الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: حقيقة الأمية ومعناها
الأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يُعلَّم كتابًا ولا غيره؛ فهو على أصل خلقته التي ولد عليها.
والأمية كما جاءت في الحديث: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"1. معناها عدم الحساب والكتابة.
والناظر في واقع العرب أيام نزول الوحي يدرك أنهم كانوا يعتنون بعلوم كثيرة؛ غير أنهم لم يكونوا متغلغلين في العلوم الكونية والرياضيات2؛ وذلك راجع إلى طبيعة عصرهم في ذلك التاريخ الذي لم يشهد ما شهدته العصور اللاحقة من التطور والتدقيق والتخصص.
ومن تلك العلوم 3:
- علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر
…
- علوم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحب وهبوب الرياح المثيرة لها.
1 جزء من حديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصوم، باب: الشهر يكون تسعًا وعشرين.
2 هامش الموافقات: عبد الله دراز: 2/ 69.
3 الموافقات: 2/ 71 وما بعدها.
- علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية.
- المعارف الضّارة والباطلة، على نحو: الطِيَرة والكهانة والضرب بالحصى وخط الرمل.
فقد أبطلت الشريعة ذلك، وأقرت الفأل الحسن.
- علم الطب المأخوذ من تجارب الأميين والأقدمين.
- العلم بفنون البلاغة والفصاحة.
- العلم بضرب الأمثال.
- التمسك بأصول فضائل كثيرة، على نحو القراض، وتقدير الدية، وضربها على العاقلة، وإلحاق الولد بالقافة، والوقوف بالمشعر الحرام، والحكم في الخنثى، والقسامة، وتوريث الولد للذكر مثل الانثيين، وقد أقر الإسلام تلك الفضائل وأبطل ما كان باطلًا على نحو: الميسر والخمر والربا والثأر.
فمعنى كون الشريعة أمية:
أ- أن الذين تلقوها أميون، أي: على أصل خلقتهم وفطرتهم، لم يتعلموا كثيرًا من العلوم من ولم يتغلغلوا فيها.
ب- أنا لو كانت غير أمية لما تيسر فهمها وتعقلها وتطبيقها، وهي مع ذلك شريعة عالمية وكونية وعامة وشاملة وصالحة لكل زمان ومكان.
فقد تبين لك مما ذكرنا أن الأمية لا تعني الجهل المطلق بالأشياء والحقائق أو انعدام المعرفة بسائر الفنون والعلوم الأدبية والإنسانية والكونية، وإنها يعني من ناحية عدم التغلغل في العلوم الكونية
والرياضيات بصفة خاصة، ومن ناحية ثانية، تعني الأمية: وصفا جاء التشريع على وفقه، بأن ورد التكليف بما عهد عند العرب في لغتهم وأساليب تخاطبهم وما كان معروفًا عندهم؛ فلم يخاطبهم التشريع بما لا يعرفونه أو لا يفهمون معناه سواء من جهة اللفظ ودلالته وأسلوبه، أو من جهة أدوات الفهم التي تكون فوق طاقتهم العلمية والإدراكية، كأن يشترط العلم بدقائق العلوم وجزئياتها النظرية والتطبيقية في علم الحياة والكون والنفس والتاريخ وغير ذلك. والمقصد من كل ذلك هو تمكين العرب زمن الرسالة، وسائر جمهور الناس في مختلف الأزمان والبقاع من فهم التكليف والقدرة على تطبيقه والقيام به. ومن ثم تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلا، ليسعه الدخول تحت حكمها. أي أن المكلف الأمي وغيره يكون بوسعه فهم التكليف واستيعابه وتعقله وتمثله، ويكون بوسعه الإتيان بذلك التكليف والقدرة على تطبيقه؛ سواء أكان ذلك التكليف متعلقًا بمجال العقدية والإيمان والتصور والتصديق، أم كان متعلقًا بمجال العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات وسائر ما تتعلق به الأحكام ومطالب الشارع، وأمرًا ونهيًا، إعمالًا وإهمالًا.
والحق أن جعل المكلف الأمي وغيره قادرًا على فهم التكليف وتطبيقه، هو مقصود الشارع من وضع الشريعة والتكليف بها؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لكن ذلك التكليف خارجًا عن طاقة المكلف، وإلزامًا بما لا يقدر عليه ولا يستطيع تطبيقه، وهذا كله محال
ثم إن نزول الوحي بمعهود لسان العرب يشير إلى حقيقة الإعجاز القرآني، وكونه مما لا يمكن الإتيان بمثله على الرغم من نزوله على وفق أسلوب العرب وطريقتهم في التخاطب والتحادث؛ فقد تحداهم الوحي بشيء يعرفونه ويمارسونه بل يتقنونه يتفننون فيه أيما تفنن، ويبدعون فيه غاية الإبداع، ولو لم يكن القرآن الكريم نزل بمقتضى عادة العرب في تخاطبهم وأساليب لغتهم ما كان لوجه الإعجاز معنى ولا فائدة؛ إذ يمكن لهؤلاء العرب، ولغيرهم أن يبرروا عدم القدرة على الإتيان بمثل القرآن -مبنى ومعنى- بكون واردًا بأسلوب لا يعلمونه ولا يفهمونه، وما كان كذلك فلا يوقعهم في التعجيز والتحدي والإفحام.