الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثاني
المبحث الأول: قدرة المكلف على فعل التكليف
المطلب الأول: قدرة المكلف على فعل التكليف
…
الجزء الثاني:
المبحث الأول:
قدرة المكلف على فعل التكليف
التكليف الشرعي ميسور ومستطاع ومقدور عليه؛ فالله تبارك وتعالى لم يكلف الناس بما في المشقة والحرج والعنت والشدة، ولم يخاطبهم بما لا يقدرون على فهمه واستيعابه وتمثله من الألفاظ والمعاني الشرعية؛ بل خاطبهم بما يطيقون من الأعمال والأقوال، وبما يقدرون عليه من الإفهام والاستيعاب والاعتقاد والتصور، لذلك اشترط في التكليف الشرعي أمران:
1-
القدرة على القيام بالتكليف.
2-
القدرة على فهم أحكام التكليف.
المطلب الأول: قدرة المكلف على فعل التكليف
قدرة المكلف على القيام بالتكليف شرط أساسي لا بد منه في قيام التكليف وصحته؛ لذلك نفى الشارع الحكيم الحرج والعنت، ولم يكلف عباده بما لا يطاق من الأحكام، وبما لا يستطاع من الأعمال العبادات، وبما لا يُقدر عليه من المعاملات والتصرفات، ومن الاعتقاديات والوجدانيات..وغير ذلك مما هو ليس في وِسع المكلف ومقدوره ومستطاعه.
الأدلة على ذلك:
الأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في القرآن الكريم وفي السنة
النبوية الشريفة، وفي الإجماع، وفي آثار السلف والخلف واجتهاداتهم وأقوالهم، وفي دلائل الواقع والعقل والحس، وغير ذلك.
الأدلة على القرآن الكريم:
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1.
قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 2.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3.
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 4.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 5.
قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} 6.
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 7.
الأدلة من السنة النبوية الشريفة:
قوله عليه الصلاة السلام: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة"8.
1 سورة الحج: آية 78.
2 سورة المائدة: آية6.
3 سورة البقرة، آية 185.
4 سورة النساء، آية 286.
5 سورة البقرة، آية 28.
6 سورة الأعراف، آية 157.
7 سورة الطلاق، آية7.
8 عمدة القاري شرح صحيح البخاري، باب: الدين يسر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"1.
وقوله لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري عندما أرسلهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا"2.
دليل الإجماع:
الإجماع هو ما اتفق عليه العلماء والمجتهدون في قضية من القضايا، في عصر من العصور بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهو المصدر التشريعي الثالث بعد الكتاب والسنة.
وهو أصل يقيني مقطوع به وحجة لازمة، وحق شرعي يجب اعتقاده والعمل به.
وقد أجمع كل العلماء والمجتهدين سلفًا وخلفًا، قديمًا وحديثًا، تصريحًا وتلميحًا، فهمًا وتنزيلًا، على يسر الشريعة وسماحتها ووسطيتها واعتدالها، وعلى نفي التكليف بما لا يُطاق، وعلى أن الحرج مرفوع، والعنت مدفوع، وعلى أن سائر الأحكام الشرعية في مجال العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات ميسورة ومسهلة يقدر عليها المكلف في مختلف ظروفه وأحواله، وفي حله وترحاله، في صحته وسقمه، وفي شدته ورخائه، في حربه وسلمه، في موطنه وغربته، وفي شتى الأطوار والأعصار، ومختلف البيئات والأمصار.
وليس أدل على ذلك من كون الشريعة الإسلامية موصوفة بالشمول
1 عمدة القاري، كتاب الأدب، باب: الرفق في الأمر كله.
2 عمدة القاري، كتاب الأدب، باب: قول النبي: "يسروا ولا تعسروا".
والصلاح لكل زمان ومكان وحال، ومرسومة بعموم خطابها لكافة الإنس والجِنِّ أجمعين.
والإجماع المنعقد على حجية ما ذكرنا ضربان:
أ- إجماع الأمة على يسر الشريعة وسماحتها واستطاعة القيام بها، وقد تبين ذلك من خلال أقوال العلماء وتصريحاتهم بذلك، ومن خلال إجماعهم على صحة وحقية القرآن والسنة، وما انطويا عليه من أحكام ومعانٍ ودلائل وتوجيهات وإرشادات؛ منها: معاني يسر التكليف وسهولته، وقدرة المكلف على أدائه، ونفي الحرج والمشقة القاهرة والعنت الشديد.
ب- إجماعهم على مواضع التيسير والتخفيف، واتفاقهم على مظاهر نفي الحرج والضيق والشدة
…
كل ذلك دليل مقطوع به على نفي التكليف بما لا يطاق.
الأدلة من آثار السلف والخلف:
آثار السلف والخلف رضي الله عنهم تشمل:
أ- ما صرحوا به من أقوال وبيانات تدعو إلى التيسير والتخفيف، وتصف الدين بالسماحة والاعتدال والواقعية والاتزان، وتنفي عنه التشدد والتنطع والمبالغة والتعمق في التعبد والتورع1.
من ذلك قول عمر رضي الله عنه: نهينا عن التكلف2.
1 حجة الله البالغة ص1-31، ص3-54 وما بعدها.
2 عمدة القاري: كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنة رسول الله.
وقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، عليكم بالعتيق". والتنطع هو: التعمق في القول والفعل. والتعمق: هو المبالغة والتشدد1.
وقول ابن القيم الجوزية رحمه الله: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعادن وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"2.
وقول أبي إسحاق الشاطبي: ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به؛ فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعًا، وإن جاز عقلًا"3.
ب- ما أفتوا به في وقائع ونوازل مستندين إلى أدلة التشريع وقواعد المصالح والمقاصد ومعاني التيسير والرفق والتخفيف ولم يلتزموا بحرفيات وظواهر ومباني النصوص والأدلة فقط؛ بل نظروا إلى المقاصد والمعاني كما كانوا ينظرون إلى المباني والظواهر؛ وذلك لأن الجمع بين ظاهر النص ومعناه، ومدلوله ومقصوده هو الاجتهاد الصحيح والعمل المطلوب، وهو الذي يثبت مراد الشارع ومطلوبه، ويحقق مصالح الناس ومنافعهم، ويؤكد خاصيات الشريعة وسماتها ويحقق مصالح الناس ومنافعهم، ويؤكد خاصيات الشريعة وسماتها ومراميها، والمتعلقة، بالصلاحية والدوام والعموم والشمول.
وتلك الفتاوى والاجتهادات تجدها مبثوثة في كتب الفقه والنوازل والتفسير والحديث وغيرها، ونجدها تتعلق بمجالات أصولية كثيرة، على
1 سنن الدارمي: 1/ 54.
2 أعلام الموقعين: 3/ 84.
3 الموافقات: 2/ 157.
غرار مجال الاستصلاح أو ما يعرف بالمصالح المرسلة، ومجال الاستحسان، والعرف، وسد الذرائع، ومراعاة مآلات الأفعال، وغير ذلك.
دليل الاستقراء:
يعد الاستقراء دليلًا معتبرًا على التكليف بما يطاق، ونفى العنت القاهر والمشقة المضنية، والشدة التي لا يقدر عليها.
والاستقراء معناه: تتبع الجزئيات والفروع لبناء أمر كلي يصدق على جميع تلك الجزئيات أو أغلبها.
ومعناه في الفقه الإسلامي، وفي دين الله تعالى: تتبع الجزئيات والفروع الفقهية التي روعي فيها التيسير والتخفيف، ورفع الحرج والضيق؛ لتقرير أمر كلي ينطبق على كل تلك الجزئيات والفروع؛ هذا الأمر الكلي هو المقصد الشرعي الكلي المتمثل في تقرير التيسير والتخفيف، ورفع الحرج، وإزالة الضرر ورفع الأذى.
الفروع والجزيئات التي روعي فيها التيسير، واعتبر فيها نفي التكليف بما لا يطاق كثيرة جدًّا، وهي مبثوثة في مجال العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات، ومنها ذِكرًا لا حصرًا:
- جواز القصر والجمع في السفر وفي الحج تخفيفًا عن المكلف، وإبعادًا لمشقة السفر وأعباء الحج.
- إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض والنفساء توسعًا ورفقًا.
- إباحة الفطر للشيخ المسن، ولغير القادر على الصوم كالمريض والمسافر.
- عدم تكليف المجنون والمغمى عليه والصبي؛ لأنهم فاقدو العقل الذي هو مناط التكليف، وأساس التدين والالتزام؛ إذ لو كلف بشيء ما قدر على أدائهن ولَوقع في التكليف بما لا يطاق، وهذا ممتنع ومحال.
- إباحة بيع السلم، والمساقاة، والمزارعة، والوصية، والإجارة للتوسعة والرفق، ولإبعاد الحرج والضيق عن الناس، والظاهر من تلك المعاملات أنها على خلاف القواعد والضوابط لعام المتبعة في المعاوضات والتعامل بين الناس، وأنا قد توقع الضرر والجهالة والغرر، وغير ذلك مما قد يعلل به منع تلك المعاملات وإلحاقها بأصولها ومظانها؛ غير أن النظر الدقيق لهذه المعاملات، وإلى عللها وحقائقها ومشروعيتها وضوابطها يؤول إلى القول بأنها أبيحت للتوسعة ورفع الحرج، دون أن تخل بالقواعد والأصول الشرعية المعتبرة.
فبيع السَّلم وهو بيع آجل موصوف في الذمة بثمن عاجل يلاحظ فيه كون المبيع ليس معدومًا وقت العقد، وإنما هو موجود بالقوة في أطوار غير نهائية، مع الظن الغالب بأن سيكون موجودًا بصفة كاملة في الأجل المحدود.
وعليه فإنه لا يحلق بالبيوعات المعدومة، لما فيها من الجهالة والغرر والضرر؛ بل هو من البيوعات الموجود بمآل لا بالحال؛ إذ الغالب الأكثر أن بيوعات السم آيلة إلى الوجود الكامل خلال زمن معقول ومناسب، وبشروط وأوصاف ومقادير محددة مضبوطة.
فعلة النهي عن بيع المعدوم وهي الجهالة المفضية إلى الغرر والضرر والتنازع، وأكل مال الغير بلا وجه شرعي، وإن هذه العلة ليست موجودة في حقيقة بيع السلم؛ ولذلك أبيح وأجيز بالسنة النبوية الشريفة، ولو حَرِّم
ومُنِع لكان في ذلك الحرج البالغ والمشقة المضنية التي يقدر عليها الناس.
والحق أن الأمثلة على التكليف بما يطاق، وعلى التيسير والتخفيف لا تنحصر في أحكام الشرع الإسلامي العزيز. وهي ثابتة بأدلة جزئية وكلية كثيرة جدًّا.
وهذه الأمثلة وتتبعها والنظر فيها بدقة وعمق وأمانة وإلمام وإخلاص وإدراج ضمن الأصول والقواعد والضوابط الشرعية
…
إن كل ذلك يؤيد إلى تقرير خاصية يسر دين الله تعالى وسماحته وتوازنه وواقعيته وقدرة الناس على تطبيقه والعمل به دون عنت شديد وبلا مشاق قاهرة. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 1.
الأدلة المعقولة:
إن بقاء الشريعة ودوامها واستمرارها في مختلف البيئات والأعصار والأمصار، وفي مختلف الظروف والمناخات والجنسيات والمستويات، وفي شتى مجالات الحياة الفردية والاجتماعية والدولية والحضارية، وغير ذلك.
إن ذلك وغيره دليل على واقعية الشريعة ومرونتها، وقدرتها الفائقة على التطبيق والتنفيذ والتفاعل مع كل الظروف والأحوال والتأثير فيها وتوجيهها نحو الخير والصلاح والسعادة في العاجل الآجل؛ فلو كانت الشريعة تنطوي على التشدد المذموم والتنطع والتعمق والمبالغة في التعبد والتعامل، ولو كانت على خلاف الفطرة السليمة والعقول
1 سورة البقرة، آية 185.
السليمة، إنها لو كانت كذلك، أو كبعض ذلك لما شُهد لها بالدوام والاستمرار والخلود والبقاء إلى يوم الدين.
فكم عرفت البشرية قديمًا وحديثًا أديانًا وضعية ومذاهب وتقاليد ومقدسات شتى، آل أمرها إلى الاندثار والتلاشي والنسيان، ولم تبق مظاهرها وآثارها، وانتهى كليا كل ما يتعلق بها، وحتى أسماؤها قد غابت وانقضت وذهبت بلا رجعة ولا أمل ولا عودة. ولعل أهم أسبابها مجافاتها للفطرة السليمة والخصائص الإنسانية والكونية والمعهودة والثابتة، ووقوعها في التزيد والتشدد والتنطع والتعمق والتزمت.
ثم إن هذا التخفيف والتيسير ليس على إطلاقه وعمومه؛ وإنما هو منضبط بضابط التكليف ومخالفة الهوى والنزوات، الأمر الذي زاد في تأكيد خاصيات صلاحية الشريعة وواقعيتها ومرونتها، لجمعها بين مبدأ التكليف وحقائقه ومطلوباته وبين سمة التيسير والتوسعة بين مطالب الدنيا والآخرة، وبين الالتزام والاتباع والامتثال، وبين الترخص والتوسع وفق منهجية وسطية متزنة ومنضبطة، لا إفراط فيها ولا تفريط.
وعليه فإن التيسير له مواضعه ومظاهره الثابتة بشرع الله وأحكامه، وليس متروكًا للهوى وللتشهي والتلذذ، وليس كذلك مردودًا وملغي لا يلتفت إليه، ولا يعمل به الميزان والمعيار في كل ذلك: اتباع التيسير والتوسة في المواطن والمواضع الصحيحة، عدم التنصل من التكليف أو من بعض أحكامه تحت تعلة التيسير والتخفيف.
بل لا بد من فعل التكيف الذي هو تحمل كلفة العبادات والمعاملات والالتزامات، والصبر على أدائها، والمداومة عليه، وانتظار الجزاء الحسن، والعاقبة الطيبة من الله الكريم عزَّ ثناؤه.