الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: مخالفة الهوى من قبيل المشقة المستطاعة
ورد التكليف الشرعي لحمل النفس على الانقياد والاستسلام إلى أحكام الله وأوامره وتوجيهاته، ولخروجها من دائرة الهوى والتشهي والتلذذ، ولصرفها عن عالم الفساد والرذائل والشرور، إلى عالم الصلاح والفضائل والخير والسعادة.
وتعد مخالفة الهوى مشقة كبرى على النفس البشرية؛ إذ إن حمل هذه النفس على ما ذكرنا -من وجوب الانقياد إلى الأوامر والالتزامات، ولزوم الابتعاد عن الشهوات والنزوات واللذائذ غير المباحة، وضرورة انضباطها بقواعد الأخلاق والفضائل وخضوعها للحق والعدل والإنصاف- شاق عليها متعب لها، مخالف لرغباتها وتنزواتها؛ لكنه لازم في قيام مصالح الدين والدنيا.
فالشرع لم يأت إلا إلى إخراج الإنسان من دائرة هواه ونزواته إلا طريق الله المستقيم؛ ائتمارًا بالمأمور به، وانتهاءً عن المنهي عنه؛ وذلك عين المقاصد الشرعية المعتبرة التي لا تنفك عن مشاق ذلك وصعوبته، وتلك المشاق في الحقيقة ميسورة ومستطاعة إذا تعودت النفس على الطاعة والامتثال، وإذا رغبت ورهبت وأخلصت الأمر إلى خالقها سبحانه وتعالى. كما أن تحمل تلك المشاق موصل إلى تحقيق عديد المصالح والمنافع في الدنيا والآخرة،
ومبعد لمفاسد وأضرار اتباع الهوى ومسايرة النفس الأمارة بالسوء.
وعليه فإن مخالفة الهوى ومغالبة النفس، ومكابدة الشدائد في فعل الواجبات والالتزمات الشرعية على امتداد الأعمار والأطوار لا يعد من قبيل المشاق التي لا تطاق، أو المشاق الخارجة عن المعتاد والمألوف؛ بل هي من صميم التدين الصحيح والامتثال المطلوب والتكليف الهادف إلى صلاح الإنسان وسعادته في الدارين.
مخلص حقيقة المشقة وأنواعها وأمثلتها:
يمكن تلخيص حقيقة المشقة ضمن النقاط الثلاث التالية:
النقطة الأولى: المشقة نوعان:
أ- المشقة التي لا يقدر عليها المكلف:
وتشتمل المشقة التي لا يطيقها المكلف أصلًا، أو المشقة التي يطيقها؛ ولكنها خارجة عن المعتاد الديني والدنيوي، أي المشقة التي فيها التكليف بالزائد عن المطلوب والمأمور به، والتي توقع صاحبها في الملل والسآمة، وتشوش ذهنه وحاله، وتفوت عليه مصالحه ومنافعه وحاجياته الأخرى في الدين والدنيا.
ومثال هذا: دوم قيام معظم الليل، والتواصل في الصوم، وغير ذلك مما هو فوق تكليف المعتاد والمعهود من الشارع الحكيم، ومما هو موقع في تعطيل مصالح أخرى كثيرة، كمطلب الرزق والعمل وإهمال النفس والأهل والمجتمع.
ب- المشقة التي يقدر عليها المكلف:
وهي المرتبطة بسائر الأحكام والأوامر والالتزمات الشرعية في مجال العبادات والمعاملات والتصرفات المختلفة، وهذه المشقة لا تنفك عن التكليف ولا تتخلص منه، وهي تدور معه وجودًا وعدمًا، والتكليف لا يعد تكليفًا إلا إذا انطوى على ما فيه الكلفة الشرعية والمشقة اللازمة.
النقطة الثانية:
مشقة مخالفة الهوى لا تعد مشقة قاهرة، ولا تنضم إلى معاني الشدة والتعنت والتنطع والتعمق، ولا تعتبر من قبيل التكليف بما لا يطاق؛ بل هي مقدورة ومستطاعة ومشروعة لحمل الإنسان على التكليف والامتثال ولجلب مصالحه في العاجل والآجل، بجلب النفع له ودرء الفساد عنه، وتحقيق مرضاة الله عز وجل والفوز بجناته وأنعمه.
النقطة الثالثة:
المشقة المنوطة بالتكليف ليست مقصودة في ذاتها؛ وإنما المقصود المصالح العائدة على المكلف؛ وعليه فإن المكلف لا يجوز له أن يقصد المشقة لعظم أجرها، وله أن يقصد العلم الذي يعظم أجره لمشقته من حيث هو عمل.