الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: مقاصد العبادات الأصل في العبادات التوقيف
العبادات هي جملة الأقوال والأعمال التي يقوم بها المكلف بكيفية مخصوصة على سبيل التقرب إلى الله تعالى والامتثال والانقياد والخضوع إليه.
والعبادات محددة ومبينة إجمالًا وتفصيلًا، تم ضبطها وبياها وتفصيلها وشرحها في نصوص القرآن الكريم، وفي السنة النبوية القولية والفعلية والإقرارية.
وهي ثابتة وباقية ودائمة إلى يوم القيامة، لا ينبغي تغييرا وتبديلها، ولا يجوز البتة الزيادة فيها أو التنقيص منها؛ لذلك منعت البدعة والزيادة، كما مُنع التهاون والتقصير والتنقيص، وليس على المكلف إلا أن يلزم الأمر الشرعي، والإلزام الرباني الذي بين العبادة المطلوبة للشارع والمرادة له.
فمقصود الشارع في العبادة والطاعة أن يعبدوه ويطيعوه كما أمرهم وكلفهم، وليس كما اشتهوا واجتهدوا وغيَّروا ولذلك تقررت القاعدة الشرعية المقاصدية المعروفة:"لا يُعبَد الشارع إلا بما شرع".
قال الشاطبي: "إن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة قلبه بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجواره حاضرًا مع الله ومراقبًا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته"1.
توقيفية العبادات لا يعني خلوها من الحِكم والفوائد والمصالح:
القول بأن العبادات توقيفية غير معللة لا يعني البتة خلوها من المصالح والحِكم والفوائد؛ وإنما يعني فقط ثبوتها ودواما على ذلك الأمر؛ كي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، وكي يتحقق منها واجب التدين والتعبد والامتثال؛ إذ لا يعد الإنسان مطيعًا ومنقادًا إلا إذا فعل ما أمر به من مطيعه على الوجه الذي أراد وبالكيفية التي طلب؛ فالعبد إذا أعطي لسيده عصيرًا، وقد طلب منه ماء لا يعد مطيعًا، والمكلف الذي يصوم كل عمره بلا انقطاع لا يعد عابدًا ولا متقربًا؛ لأنه فعل ما يخالف أمر الله في الصوم ومراده فيه؛ إذ الصوم لم يشرع إلا في أزمنة معينة، وليس كامل حياة الإنسان، ولم يؤمر به إلا لاشتماله على منافع وحكم كثيرة في الدنيا والآخرة، وقد جمع الله تعالى كل تلك المنافع والحكم في مقصود جامع وهدف كلي، هو بلوغ التقوى وتحصيلها {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} ، وأرقى درجات تلك التقوى وأعلى مراتبها: عبادة الله، والامتثال إليه في عبادة الصوم التي جعلها الله تعالى لنفسه دون غيره:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"2.
ولعل معنى هذا أن الصوم امتناع عن الفعل بخلاف العبادات الأخرى التي
1 الموافقات: 2/ 301 وما بعدها.
2 أخرجه البخاري من كتاب اللباس باب ما يذكر في المسك.
هي أداء وقيام بالفعل كالصلاة والزكاة والحج، وما كان كذلك فمن الصعب غالبًا أن يكتشفه الناس ويعلموا به؛ ولذلك نسبه الله تعالى لنفسه الدالة على شدة الإخلاص فيه، وخلوه من شوائب الرياء والسمعة والشهرة.
والعبادات كلها معللة، أي: مشروعة لعلل وحكم وفوائد في الدنيا والآخرة، للفرد والمجتمع؛ غير أن ذلك التعليل يكون على ضربين:
1-
كل العبادات معللة في الجملة والعموم بجلب مصالح الناس ومنافعهم في الدنيا والآخرة، وتلك المصالح ولمنافع تُجلَب بطاعة الله وعبادته، والخضوع والانقياد إليه.
وقد علم يقينًا وقطعًا أن العبادة مشروعة؛ لا يعود على العابد من مصالح الدنيا والآخرة، بتحقيق الأمن والسلامة، والفوز بمرضات الله وجناته؛ فالله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، لا تضر معصية العاصين.
2-
بعض العبادات التفصيلية معللة بما يجلب للإنسان بعض المنافع الظاهرة والدنيوية، كالطهارة، ورفع الحرج والشدة والمشقة غير المعتادة.
ومثال ذلك:
قوله تعالى في الطهارة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 1.
وقوله في الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} 2.
1 سورة المائدة، آية 6.
2 سورة الحج، آية 28.
وقوله في الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1.
وقوله في جماع الزوجة في الحيض: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا} 2 وغير ذلك كثير.
فتعليل بعض الأحكام التعبدية ببعض المنافع والفوائد الدنيوية مقرر ومعلوم وثابت؛ غير أنه ليس المقصود الأول، ولا المطلوب الأصلي؛ وإنما هو يأتي في المرتبة الثانية بعد مرتبة التعبد والطاعة والامتثال؛ إذ المقصد الأصلي من العبادات هو الخضوع والانقياد، والمقصد التبعي هو نيل بعض الحظوظ والمنافع العاجلة؛ ولكن يشترط في المقصد التبعي، أو قصد الحظوظ والمنافع أن لا يكون المقصدَ الأول والمراد الأصلي؛ بل لا بد أن يكون المقصد الأصلي في الأول والأخير: عبادة الله والخضوع إليه، وطلب عفوه ومرضاته وجناته.
فالقول بكون أصل العبادات التعبد والتوقيف، وعدم الالتفات إلى المعاني، لا يعني -كما ذكرنا- خلو تلك العبادات من الفوائد والمعاني والحكم، ولا يعني كذلك إجراء الأقيسة على تلك العبادات، المقدرة، وإيجاد عبادات أخرى، أو إحداث الزيادة أو التنقيص في تلك العبادات؛ فقد يقول البعض: إذا كان القصد من العبادة هو التقرب من الله؛ فلماذا لا نكلف الإنسان بعبادات أخرى حتى يكون قربه من الله أكبر وأعمق؟
وقد يقول البعض: إذا كان الأذان مشروعًا للإعلام والنداء والتجميع،
1 سورة التوبة، آية 103.
2 سورة البقرة، آية 222.
فلماذا لا نشرع الأذان في العيدين والكسوفين، كي نحقق المقصود منه، وهو الإعلام والنداء والتجميع؟
وقد يقول البعض: إذا كانت الصلاة راحة للنفس والبال، واطمئنان الجماعة، وتوحدهم في الصف وفي الحياة، لماذا لا نؤديها جلوسًا على الكراسي، بدلا من الوقوف الذي قد لا يحدث الراحة، والاطمئنان، والوحدة أو النظام أو غير ذلك؟
وقد يقول البعض: إذا كان الحج مشروعًا لجلب المنافع؛ فلماذا لا نقتصر على بعض أعماله وأركانه، ولماذا لا نتجنب مواضع الازدحام الشديد المفضي إلى الهلاك الشديد، وإلى تفويت المنافع الكثيرة والفوائد الجليلة، كفائدة الراحة والاستراحة، والبعد عن محيط الأوساخ والتلوث البيئي والاجتماعي، لا سيما في أوقات الذورة القصوى، كيوم عرفات، وأيام مني، وغير ذلك؟.
والحق أن أقوال الناس وتخيلاتهم لا تنتهي لو تركت العبادات إلى أهوائهم وتشهياتهم، أو لو شرعت من أجل ما فيها من المعاني والفوائد فقط أو غير ذلك.
ولذلك كله حددت العبادات وضبطت على سبيل الإجمال والتفصيل، وإلى سبيل التعبد والتقرب، وهي مشروعة لصلاح الناس وإسعادهم في الدارين، بتحقيق مرضاة الله والفوز بجناته في الآخرة، وبتحصيل المنافع والحظوظ الدنيوية التبعية المتفرعة عن أصيلة التعبد والامتثال.
مقاصد بعض العبادات:
المقصد الأصلي للعبادات -كما ذكرنا- هو تحقيق العبودية لله والانقياد له.
وهناك بعض المقاصد التبعية والثانوية لتلك العبادات تفصيلًا وإجمالًا.
ويمكن أن نورد هذا بعض تلك المقاصد التبعية لفرائض الصلاة والزكاة والصوم والحج والكفَّارات على النحو التالي:
مقاصد الصلاة:
- تحقيق مبدأ الامتثال والانقياد في نفس المصلي، وتعويده على الطاعة والتعبد والانتظام في منهج التكليف والاستخلاف.
- إصلاح النفس وتهذيبها، وتخليصها من الفواحش والمنكرات والهواجس والأوهام، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1.
- انشراح الصدر وطمأنة القلب وإراحة البال، ولذلك قال الرسول صلى اله عليه وسلم لبلال:"أرحنا بها يا بلال". كما شُرعت الطهارة والصلاة للغضبان والمصاب والمكروب وغيرهم.
- تحقيق الآثار الاجتماعية والإنسانية وتنميته، على نحو الأخوة والتضامن والتواضع والمواساة، ونفي الفُرقة ولتمييز والتفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الغنى أو الفقر أو الجاه أو المحسوبية أو ما شابه ذلك؛ فالكلُّ موقوفون ومصطفون في مكان واحد بين يدي الله الواحد الأحد الفرد الصمد.
مقاصد الزكاة:
- تحقيق مبدأ الامتثال والانقياد لله تعالى، وتقرير شكره وحمده والثناء عليه.
1 سورة العكبوت، آية 45.
- تطهير نفس المزكِّي من الشح والأنانية، ومن عبادة المال وتقديسه.
- تثبيت أصيلة الإنفاق والعطاء والبذل في نفس المزكي.
- تطهير المال من الآفات والنقصان والتلف والتآكل، وقد جاء في كثير من الأدلة أن الزكاة والصدقات تزيد المال كمًا وبركةً، وتُنمِّيه، وتُبعد عنه الآفات والكوراث والجوائح.
قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1.
قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 2.
قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 4.
ثم أن المزكي يلحق به وبأهله وذريته وذويه بركات وآثار دعاء الناس، وثناء الفقراء وشهادة الملائكة، وجزاء الخالق الكريم في العاجل والآجل، مما يكون سببا في زيادة الأموال ونمائها وبركتها وسلامته من النقصان والضياع والتلف.
- تحقيق أواصر التضامن والتآلف والتراحم والتواد، مما يكون له كبير الأثر على مستوى وحدة المجتمع وقوته مَنَعَته، وسلامته من الأحقاد والضغائن والتحاسد والتباغض.
1 سورة التوبة، آية 103.
2 سورة سبأ، آية 39.
3 سورة البقرة، آية 268.
4 سورة الروم، آية 39.
- تنمية المجتمع وتطوير تجاراته وصناعاته ومهنه وحرفه وتقوية اقتصادياته ومعاملاته بترويج المال وعدم كنزه وإدخاره، بِسدِّ حاجات الفقراء والمساكين، وتخليص أصحاب الديون والأسرى والمحبوسين والغارمون، وفي الرقاب؛ لكي ينطلقوا في الأرض عملًا وإنتاجًا وإبداعًا، وكل ذلك له في علم الاقتصاد دوره في تقوية التنمية والاقتصاد النماء الحضاري بشكل عام.
مقاصد الصيام:
- تحقيق مبدأ الامتثال والانقياد إلى الله تعالى.
- تحقيق التقوى، والوقاية من كل العيوب والأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية.
- سد منافذ الشيطان وتضييقها، مما يكون له الأثر في إزالة المعاصي والمنكرات أو تنقيصها وتقليلها.
- تذكر الفقراء والمحتاجين والمعوزين.
- تذكر هموم الآخرة وأهوالها، بسبب العطش الشديد والجوع الشديد في أرض المحشر، وفي نار جنهم، والعياذ بالله.
- تعويد الصائم على الصبر والتضحية، ومواجهة أعباء الحياة ومشاقها وآلامها.
مقاصد الحج:
- تحقيق العبودية والامتثال، لما فيه من الأعمال والأقوال التي تعظِّم الرب تبارك وتعالى، وتعظم شعائره ومناسكه وأوامره.
- تحقيق المساواة والوحدة والقوة.
- تذكير الناس بيوم الحشر والإنسان ودفنه وتركه وحيدًا في قبره.
- تحصيل بعض المنافع والفوائد الاقتصادية والاستطلاعية.
مقاصد الكفارات:
- تحقيق الامتثال والانقياد، وتقرير أصلية العبادة ومهابتها وتعظيمها وعدم التهاون فيها.
- إصلاح الأخطاء وجبرها، وكالإفطار عمدًا في رمضان، والحنث في اليمين.
- إراحة النفس من هموم التفكير في المعصية والانحراف والتعدي على حق الغير.
- تحرير العبيد وإطلاق سراحهم، وإطعام الجائعين والمحتاجين وسد حاجاتهم ومطالبهم، وقد كان من أصناف الكفارة عتق الرقبة، وإطعام المساكين.
- زجر المخطئين كي لا يعودوا إلى ممارسة الخطأ مرة أخرى، وفي هذا تأكيد على إصلاحهم وتهذيب سلوكهم وتربيتهم على عدم التشوف إلى المعاصي والمنكرات، وعدم الالتفات إليها وكراهة معاودتها وتكرارها.