الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: المشقة "حقيقتها-أنواعها-أمثلتها
"
المطلب الأول: المشقة التي يقدر عليها المكلف
…
المبحث الثاني: المشقة "حقيقتها -أنواعها- أمثلتها"
تتنوع المشقة بحسب القدرة على تحملها وعدمها إلى نوعين:
1-
المشقة التي يقدر عليها المكلف.
2-
المشقة التي لا يقدر عليها المكلف.
المطلب الأول: المشقة التي لا يقدر عليها المكلف
وهي المشقة التي يقدر عليها المكلف أثناء قيامه بما كلفه الله تعالى به في العبادات والمعاملات وغيرها.
ومثال ذلك: مشقة الصلوات وأدائها قي أوقاتها، وإدراكها في المساجد وحسن الاستعداد إليها، وتمام الاستفاد منها، وكذلك مشقة اللوم في الحر، ومشقة الحج وما فيه من عنت تغيير العوائد، ومخالطة الكثيرة من الناس، ووقوع التزاحم والتدافع، وحصول الفرقة والبعد عن الأهل والأوطان، وترك الأموال والأملاك والوظائف والمناصب، وكذلك مشقة الجهاد في سبيل الله تعالى ما فيه من ذهاب الحياة وزوال الأموال والأطراف، وكذلك الإنفاق المالي بصوره المعروفة "الزكوات، الصدقات، التبرعات" وما فيه من عنت مخالفة الهوى والراغبة في تحصيل الأموال وتجميعها، والتي تحب الخير وتسعى إليه وتستأنس به قال تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1.
1 سورة العاديات، آية 8.
فهذه المشقة ولئن بدا فيها الضيق والعنت والشدة ومخالفة الهوى ومكابدة المصاعب ومجاهدة النفس؛ إلا أنها أعباء ضرورية لا بد منها في قيام الأحكام وأداء التكليف.
فالأفعال الشرعية من عبادات ومعاملات وأنكحة وجنايات وكفارات مرتبطة بالمشاق والأعباء التي يقدر عليها المكلفون، والتي لا توقع أصحابها في الحرج والضرر، ولا تؤدي بهم إلى المفاسد والمهالك، وهي أمور تتلازم وترتبط بشكل وثيق ومتين بالأفعال والأعمال والأقوال والاعتقادات الشرعية والإسلامية؛ فالتكليف الشرعي لا يقوم إلا بها، وهي تدور معه وجودًا وعدمًا، والتكليف الشرعي لم يعتبر تكليفًا إلا لما فيه من الكلفة الشاقة، ولما ينطوي عليه من تحمل بعض الأتعاب والإجهاد النفسي والجسدي والعقلي الذي يؤهله لمرتبة التكليف المرجوة.
وحال هذه المشاق في الأعمال والأفعال الشرعية كحال المشقة في سائر أعمال الدنيا ومختلف الفنون والشئون والأحوال، وطلب الرزق والسعي في الأرض لتحصيله، ومزاولة الحرف والصناعات، والأسفار والرحلات والزيارات، وإنجاز الأفراح والزيجات والحفلات وتنظيم المناسبات والمهرجانات والملتقيات، وإعمار الأرض وتنميتها وتزيينها وتنظيمها.
كل ذلك فيه من المشاق والأعباء، ومن التعب والنصب ما يجعل استبعاد تلك المشاق الأعباء أمرًا معطلًا لقيام تلك الفنون والأعمال، ومفوتًا لمصالح المعاش والعباد، ومخربًا لنظام الحياة والوجود.
وخذ إن شئت مثال الأكل، ومثال الجماع لتدرك بمنتهى الوضوح
والجلاء ما لذينك الفعلين من المشاق والتكلفة والالتزامات، وهما على الرغم من ذلك فإنك تلحظ الإقبال عليهما والرغبة فيهما، وكيف أنهما من أمارات السعادة والسعة، ومن علامات الخير والرفاهية، ومن ضروب الطيبات والمباحات التي أنعم بها الخالق الأكرم جل جلاله تفضلًا وإحسانًا على عباده وخلقه.
فالأكل مسبوق بمشاق الضرب في الأرض، والبحث عن الرزق وتحصيله وإحضاره وتناوله، وهو متبوع بمشق هضمه وإفرازاته وإخراجه، وتطهير مواضعه من الآكل نفسه، ومن الأرض ومحيطها وبيئتها، ثم هو قد يتبع على المدى البعيد بآثار ورواسب من الأضرار والعيوب الصحية والنفسية والبيئية؛ بل إنه قد يتبع في الأجل الأبعد عند وفاة الإنسان وبعثه وحشره بسوء الخاتمة وسوء الحساب بسبب الكسب الحرام والأكل الحرام.
فقد لاحظت كيف أن الأكل باعتباره عملية يومية عادية، وشأنًا سعيدًا ومسعدًا، كيف أن المشاق قد أحاطت به من كل جانب، وكيف أن الآلام قد لازمته في أطوار مختلفة في المعاش والمعاد، في الدنيا والآخرة.
غير أن الأكل ظل ولا يزال أمرًا لا بد منه، وضرورةً لقيام النفس والحياة، وأن المشاق التي ينطوي عليها ويؤول إليها متلازمة لا تنفك عنه ولا تتخلص منه.
ما المثال الثاني الذي نورده للتدليل على أن المشاق المقدور عليها، ينبغي أن تتحمل للقيام بالتكليف؛ فهو مثال الجماع: فهو فعل محبوب ومرغوب، وطريق مشروع للتناسل والإعمار، وسبيل لحفظ الأعراض
القيم والأنساب، وإجراء لتنظيم الحياة والعلاقات، ودرء الفوضى والاضطراب، والهرج والمرج أي كثرة الاقتتال وشدته بسبب الوقوع في الأعراض والحرمات.
فالجماع المشروع الحلال موصوف بكل صفات الفضيلة والحسن والجمال، وهو استجابة للفطرة وسد للحاجة، وأداء لوظيفة التكليف والاستخلاف والإعمار، وهو فوق ذلك مدعو إليه ومرغوب فيه، ومَثْنِي عليه في نصوص الكتاب والسنة وغير ذلك مما يجعل الجماع أو النكاح مقصدًا معتبرًا، أو أصلًا وسبيلًا لمقاصد جمة، ومصالح عدة.
غير أن الجماع المحبوب والمرغوب فيه منوط بالمشاق والآلام، ومرتبط بالأتعاب والإعياء، فهو منوط بمشقة الاستعداد والتحضير، وأعباء الإنفاق والتربية والرعاية ومختلف صور التعب والنصب في القيام بواجب الزوجية والأبوة وربما الجدودة في مختلف الأطوار والأحوال؛ بل إنه مسئولية عظمى أمام الله تعالى إن لم تؤدَّ على حقها وبشروطها.
فهل لك بعد هذين المثالين من قول أو تفكير لإسقاط المشاق التي لا بد منها في القيام بالأعمال الدنيوية أو الأخروية.
إن الخلاصة لهذا كله أن المشقة المقدور عليها تُتحمَّل، وتَؤُدَّى لتحقيق التكليف وإنجازه وصحته.
أما المشقة غير المقدور عليها فإنها مدفوعة ومرفوعة، كما سنبين ذلك فيما يلي: