمثلة واردة ضمن مباحث: "تاريخ التشريع: اجتهاد الصحابة، أصول الفقه: المصلحة المرسلة، العرف، وغير ذلك من المباحث والموضوعات.
انظر إذا شئت: إعلام الموقعين: 1/203 وما بعدها. وروضة الناظر: ص148 وحجة الله البالغة: الدهلوي 1/ 46- 2/ 396 وغير ذلك من الكتب القديمة والمعاصرة.
3 ابن رشد وعلوم الشريعة: د. العبيدي ص102.
4 التنظير الفقهي ص60.
المقاصد عند بعض الأعلام:
اهتم بعض الأعلام في آثارهم بالمقاصد ومن هؤلاء نذكر:
- الأبهري "توفي 275هـ"، والباقلاني "توفي 443هـ"، والترمذي "توفي 279هـ" الذين دارت بعض آثارهم حول التعليل والأسرار والحكم الفقهية ومحاسن الشريعة وخصائها1.
- الجويني "توفي 478هـ" الذي استعمل كثيرًا لفظ المقاصد، والغرض، والقصد، والكليات الخمس2.
- الغزالي "توفي 505هـ" والذي تناول الكليات الضرورية والاستصلاح3.
- الآمدي "توفي 631هـ" والذي أدخل في المقاصد باب الترجيحات، ولا سيما بين الأقيسة المتعارضة، وبين مراتب المقاصد نفسها4.
- البضاوي "توفي 685هـ" والإسنوي "توفي 772هـ" الّذَيْنِ كتبا في الضروريات الخمس5.
- القرافي الذي أطنب في ذكر القواعد الفقهية، وأنواع التصرفات النبوية، ودلالاتها على الأحكام والمقاصد6.
وعلى العموم فقد التفت كثير من المجتهدين خلال عصور مختلفة إلى
1 نظرية المقاصد عند الشاطبي: د. الريسوني ص24 وما بعد.
2 نظرية المقاصد عند الشاطبي: د. الريسوني ص35-36.
3 المستصفى: 1 / 139.
4 الإحكام في أصول الأحكام: الآمدي 4 / 376 وما بعد.
5 نظرية المقاصد عند الشاطبي: د. الرسيوني ص44 وما بعد.
6 مقاصد الشريعة: ابن عاشور ص8، الفكر الأصولي ص352- 353.
أمر المقاصد وسائر معلوماتها في أثناء العملية الاجتهادية انطلاقًا من طبيعة النصوص وأحوال الحياة الداعية إلى وجوب الاعتداد بالمصالح جلبًا والمفاسد دَفعًا، وإلى ضرورة الالتفات إلى معاني النصوص ومراميها وغاياتها1.
بعض العلماء الذين اشتهروا بدراسة مقاصد التشريع:
هذا المطلب أوردناه على سبيل الذَّكر وليس الحصر، وإلا فالعلماء قد تكلموا قديمًا وحديثًا عن المقاصد، وبينوها بتفاوت ملحوظ من حيث العمق والتصريح والإسهاب والتفصيل.
أفردنا بعض الأعلام بالذكر لدورهم في إحداث الإضافة النوعية في مجال المقاصد ولكونهم قد اشتهروا بين أهل العلم بهذا الأمر. ومن هؤلاء:
1-
العز بن عبد السلام من خلال كتابه: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"2.
2 -
الشاطبي من خلال "الموافقات" الذي عُدَّ به مبتدع علم المقاصد، ومؤسس عمارته الكبرى، ومرجع كل مشتغل بهذا الفن3.
1 تاريخ الفقه الإسلامي: د. عمر سليمان الأشقر ص39-40.
2 التنظير الفقهي: ص63 وما بعد، والفكر الأصولي ص350 وما بعد، ونظرية المقاصد عند الشاطبي: د/ الريسوني: ص50-52.
3 الشاطبي ومقاصد الشريعة: د/ العبيدي ص131 وما بعد، ومقاصد الشريعة: ابن عاشور: ص8. ومسالك الكشف عن المقاصد بين الشاطبي وابن عاشور: د / عبد المجيد النجار ص5. وبحث يتعلق بمقاصد الشريعة لابن عاشور: د / هشام قريسة ص1 ألفاه في ملتقى ابن عاشور بجامعة الزيتونة أيام: 14-15-16 ديسمبر 1985م.
ابن عاشور من خلال كتابه "مقاصد الشريعة"1، الذي ضمنَّه الدعوة الجادة إلى تدوين علم المقاصد الضروري في العملية الاجتهادية بأسرها، تأسيسًا وتأويلًا، وحسمًا للخلاف، وترجيحًا عند التعارض، وتنظيرًا لقيام النهضة التشريعية العامة2.
وقد أخذت المقاصد خلال العصور الفقهية المختلفة في التشكل والظهور على مستوى التدوين والتأليف -ومرحلة الإفراد في التأليف.
مرحلة الإدماج في التأليف:
معناه: جعل المقاصد مدوَّنة ومؤلفَّة في مباحث وفنون شرعية أخرى كمبحث أصول الفقه والفقه، والتفسير، وغير ذلك.
وقد تجلت هذه المرحلة خلال القرون "الثالث والرابع والخامس والسادس"، مع الجويني والغزالي والرازي، والآمدي وابن الحاجب وابن العربي والمازري وابن رشد الجدّ والحفيد وغيرهم؛ فقد كان العلماء يذكرون بعض المباحث والمتعلقات المقاصدية في كتبهم الأصولية والفقهية والتفسيرية وغيرها.
ومن قبيل ذلك:
- استعمالهم لعبارات وكلمات وألفاظ تطلق على المقاصد، وعلى بعض متعلقاتها ومسائلها، على نحو: الحكمة، والعلة، والمَصْلَحَة، والمفسدة، ومقصود الشارع ومراده، وغايته، وأسرار الشرع، ومعانيه.
1 كما ألّّّف التفسير الشهير "التحرير والتنوير" والذي اهتم فيه كذلك بأغراض التفسير، ومقاصد القرآن الكريم، راجع التحرير والتنوير: 1/ 41.
2 مسالك الكشف: د/ النجار ص6. وبحث يتعلق....: د/ قريسة ص1-2.
ونفي الضرر، ودفع الأذى، وإزالة المشقة، ومنع التعنت والتشدد، والمبالغة، والتعمق، والحث على التيسير والتخفيف ورفع الحرج، وتأكيد الخاصيات الإسلامية الكبرى على نحو: العالمية، والوسطية، والسماحة، والاتزان، والاعتدال، الشمول، والعموم، والواقعية.
- بيانهم للمقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية، وتفصيلهم للكليات الضرورية الخمس "حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال".
- بيانهم لمبحث تعليل الأحكام والأفعال؛ سواء في مبحث المقدمات الأصولية والتحسين والتقبيح، أو في مبحث الحكم والوضعي فيما يتلعق بحقيقة السبب باعتباره قسمًا لأقسام الحكم الوضعي، وما يتصل به من بيان علاقاته بالعلة والحكمة، وهل الأحكام تُعلَّل بأسبابها وبعللها الظاهرة والمنضبطة؟ أم بحكمها المرتبة عليه من جلب المنافع والمصالح ودفع الأضرار والمفاسد؟ أو في مبحث القياس ومسائل إثبات العلل المتصلة بالنص والإجماع والاستنباط، ولا سيما المتصلة بمبحث المناسبة1 التي تفرعت عنه مباحث المقاصد ومعلوماتها ومشتملاتها.
إذ المناسبة كما يعرفها العلماء الأصوليون ليست سواء إثبات كون الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني؛ لما يترتب على ذلك الحكم من مقصود شرعي بجلب منفعة أو درء مفسدة.
1 المناسبة: هي إثبات كون الوصف الفلاني علةً للحكم الفلاني عن طريق الاجتهاد والاستنباط.
ومثالها: إثبات كون الإسكار علةً للتحريم، ووصفا يناسبهُ لما في تركه من جلب مصلحة حفظ العقل من الذهاب والغياب، ومن جلب مصلحة حفظ المال من الضياع والتبديد.
ثم إن الأوصاف الثابتة منها ما هو مقبول ومعتبر، ومنها ما هو مردود وملغي، ومنها ما هو مرسل ومسكوت عنه ينبغي أن يُنظر في حُكمه وحجته لكي يحكم عليه بالقبول أو بالرد والإلغاء.
فما كان مقبولا سُمِّي وصفًا معتبرًا يجب أن يترتب عليه حكمه الشرعي، وينبغي أن تعتبر مقاصد المبنية عليه.
وما كان ملغيًا ومردودًا وجب تركه واجتنابه، وترك مقاصده، ومصالحه التي تسمى بالمقاصد الملغاة والمردودة، أو المصالح الملغاة والوهمية والمرجوة والمغلوبة.
وما كان مرسلًا أو مسكوتا عنه1 يُنظر فيه ليلحق بالمقبول والمعتبر إذا كان ملائمًا للشرع وموافقًا له، أو يلحق بالمردود والملغي؛ إذ كان معارضًا للشرع ومناقضًا له.
الخلاصة:
الخلاصة من كل ما ذكرنه أن مباحث المقاصد كانت مبثوثة في كتب الأصول والفروع وغيرها، ولم تكن لتفرد بالتأليف في مؤلفات خاصة بها، على غرار ما جاء في كتب المتأخرين، ولا سيما مع الإمام الشاطبي الذي أفرد المقاصد بتأليف كبير خاص ومستقل ومفصل، ولم يُسبق فيه من قبل غيره من كبار العلماء والأصوليين.
1 والمصلحة المترتبة عليه تعرف بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح أو الاسترسال أو الاستصلاح المرسل أو الاستدلال، انظر: مبحث المناسبة في مسائل التعليل، ومبحث ومصاد التشريع المختلف في الاحتجاج بها في كتب أصول الفقه.
مرحلة إفراد المقاصد بالتأليف:
تجلت هذه المرحلة خصوصًا مع الإمام الشاطبي الذي ألَّف كتابه الشهير "الموافقات في أصول الشريعة" والذي خصه لبحث تفاصيل وخبايا المقاصد وخفاياها ومتعلقاتها بأسلوب دقيق وعلم غزير، وإحاطة شاملة وتدليل مسهب، وتعليل مطنب، وتمثيل مكثر، وعمق -قل نظيره- في أحوال النفس الباطنة، وأسرار التشريع الخفية والظاهرة، ومراد الشارع الحكيم ومقصوده، وغير ذلك مما يدل على جدارة الكتاب بالعناية والاهتمام، واستفادة وإفادة.
كما تجلت هذه المرحلة مع العز بن عبد السلام الشافعي في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام. وتجلت كذلك في الدراسات والبحوث المعاصرة؛ حيث تعاقب الباحثون والعلماء المحدثون على تدوين علم مقاصد التشريع وتأليفه في بحوث خاصة وعامة.