الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: إدخال المكلف في دائرة العبادة والامتثال وإخراجه من دائرة الهوى
المطلب الأول: واجب المكلف "عبادة الله ومخالفة هوى النفس
"
…
المبحث الخامس: إدخال المكلف في دائرة العبادة والامتثال، وإخراجه من دائرة الهوى
يتعلق هذا المبحث بالمطالب والمسائل التالية:
المطلب الأولى: تحقيق مقاصد عبادة الله، ومخالفة هوى النفس وبيان مراده ومعناه، وعرض أدلته من النصوص والأحكام الشرعية والتجارب الحياتية.
المطلب الثاني: العمل الذي يمتزج فيه هوى النفس ومقصود الشارع، وبيان معناه والحكم علي في ضوء حيثياته ومعتبراته.
المطلب الثالث: المقاصد الأصلية والتابعة من حيث حقيقتها وأمثلتها وعلاقاتها ببعضها.
المطلب الأول: واجب المكلف "عبادة الله، ومخالفة هوى النفس"
كل الأحكام والتعاليم الشرعية والإسلامية جاءت لتقرير العبودية الكاملة لله تعالى، لإخراج الإنسان من دائرة هوى نفسه.
يقول الشاطبي: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا1.
1 الموافقات: 2 / 768.
الأدلة على أن العباد خلقوا لعبادة الله تعالى ومخالفة هوى نفوسهم.
1-
الأدلة من النصوص الشرعية:
هناك الكثير من النصوص القرآنية والنبوية، وكثير من الإجماعات والآثار الإسلامية الدالة على أن العباد مخلوقون لعبادة الله تعالى، والامتثال لأحكامه وتوجيهاته، أمرًا ونهيًا.
ويمكن أن نورد بعض تلك الأدلة فيما يلي:
- قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1.
- قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} 2.
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3.
- قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 4.
- قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5.
- قوله صلى الله عليه وسلم: "حق الله على العباد أن يعبده ولا يشركوا به شيئا"6.
1 سورة الذاريات، آية 56.
2 سورة طه، آية 132.
3 سورة البقرة، آية 21.
4 سورة النساء، آية 36.
5 سورة النحل، آية 36.
6 جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد.
من الأدلة على ذم الهوى ومخالفة الأوامر والأحكام الشرعية:
- قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} 1.
- قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 2.
- قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} 3.
- قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 4.
- قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 5.
- قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 6.
قال الشاطبي: "فذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبد للمولى"7.
1 سورة النازعات: آية 37-39.
2 سورة النازعات، آية 40-41.
3 سورة الجاثية، آية 23.
4 سورة المؤمنون، آية 71.
5 سورة محمد، آية 16.
6 سورة محمد، آية 14.
7 الموافقات: 2/ 170.
2-
الأدلة من الأحكام:
من الأدلة والبراهين على أن العباد خلقوا لعبادة الله، وإخراجهم من هوى نفوسهم: جملة الأحكام الشرعية، وسائر الأوامر والنواهي الداعية إلى الامتثال والخضوع والعبادة، والساعية إلى تنظيم المعاملات الإنسانية على وفق الهدى والتعاليم الإلهية، وليس بقضى ما تمليه مختلف الشهوات والنزوات والأهواء التي كثيرًا ما تتناقض وتتعارض وتتزاحم.
والأوامر والنواهي الشرعية تشمل التوحيد والعقيدة، وتشمل العبادات والمعاملات.
أ- فعلى مستوى التوحيد والعقيدة: أمر المكلف بتوحيد الله تعالى وإفراده الخضوع والعبادة والتوكل والدعاء والخوف والرجاء والخشية والمحبة والموالاة والذبح والتقرب.
وأمر التصديق بسائر أركان العقيدة الإسلامية، كالإيمان بالملائكة والكتب المنزلة عنده والرسل والأنبياء واليوم الآخر.
كما نهى المكلف عن الشرك والرياء والنفاق، وعبادة الأشخاص والأصنام وتقديس القبر والأضرحة والشعارات والأذكار والعادات والتقاليد، وكل ما يخل بالعقيدة الإسلامية الصحيحة الداعية إلى عبادة الله وحده، بلا شريك ولا نظير في اسم أو صفة أو فعل.
ب- وعلى مستوى العبادات: شرعت الأحكام الكثيرة المتعلقة بتنظيم علاقة المكلف بربه تعالى، على نحو الصلوات وصيام رمضان، وأداء
الزكاة والصدقات، وأداء الحج والعمرة، والقيام بالكفارات والنذور، وفعل التطوع والتقرب إليه بالنوافل والأذكار، وشتى القربات والصالحات التي توقع في النفس معاني الرغبة والرهبة، وتورث فيها الخضوع إلى الله، والامتثال إلى أحكامه أمرًا ونهيًا، والتي تبعدها عن الظواهر السيئة والصفات والرذيلة، على نحو الخمول والجمود والكسل والإفراط في الراحة واللذات والرفاه.
ج- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالمعاوضات: شرعت أحكام البيع والشراء والغصب والربا والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وبشتى صورة وكيفياته، وكان المقصد من كل ذلك حمل النفس على العدل والإنصاف والاستقامة، وإخراجها من دوائر الأنانية والجشع والطمع والتحايل في أخذ حقوق الناس وأمتعتهم، والتغرير بهم عن قصد لإلحاق الضرر والأذى بهم.
د- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالأنكحة: شرع الزواج، ودعي إليه ورغب فيه، وحث على تيسيره وتخفيفه، ومن الزنا والاختلاط والنظر بقصد الشهوة والتلذذ، وهتك العرض، ونهى عن الخلوة؛ لأنها قد تؤدي إلى وقوع الفتنة والزنا، ووضع العقاب للشاذين والمنحرفين بممارسة الزنا أو اللواط أو السحاق في السرِّ والعلن، بالتراضي والإكراه، في حالة العزوبة والإحصان.
والمقصد من كل ذلك هو حفظ النسل والأعراض والأنساب من التداخل والفوضى والدوس والانتهاك، وصيانة العفة والكرامة.
والحشمة الأخلاقية والأنسانية المقررة في كل الأمم والأجيال، وفي مختلف الظروف والأحوال.
كما أن من مقاصد ذلك، تربية نفس الإنسان تزكيتها وتهذيبها مما قد يعلق بها من ظواهر الانحراف والزيغ وحب الشذوذ، والرغبة في مزاولة المتع المحرمة، ومناولة اللذائذ الجنسية العابرة بلا قيد لا ضابط، كما هو الحال في كثير من البلاد العالمية التي انشرت فيها مظاهر الإباحة الجنسية، والميوعة الأخلاقية، والتسيب القيمي، والانحلال بمختلف صوره ومجالاته.
ومن مقاصد ذلك أيضًا تعويد النفس على الصبر والتضحية والاستقامة والعفة، وحملها على مخالفة هواها، ومواجهة حديثها ووساوسها وخواطرها التي تزين الشهوة المنحرفة وتلمعها، وتجعلها من أعز المطالب وخواطرها من أحسن المبتغيات وأفضل ما يسعد به الإنسان.
ومن أجل تحقيق الاستقامة والعفة، وحفظ الأعراض والأنساب والنسل، وإخراج، النفس من دائرة هواها ونزواتها، شرعت جميع أحكام الزواج، وما يتعلق به من الحث عليه، والدعوة إلى تيسيره وتسهيله، والصبر والاصطبار عند العجز عنه بالتوكل على الله تعالى، وأداء فعل الصوم الذي هو وقاية لصاحبه، وبغض البصر، وتجنب الخلوة والاختلاط، وغير ذلك مما هو ضروري لتحقيق ذلك.
هـ- وعلى مستوى المعاملات المتصلة بالجنايات والدماء: وضع القصاص والحدود والعقوبات للقتل العمد والعدوان والحرية وقطع طريق وسائر مظاهر الترويع والفساد والإفساد في الأرض.
ومقصد ذلك كله حفظ النفس وصيانة الحياة، ومنع التعدي والاعتداء والظلم والثأر، وزجر المعتدين الظالمين انزجار وإرداع غير المعتدين الذين قد تُسوِّل لهم نفوسهم يومًا ما بفعل القتل والتمثيل والترويع والتخويف والإفساد.
ومقصد ذلك أيضًا: حمل النفس على الاستقامة والاتزان، وإبعادها عن نزوات الثأر والانتقام والتشفي، وإخراجها من دائرة الاستخفاف بحرمة النفس وكرامة الإنسان، وحقه في الحياة والسلامة والأمن.
ولو بقيت النفوس والمجتمعات بلا حد أو قيد لأهواء النفوس وخواطرها لفسد التعامل واختل النظام، ولتعاظم الهرج والمرج، ولكثر القتل وتعاظم وتزايد بلا حد ولا حصر.
ولذلك كله جاءت الأحكام الدقيقة والمضبوطة المنظمة للتعامل في مجال البيوعات والمعاوضات، وفي مجال الأنكحة والزواج، وفي مجال الجنايات والدماء، وبقصد حفظ نظام الحياة واستقرارها وسلامتها، ولصيانة الناس في نفوسهم وعقولهم أعراضهم وأنسابهم وأموالهم.
وكل ذلك لن يكون حاصلا إلا بإخراج الناس من دوائر أهوائهم ورغباتهم المنحرفة بحصول الاستقامة الذاتية، والالتزام الطوعي الاختياري، أو بحصول الامتثال والانقياد إلى احترام ذلك، ومراعاته حتى يكون الحق أحق أن يتبع، وحتى لا يكون الحق تبعًا لأهواء الناس، قال تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} 1.
1 سورة المؤمنون، آية 71.
والخلاصة أن الأحكام الشرعية لا تخلو من الأحكام الخمسة المعلومة:
الوجوب والتحريم الندب والكراهة والإباحة.
فأما الوجوب والتحريم فظاهر مصادمتهما لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار، وأما الندب والكراهة والإباحة -إن كان ظاهرًا الدخول تحت خيرة المكلف واختياره- فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره؛ فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره.
وفي كل الأحوال تكون الأحكام الشرعية الخمسة قد أخرجت المكلف من دائرة هواه وشهواته ونزواته.
3-
الأدلة من الواقع والحياة:
من الأدلة الواقعية والحياتية التي تؤكد على مخالفة الهوى:
عُلم بالتجارب والعادات أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت بهن حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم.
واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا، من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسية المدنية؛ فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أطهر منأن يستدل عليه1.
1 مأخوذ من كلام الشاطبي في الموافقات.