الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان موافقا لقصد الشارع، أو أن يحتاط كثيرًا كي لا يقع في المزالق والانحراف إن هو اتبع هواه وشهواته في أفعال لا تخالف الشرع، ولا تناقض قصد الشارع؛ لأن اتباع الهوى، ولو جاء في ضمن المحمود والمشروع قد يُفضي بصاحبه إلى الوقوع في الرياء والشهرة، وفي تحصيل الأغراض واللذائذ، وجلب محاسن الناس وثنائهم ومدحهم وعطائهم، وكل هذا مخالف للمشروع ومبطل للعمل وموجب للخسارة في الدارين، والعياذ بالله.
المطلب الثالث: المقاصد الأصلية والتبعية
تنقسم المقاصد الشرعية من حيث الأصلية والابتداء، ومن حيث التبعية والتتميم إلى المقاصد الأصلية، والمقاصد التبعية.
1-
تعريف المقاصد الأصلية:
المقاصد الأصلية: هي المقاصد التي قصدها الشارع أصلًا وابتداءً وأساسًا، أي: قصدها بالقصد الأول الابتدائي وهي المقاصد الأولى والغايات العليا للأحكام.
وقيل: إنها الضروريات التي لا حَظَّ للمكلف فيها، بمعنى أنه ملزم بفعلها وحفظها، أحبَّ أم كره، اختيارًا اضطرارًا.
أمثلتها باختصار:
أ- المقصد الأصلي للزواج: التناسل وإعمار الكون.
ب- المقصد الأصلي لطلب العلم: التعبد والطاعة والبيان والتعليم والتبليغ.
ج- المقصد الأصلي للصلاة وعبادة الله وإفراده بالخضوع والذكر والامتثال.
د- المقصد الأصلي لحضور المحاضرات: التحصيل العلمي والتزود بالمعارف والفنون.
2-
تعريف المقاصد التبعية أو التابعة:
المقاصد التابعة هي المقاصد والحِكم التي قصدها الشارع تبعًا وتكملة وتتميمًا للمقاصد الأصلية؛ فهي مشروعة بالقصد الثاني التابع للقصد الأصلي، وبقصد التكميل والتتميم.
وقيل: إنها المقاصد التي روعي فيها حظ المكلف وتدخل فيها حاجياته وكمالياته، أي مطالبة الحاجية التي تقرب من الضرورية، أو التي تخدم الضرورية وتكملها وتتمها، ومطالبة التحسينية التي تؤخذ بها من أجل تحقيق أكمل المراتب وأزين الحالات، وأحسن أوضاع المعاش والمعاد.
أمثلتها باختصار:
1-
المقصد التابع للزواج هو الاستمتاع بالزوجة، والأنس بالذرية، وتحصيل المودة والسكن والرحمة والتجمل بمال المرأة، وغير ذلك.
2-
المقاصد التابعة لطلب العلم هو تحصيل الشرف العلمي، ونفوذ القول، وجلب الاحترام والمناقب الحميدة والمآثر الحسنة.
3-
المقصد التابعة للصلاة هو حصول الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وإعلان الآذان وإظهار شعائر الإسلام.
4-
المقصد التابع لحضور المحاضرات والحضور، والمشاركة والانتباه.
ولذلك جعل الحضور شرطًا تابعًا ومكملًا لتحصيل العلم؛ إذ لو انعدم الحضور لعدم المقصد الأصلي، والذي هو تحصيل العلم وترسيخ المعارف في النفس.
تفصيل الأمثلة كما ذكرها الشاطبي:
ذكر الشاطبي أمثلة كثيرة للمقاصد الأصلية والتابعة يمكن الرجوع إليها في موضعها قصد زيادة التعرف والتبيين، ويمكن إيراد بعضها بإيجاز شديد:
1-
المقصد الأصلي للصلاة هو الخضوع إلى الله تعالى، وإفراده بالتوجه وإتمام المذلة والصَّغَار بين يديه تعالى، وما أشبه ذلك.
أما مقاصدها التبعية فهي: النهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، وطلب الرزق بها، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة والحاجة، ونيل الفوز بالجنة والنجاة من النار.
2-
المقصد الأصلي للصيام الخضوع والعبادة والامتثال، والمقاصد التابعة الدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة، وسد منافذ الشيطان.
قال الشاطبي: "وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله"1.
1 الموافقات: 2 / 400.
المقارنة بين المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة:
يمكن بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين المقاصد الأصلية والتابعة فيما يلي:
1-
المقاصد الأصلية والتابعة: كلاهما من قبيل المقاصد الشرعية التي قصدها الشارع في أحكامه وهديه، وهي كلها تشكل جوهر المقاصد وحقيقتها، وتفضي إلى تحقيق الصلاح والنفع والخير في الدنيا والآخرة، للفرد والمجتمع والأمة وكافة الإنسانية وسائر المخلوقات.
2-
المقاصد الأصلية والتابعة: كلاهما ثابت بالأدلة الشرعية المعتبرة، فهي متفرعة عن تلك الأدلة، ومستخلصة منها بالتنصيص والإجماع والاستنباط والاجتهاد والاستقراء.
3-
المقاصد الأصلية: هي الأصل والأساس والثابتة ابتداء وأولًا، والمقاصد التابعة وكما يدل عليها اسمها ثابتة بالتبع، وخادمة ومكلمة للمقاصد الأصلية.
4-
المقاصد الأصلية: ليس يها حظوظ للمكلف كليًا أو غالبًا، بخلاف المقاصد التابعة ففيها ما لا يحصى من الحظوظ والمنافع التي هواها الإنسان ويريدها، وتتماشى مع شهوته ورغبته، وليس معنى خلو المقاصد الأصلية من الحظوظ انتفاء الصلاح والنفع فيها؛ وإنما يعني فقط أن المكلف قد لا يقصدها ولا يفعلها لأنها جارية على غير هواه وشهواته، بل يُلزم بقصدها وفعلها أحبَّ أم كره.
ومثال ذلك:
الزواج: فإن المكلف يقصده؛ لما في فعله من مسايرة هواه وجلب
منافعها من استمتاع وأنس وسكن ومحبة، وإن لم يقصد الأساس الإسهام في إعمار الكون، وبقاء النسل، وغير ذلك مما قد لا يساير هواه، ولا يلاحظ له كبير أثر في الانتفاع بالحظوظ واللذائذ.
وما يجدر التأكيد عليه أن المقاصد الأصلية والتابعة مفضية كلها إلى جلب حظوظ ومنافع الدارين، وحصول السعادة في العاجل والآجل، في المعاش والمعاد، في الأولى والأخرى.
وذلك يكون بإخراج المكلف من دائرة هواه ورغباته غير المشروعة، وإدخاله في صراط الله المستقيم، ووضعه في منهج الصالحين المتقين الذين يطلبون التكليف، ويفعلون الامتثال، ويؤدون رسالة التعبد والتدين وواجب الاستخلاف والإصلاح سواء وافق ذلك هواهم ورغباتم وشهواتهم أم لم يوافق.
5-
مراعاة المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص، وأعمق في الانقياد، وأتم في القصود الخالصة والنيات الصادقة؛ بخلاف مراعاة المقاصد التابعة الذي قد تشوبها شائبة الجري وراء الشهوات العابرة والحظوظ العاجلة؛ الأمر الذي قد يخشى معه من حصول الشبهات في أداء واجب التكليف، ومن حصول العواقب الوخيمة، والمآلات السيئة بانتهاء التكليف إلى ما يخالف مراد الشارع ويجلب الخسران، والهلاك والعياذ بالله.
6-
المقاصد الأصلية تختلف عن المقاصد التابعة من حيث تأكيد طلب الفعل وتحتيمه والتشديد فيه فالمقاصد التابعة طلب فعلا طلبًا أقل تأكيدًا وتشديدًا من المقاصد الأصلية؛ ولذلك لأن المقاصد التابعة مسايرة لما جبل عليها الإنسان، وموافقة لرغباته وملائمة لطبعه، فلا يحتاج إلى
زيادة التأكيد على الفعل والالتزام؛ ففي مثال طلب العلم، يكون المقصد الأعلى كما ذكرنا يتعلق بالتعبد والطاعة وتخليص نية المتعلم والعالم من الشرك والرياء وحب السمعة الشهرة، ولذلك وقع التأكيد في مواضع كثيرة، وبصيغ وكيفيات قاطعة وملزمة على تحري ذلك المقصد وتحصيله وملازمته.
أما المقصد التابع فيتمثل في شرف المرتبة، ونفوذ القول، وجلب الاحترام والتقدير، وحظ التقديم والتفضيل، وغير ذلك ما هو مرجو، ومقصود من قبل صاحب العلم وعموم الناس، ولا يحتاج إلى زيادة التشديد في طلبه والتأكيد على فعله واستحضاره؛ ففطرة الإنسان آيلة إليه، وطباع البشر وجبلاتهم تنشده وتسعى إليه، وتجاهد من أجل تحصيله وتحقيقه.
مرتب المقاصد التابعة وحكمها وحجيتها:
قلنا: بأن المقاصد التابعة تخدم وتكمل المقاصد الأصلية؛ فبينها وبين المقاصد الأصلية علاقة تكامل وتتميم، فانتفاء المقاصد الأصلية يؤدي لا محالة بصورة قطعية ويقينية إلى تفويت وتعطيل المقاصد التابعة، أما اختلال أو انتفاء المقاصد التابعة؛ فإنه يؤدي إلى اختلال أو انخرام كلي أو أغلبي للمقاصد الأصلية، وعليه فإن مراتب المقاصد التابعة من حيث تعلقها بالمقاصد الأصلية، أو من حيث تأكيدها وخدمته للمقاصد الأصلية ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى:
المقاصد التابعة المؤكدة والمقوية للمقاصد الأصلية، وتسمى: المقاصد التابعة المشروعة:
هذ المرتبة من المقاصد مقوية ومؤكدة للمقاصد الأصلية؛ فهي إذن مشروعة ومأذون فيه؛ لأنها مؤدية إلى تحقيق المقاصد الأصلية، وواقعة ضمن المباح والمشروع والمأذون فيه، ويجوز للمكلف قصدها وفعلها، وهذه المرتبة تقع في مجال العبادات وفي مجال المعاملات.
ففي مجال العبادات كأن يقصد المكلف في تعبده توفيق الله وتأييده واستجابة دعائهن، وأن يحظ له نفسه وأهله وأولاده وماله وأمنه، وكل هذه القصود والأعمال راجعة بحظوظ ومنافع للمكلف في العاجل قبل الآجل؛ غير أن هذه الحظوظ الواقعة في دائرة المشروع والمباح، ومقوية ومؤكدة للمقاصد الأصلية.
وفي مجال المعاملات والعادات، كأن يقصد المكلف النكاح باعتبار قصد التناسل والإعمار، وباعتبار الاستمتاع بالزوجة وتحقيق السكن والمودة والرحمة والألفة والتوافق وغير ذلك مما يؤدي إلى تقرير المقصود الأصلي المتعلق بالتناسل والتوالد والإعمار.
المرتبة الثانية:
المقاصد التابعة المضادة للمقاصد الأصلية والمعارضة لها، أو التي تُسمى المقاصد التابعة غير المشروعة.
وتشمل هذه المرتبة جميع المقاصد التابعة المعارضة للمقاصد الأصلية، والتي تعود عليها بالإبطال والإلغاء، وما كان كذلك فهو ممنوع وملغي ومردود.
وهي واقعة كذلك في مجال العبادات والمعاملات:
ففي مجال العبادات، كأن يقصد العابد بتعبده جلب الشهرة والسمعة، وكسب ثناء الناس وأموالهم واستعطاف قلوبهم؛ فهذا لا شك في بطلانه وفساده؛ إذ أصل العبادة ومقصودها الأساسي إفراد الله بالعبادة والتوجه، وتخليص القصود من كل شوائب النفاق والرياء والتظاهر؛ ليقال فلان عابد وزاهد وتقي وصالح.
وفي مجال المعاملات؛ كأن يتزوج من أجل المتعة الجنسية أو يتزوج بنية التوقيت والتطليق، أو يتزوج لتحليل المرأة لزوجها الأول الذي طلاقها ثلاثًا؛ ففاعل ذلك فاعل لقصد معارض للقصد الأصلي من الزواج، والذي والتناسل؛ ولذلك يحكم على كل ذلك بالفساد والمنع، لانخرام واختلال المقصد الأصلي.
المرتبة الثالثة:
المقاصد التابعة الواقعة بين المرتبتين: مرتبة التكميل والتأكيد، ومرتبة المعارضة والمضادة.
وهذ المرتبة مختلف فيها، ويمكن أن تلحق بإحدى المرتبتين المذكورتين "مرتبة التكميل والتأكيد، ومرتبة المعارضة والمضادة. بحسب النظر الشرعي الصحيح، والبحث الاجتهادي الأصيل.
ومثال ذلك:
تحصيل العلم وتأليف الكتب قد يكون مقصوده الأصلي التعبد والطاعة، وقد يقصد المكلف حمد الناس وشكرهم ومدحهم، فيُحكم على هذا القصد بالمنع والفساد، إذا كان المبعث الرياء والسمعة والشهرة، ويحكم عليه بالجواز والصلاح إذا كان المبعث التربية بالقدوة، والحث على طلب العلم ونشره.
فالحكم الأول: يجعل القصد من قبيل المرتبة الثانية، أي من قبيل المقاصد التابعة المؤكدة المقوية للمقاصد الأصلية.
أما الحكم الثاني: فإنه يجعل القصد من قبيل المرتبة الأولى، أي من قبيل المقاصد التابعة المؤكدة والمقوية للمقاصد الأصلية.
وإذا كان القصد الأصلي تابعًا للقصد التبعي فلا شك أن البطلان، ولا خلاف في فساد القصد التبعي؛ لأنه حلَّ محل المقصد الأصلي.
ذكر الشاطبي تفاصيل مهمة لهذه المراتب وبينَّها بالتمثيل الموسع والتعليق المفيد فليرجع إليه في مظانه1.
1 انظر الموافقات: الجزء2، مبحث المقاصد الأصلية والتابعة.