الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ عَن معن عَن مَالك عَن أبي النَّضر وَحده بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة الْمرَادِي الْمصْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: عَن أَحْمد وَإِسْحَاق من أَن حَدِيثي عَائِشَة مَعْمُول بهما، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وَبَقِيَّة الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم خلافًا لمن منع الِانْتِقَال من الْقيام إِلَى الْقعُود عِنْد عدم الضَّرُورَة لذَلِك، وَهُوَ غلط، كَمَا تقدم وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع أخبرنَا خَالِد وَهُوَ الْحذاء عَن عبد الله ابْن شَقِيق (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ: سَأَلتهَا عَن صَلَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن تطوعه؟ قَالَت: كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَويلا قَائِما وليلاً طَويلا قَاعِدا، فَإِذا قَرَأَ وَهُوَ قَائِم ركع وَسجد وَهُوَ قَائِم، وَإِذا قَرَأَ وَهُوَ جَالس ركع وَسجد وَهُوَ جَالس) . قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه بَقِيَّة السِّتَّة خلا البُخَارِيّ، فَرَوَاهُ مُسلم عَن يحيى بن يحيى وَأَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَفِي بعض النّسخ عَن أَحْمد بن منيع كِلَاهُمَا عَن هشيم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد وَالنَّسَائِيّ عَن أبي الْأَشْعَث، كِلَاهُمَا عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن خَالِد الْحذاء، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة حميد الطَّوِيل، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ: حَدثنَا الْأنْصَارِيّ حَدثنَا معن حَدثنَا مَالك بن أنس عَن ابْن شهَاب عَن السَّائِب بن يزِيد عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة السَّهْمِي (عَن حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلى فِي سبحته قَاعِدا حَتَّى كَانَ قبل وَفَاته بعام، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي سبحته قَاعِدا وَيقْرَأ بالسورة ويرتلها حَتَّى تكون أطول من أطول مِنْهَا) . وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. فَإِن قلت: بَين حَدِيثي حَفْصَة وَعَائِشَة مُنَافَاة ظَاهرا؟ قلت: لَا، لِأَن قَول عَائِشَة: كَانَ يُصَلِّي جَالِسا، لَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون صلى جَالِسا قبل وَفَاته بِأَكْثَرَ من عَام، فَإِن كَانَ لَا يَقْتَضِي الدَّوَام بل وَلَا التّكْرَار على أحد قولي الْأُصُولِيِّينَ، وعَلى تَقْدِير أَن يكون صلى فِي تطوعه جَالِسا قبل وَفَاته بِأَكْثَرَ من عَام فَلَا يُنَافِي حَدِيث حَفْصَة، لِأَنَّهَا إِنَّمَا نفت رؤيتها، لَا وُقُوع ذَلِك جملَة وَفِي الْبَاب عَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرج حَدِيثهَا النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي إِسْحَاق السبيعِي (عَن أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة قَالَت: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، مَا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ أَكثر صلَاته قَاعِدا إلاّ الْمَكْتُوبَة) . وَعَن أنس أخرج حَدِيثه أَبُو يعلى قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بكار حَدثنَا حَفْص بن عمر قَاضِي حلب حَدثنَا مُخْتَار بن فلفل (عَن أنس بن مَالك، أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلى على الأَرْض فِي الْمَكْتُوبَة قَاعِدا، وَقعد فِي التَّسْبِيح فِي الأَرْض فَأَوْمأ إِيمَاء) وَحَفْص بن عمر ضَعِيف، وَعَن جَابر ابْن سَمُرَة أخرج حَدِيثه مُسلم من رِوَايَة حسن بن صَالح عَن سماك بن حَرْب (عَن جَابر بن سَمُرَة: أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يمت حَتَّى صلى قَاعِدا) . قَالَ شَيخنَا زين الدّين: هَكَذَا أدخلهُ غير وَاحِد من المصنفين فِي: بَاب الرُّخْصَة فِي صَلَاة التَّطَوُّع جَالِسا، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِك، فَلَعَلَّ جَابِرا أخبر عَن صلَاته وَهُوَ قَاعد للمرض، وَعَن عبد الله بن الشخير أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة زيد بن الْحباب عَن شَدَّاد بن سعيد عَن غيلَان بن جرير (عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير عَن أَبِيه قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي قَائِما وَقَاعِدا وَهُوَ يقْرَأ {أَلْهَاكُم التكاثر} حَتَّى خَتمهَا.
لَيست الْبَسْمَلَة مَذْكُور فِي رِوَايَة أبي ذَر.
91 -
(كتابُ التَّهَجُّدِ)
1 -
(بابُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّهَجُّد بِاللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني من اللَّيْل وَهُوَ أوفق للفظ الْقُرْآن، وَفِي بعض النّسخ: كتاب التَّهَجُّد بِاللَّيْلِ.
وَقَوْلُهُ عز وجل وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ
وَقَوله: بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله، دَاخل فِي التَّرْجَمَة، وَزَاد أَبُو ذَر فِي رِوَايَة: أسهر بِهِ، وَحَكَاهُ الطَّبَرِيّ كَذَلِك، وَفِي كتاب (الْمجَاز) لأبي عُبَيْدَة {فتهجد بِهِ} (الْإِسْرَاء: 97) . أَي: إسهر بِصَلَاة، يُقَال: تهجدت أَي سهرت، وهجدت أَي: نمت وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني عَن صَاحب (الْعين) : هجد الْقَوْم هجودا: نَامُوا، وتهجدوا أَي: استيقظوا للصَّلَاة أَو لأمر، قَالَ تَعَالَى:{فتهجد بِهِ} (الْإِسْرَاء: 97) . أَي: انتبه بعد النّوم، واقرأ الْقُرْآن، وَقَالَ قطرب: التَّهَجُّد، الْقيام، وَقَالَ كرَاع: التَّهَجُّد صَلَاة اللَّيْل خَاصَّة، وَعَن الْأَصْمَعِي: هجد يهجد هجودا: نَام،
وَبَات متهجدا، أَي: ساهرا. وَفِي (مَعَاني الْقُرْآن) للزجاج: هجدته إِذا نومته، وَفِي (الْمُحكم) : هجد يهجد هجوا وأهجد نَام والهاجد والهجود الْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ، وَالْجمع: هجود وهجد، وَفِي (الْجَامِع) : الهاجد النَّائِم وَقد يكون الساهر من الأضداد، فَأَما التَّهَجُّد فَأكْثر مَا يكون يسْتَعْمل فِي السهر، وَأكْثر النَّاس على أَن هجد: نَام. قَوْله: (نَافِلَة لَك)(الْإِسْرَاء: 97) . النَّافِلَة الزِّيَادَة، وَذكر ابْن بطال عَن الْبَعْض: إِنَّمَا خص سيدنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهَا كَانَت فَرِيضَة عَلَيْهِ، وَلغيره تطوع، وَمِنْهُم من قَالَ: بِأَن صَلَاة اللَّيْل كَانَت وَاجِبَة، ثمَّ نسخت فَصَارَت نَافِلَة، أَي: تَطَوّعا. وَذكر فِي كَونهَا نَافِلَة أَن الله تَعَالَى غفر لَهُ من ذنُوبه مَا تقدم وَمَا تَأَخّر، فَكل طَاعَة يَأْتِي بهَا سوى الْمَكْتُوبَة تكون زِيَادَة فِي كَثْرَة الثَّوَاب فَلهَذَا سمي نَافِلَة بِخِلَاف الْأمة فَإِن لَهُم ذنوبا محتاجة إِلَى الْكَفَّارَات، فَثَبت أَن هَذِه الطَّاعَات إِنَّمَا تكون زَوَائِد ونوافل فِي حق سيدنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا فِي حق غَيره، وَأما الَّذين قَالُوا: إِن صَلَاة اللَّيْل كَانَت وَاجِبَة عَلَيْهِ قَالُوا: معنى كَونهَا نَافِلَة على التَّخْصِيص أَي: أَنَّهَا فَرِيضَة لَك زَائِدَة على الصَّلَوَات الْخمس، خصصت بهَا من بَين أمتك وَذكر بعض السّلف أَنه يجب على الْأمة قيام اللَّيْل مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم، وَلَو قدر حلب شَاة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا غلط ومردود، وَقيام اللَّيْل أَمر مَنْدُوب إِلَيْهِ وَسنة متأكدة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي (صَحِيح مُسلم) :(أفضل الصَّلَاة بعد الْمَكْتُوبَة صَلَاة اللَّيْل، فَإِن قسمت اللَّيْل نِصْفَيْنِ فالنصف الآخر أفضل. وَإِن قسمته أَثلَاثًا. فالأوسط أفضلهَا) . وَأفضل مِنْهُ صَلَاة السُّدس الرَّابِع وَالْخَامِس لحَدِيث ابْن عَمْرو فِي صَلَاة دَاوُد صلى الله عليه وسلم، وَيكرهُ أَن يقوم كل اللَّيْل لقَوْله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا:(بَلغنِي أَنَّك تقوم اللَّيْل؟ قلت: نعم، قَالَ: لكني أُصَلِّي وأنام، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني) . فَإِن قيل: مَا الْفرق بَينه وَبَين صَوْم الدَّهْر غير أَيَّام النَّهْي فَإِنَّهُ لَا يكره عِنْد الشَّافِعِيَّة؟ قيل لَهُ: صَلَاة كل اللَّيْل تضر بِالْعينِ وَسَائِر الْبدن بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي فِي اللَّيْل مَا فَاتَهُ من أكل النَّهَار، وَلَا يُمكنهُ نوم النَّهَار إِذا صلى اللَّيْل كُله لما فِيهِ من تَفْوِيت مصَالح دُنْيَاهُ وَعِيَاله، وَأما بعض اللَّيَالِي فَلَا يكره إحياؤها مثل الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان وليلتي الْعِيد.
0211 -
حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ أبِي مُسْلِمٍ عنْ طَاوُوسٍ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا قامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّماواتِ والأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الحَمْدُ نُورُ السَّماوات وَالأرضِ ولَكَ الحَمْدُ وَوَعْدُكَ الحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وقولك حق وَالْجنَّة حق وَالنَّار حق والنبيون حق ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ والسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْكَ أنَبْتُ وبِكَ خاصَمْتُ وإلَيْكَ حاكَمْتُ فاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ أنْتَ المُقَدِّمُ وَأنْتَ المُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَاّ أنْتَ أوْ لَا إلاهَ غَيْرَكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ من جملَة التَّهَجُّد بِاللَّيْلِ.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن أبي مُسلم الْمَكِّيّ الْأَحول عبد الله خَال ابْن أبي نجيح، وَأَبُو مُسلم يُقَال اسْمه: عبد الله. الرَّابِع: طَاوُوس بن كيسَان الْيَمَانِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.، وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وسُفْيَان وَسليمَان مكيان وطاووس يماني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن عبد الله بن مُحَمَّد، وَفِي التَّوْحِيد عَن ثَابت بن مُحَمَّد مرَّتَيْنِ وَعَن قبيصَة بن عقبَة كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَعَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق، كِلَاهُمَا عَن ابْن جريج عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو النَّاقِد وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَابْن أبي عمر ثَلَاثَتهمْ عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد
ابْن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَفِي (النعوت) عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ، وَفِي (النعوت) أَيْضا عَن مَحْمُود بن غيلَان وَعبد الْأَعْلَى بن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن آدم عَن الثَّوْريّ بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن هِشَام بن عمار وَأبي بكر بن خلاف فرقهما، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قَامَ من اللَّيْل يتهجد)، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن أبي الزبير عَن طَاوُوس:(إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة من جَوف اللَّيْل يتهجد) ، وَظَاهر الْكَلَام أَنه كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء أول مَا يَقُول إِلَى الصَّلَاة، ويخلص الثَّنَاء على الله تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهله وَالْإِقْرَار بوعده ووعيده، وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس حِين بَات عِنْد مَيْمُونَة أَنه صلى الله عليه وسلم لما اسْتَيْقَظَ تَلا الْعشْر الْآيَات من آخر آل عمرَان، فَبلغ مَا شهده أَو بلغه، وَقد يكون كُله فِي وَقت وَاحِد، وَسكت هُوَ عَنهُ أَو نَسيَه النَّاقِل. قَوْله:(اللَّهُمَّ) أَصله: يَا الله، قَوْله:(أَنْت قيم السَّمَوَات وَالْأَرْض)، وَفِي بعض النّسخ:(أللهم لَك الْحَمد قيم السَّمَوَات وَالْأَرْض)، بِدُونِ لَفْظَة: أَنْت، وَلكنه مُقَدّر فِي صُورَة الْحَذف، لِأَن قيم السَّمَوَات وَالْأَرْض مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَهُوَ: أَنْت، وَفِي رِوَايَة أبي الزبير الْمَذْكُور:(أَنْت قيام السَّمَوَات وَالْأَرْض) ، والقيم وَالْقِيَام والقيوم بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الدَّائِم الْقيام بتدبير الْخلق الْمُعْطِي لَهُ مَا بِهِ قوامه، أَو الْقَائِم بِنَفسِهِ الْمُقِيم لغيره، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وقرىء الْقيام والقيم، وَقيل: قَرَأَ بهما عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: القيوم هُوَ الَّذِي لَا يَزُول وَقيل هُوَ الْقَائِم على كل نفس، وَمَعْنَاهُ مُدبر أمرهَا، وَقيل: قيام على الْمُبَالغَة من قَامَ بالشَّيْء إِذا هيأ لَهُ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَقيل: قيم السَّمَوَات وَالْأَرْض خالقهما وممسكهما أَن تَزُولَا، وَقَرَأَ عَلْقَمَة {الْحَيّ الْقيم} وَأَصله: قيوم، على وزن: فيعل، مثل: صيب أَصله: صيوب، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أصل القيوم القيووم، فَلَمَّا اجْتمعت الْيَاء وَالْوَاو، وَالسَّابِق سَاكن جعلتا: يَاء، مُشَدّدَة وأصل: الْقيام القوام، قَالَ الْفراء وَأهل الْحجاز: يصرفون الفعال إِلَى الفيعال، يَقُولُونَ للصواغ: صياغ. قَالَه الْأَنْبَارِي فِي (الْكتاب الزَّاهِر)، وَقَالَ قَتَادَة: معنى الْقيم الْقَائِم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم، وَقَالَ الْكَلْبِيّ:) هُوَ الَّذِي لَا بديل لَهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: القيوم الْقَائِم على الْأَشْيَاء. قَوْله: (أَنْت نور السَّمَوَات وَالْأَرْض) أَي: منورهما وقرىء {الله نور السَّمَوَات وَالْأَرْض} (النُّور: 53) . على صِيغَة الْمَاضِي من التَّنْوِير، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هادىء أهلهما. وَقيل: منزه فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض من كل عيب ومبرأ من كل رِيبَة، وَقيل: هُوَ اسْم مدح، يُقَال: فلَان نور الْبَلَد وشمس الزَّمَان. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: مزين السَّمَوَات بالشمس وَالْقَمَر والنجوم، ومزين الأَرْض بالأنبياء وَالْعُلَمَاء والأولياء. وَقَالَ ابْن بطال:(أَنْت نور السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ)، أَي: بنورك يَهْتَدِي من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقيل: مَعْنَاهُ ذُو نور السَّمَوَات وَالْأَرْض. قَوْله: (أَنْت ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لَك ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض) . قَوْله: (أَنْت الْحق)، مَعْنَاهُ: المتحقق وجوده، وكل شَيْء صَحَّ وجوده وَتحقّق فَهُوَ حق، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:{الحاقة} (الحاقة: 01) . أَي: الكائنة حَقًا بِغَيْر شكّ، وَهَذَا الْوَصْف لله تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ والخصوصية وَلَا يَنْبَغِي لغيره، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: أَنْت الْحق بِالنِّسْبَةِ إِلَى من يَدعِي فِيهِ أَنه إِلَه، أَو بِمَعْنى: أَن من سماك إل هَا فقد قَالَ الْحق، وَإِنَّمَا عرف الْحق فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وهما:(أَنْت الْحق وَوَعدك الْحق)، ونكر فِي الْبَوَاقِي لِأَن الْمسَافَة بَين الْمُعَرّف بِاللَّامِ الجنسية والنكرة قريبَة: بل صَرَّحُوا بِأَن مؤداهما وَاحِد لَا فرق إلَاّ بِأَن فِي الْمعرفَة إِشَارَة إِلَى أَن الْمَاهِيّة الَّتِي دخل عَلَيْهَا اللَّام مَعْلُومَة للسامع، وَفِي النكرَة لَا إِشَارَة إِلَيْهِ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: عرفهما للحصر لِأَن الله هُوَ الْحق الثَّابِت الْبَاقِي وَمَا سواهُ فِي معرض الزَّوَال، وَكَذَا وعده مُخْتَصّ بالإنجاز دون وعد غَيره، والتنكير فِي الْبَوَاقِي للتعظيم. قَوْله:(وَوَعدك الْحق) الْوَعْد يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْخَيْر وَالشَّر كِلَاهُمَا، وَالْخَيْر أَو الشَّرّ خَاصَّة. قَالَ الله تَعَالَى:{الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر} (الْبَقَرَة: 862) . وَلَيْسَ فِي وعد الله خلف، فَلَا يخلف الميعاد {وَيجْزِي الَّذين أساؤا بِمَا عمِلُوا} (النَّجْم: 13) . إلاّ مَا تجَاوز عَنهُ: {وَيجْزِي الَّذين احسنوا بِالْحُسْنَى} (النَّجْم: 13) . وَقيل فِي قَوْله: {إِن الله وَعدكُم وعد الْحق} (ابراهيم: 22) . أَي: وعد الْجنَّة من أطاعه ووعد النَّار من كفر بِهِ، وَيحْتَمل أَن يُرِيد: أَن وعده حق بِمَعْنى إِثْبَات أَنه قد وعد بالخق بِالْبَعْثِ والحشر وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب إنكارا لقَوْل من أنكر وعده بذلك، وَكذب الرُّسُل فِيمَا بلغوه من وعده ووعيده. قَوْله:(ولقاؤك حق) اللِّقَاء الْبَعْث أَو رُؤْيَة الله تَعَالَى، وَقيل: الْمَوْت، وَفِيه ضعف ورده النَّوَوِيّ. قَوْله:(وقولك حق) أَي: صدق وَعدل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: القَوْل يُوصف بِالصّدقِ وَالْكذب، يُقَال: قَول صدق أَو كذب، وَلِهَذَا قيل: الصدْق هُوَ بِالنّظرِ إِلَى القَوْل المطابق
للْوَاقِع، وَالْحق بِالنّظرِ إِلَى الْوَاقِع المطابق لِلْقَوْلِ. قلت: قد يُقَال أَيْضا: قَول ثَابت ثمَّ إنَّهُمَا متلازمان. قَوْله: (وَالْجنَّة حق وَالنَّار حق) فِيهِ الْإِقْرَار بهما وبالأنبياء، وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن خَبره بذلك لَا يدْخلهُ كذب وَلَا تَغْيِير. ثَانِيهَا: أَن خبر من أخبر عَنهُ بذلك وبلغه حق. ثَالِثهَا: أَنَّهُمَا قد خلقتا. قَوْله: (والنبيون حق)، بِأَنَّهُم من عِنْد الله. قَوْله:(وَمُحَمّد حق) ، إِنَّمَا خص مُحَمَّدًا من النَّبِيين، وَإِن كَانَ دَاخِلا فيهم، وَعطفه عَلَيْهِم إِيذَانًا بالتغاير، وَأَنه فائق عَلَيْهِم بأوصاف مُخْتَصَّة بِهِ، فَإِن تغير الْوَصْف ينزل منزلَة تَغْيِير الذَّات، ثمَّ جرده عَن ذَاته كَأَنَّهُ غَيره، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَان بِهِ وتصديقه، وَهَذَا مُبَالغَة فِي إِثْبَات نبوته، كَمَا فِي التَّشَهُّد. قَوْله:(والساعة حق) أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وأصل السَّاعَة: الْقطعَة من الزَّمَان، ثمَّ أطلق على يَوْم الْقِيَامَة فَصَارَ إسما لَهَا، وَتَأْتِي الْوُجُوه الْمَذْكُورَة فِيهَا، وَوجه ذَلِك أَنه لما لم يكن هُنَاكَ شمس وَلَا قمر وَلَا كواكب يقدر بهَا الزَّمَان وَسميت بالساعة فَإِن قلت: مَا وَجه إِطْلَاق إسم الْحق على مَا ذكر من الْأُمُور؟ وَمَا وَجه تكْرَار لفظ الْحق؟ قلت: أما وَجه الْإِطْلَاق فللإيذان بِأَنَّهُ لَا بُد من كَونهَا، وَأَنَّهَا مِمَّا يجب أَن يصدق بهَا، وَأما وَجه التّكْرَار فللمبالغة فِي التَّأْكِيد، والتكرير يَسْتَدْعِي التَّقْرِير. قَوْله:(أللهم لَك أسلمت) أَي: انقدت وخضعت لأمرك ونهيك، واستسلمت لجَمِيع مَا أمرت بِهِ ونهيت عَنهُ. قَوْله:(وَبِك آمَنت) أَي: صدقت بك وَبِمَا أنزت من أَخْبَار وَأمر وَنهي، فَظَاهره أَن الْإِيمَان لَيْسَ بِحَقِيقَة الْإِسْلَام وَإِنَّمَا الْإِيمَان التَّصْدِيق. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر: الْإِيمَان الْمعرفَة بِاللَّه، وَالْأول أشهر فِي كَلَام الْعَرَب. قَالَ الله تَعَالَى:{وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا} (يُوسُف: 71) . أَي: بمصدق إلاّ أَن الْإِسْلَام إِذا كَانَ بِمَعْنى الانقياد وَالطَّاعَة فقد ينقاد الْمُكَلف بِالْإِيمَان فَيكون مُؤمنا مُسلما وَقد يكون مُصدقا فِي بعض الْأَحْوَال دون بعض فَيكون مُسلما لامؤمنا وَقَالَ الْخطابِيّ الْمُسلم قد يكون مُؤمنا فِي بعض الْأَحْوَال دون بعض، وَالْمُؤمن مُسلم فِي جَمِيع الْأَحْوَال، فَكل مُؤمن مُسلم، وَلَيْسَ كل مُسلم مُؤمنا. قلت: الْبَحْث فِيهِ دَقِيق وَقد اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كتاب الْإِيمَان. قَوْله: (وَعَلَيْك توكلت) أَي: فوضت الْأَمر إِلَيْك قَاطعا للنَّظَر عَن الْأَسْبَاب العادية، وَيُقَال: أَي: تبرأت من الْحول وَالْقُوَّة وصرفت أَمْرِي إِلَيْك، وأيقنت أَنه لن يُصِيبنِي إلاّ مَا كتب لي وَعلي، ففوضت أَمْرِي إِلَيْك، ونِعْمَ الْمُفَوض إِلَيْهِ. قَالَ الْفراء: الْوَكِيل الْكَافِي. قَوْله: (وَإِلَيْك أنبت) أَي: رجعت إِلَيْك فِي تَدْبِير أَمْرِي، والإنابة الرُّجُوع أَي: رجعت إِلَيْك مُقبلا بِالْقَلْبِ عَلَيْك، وَمَعْنَاهُ: رجعت إِلَى عبادتك. قَوْله: (وَبِك خَاصَمت) أَي: وَبِمَا أَعْطَيْتنِي من الْبُرْهَان والسنان خَاصَمت المعاند وقمعته بِالْحجَّةِ وَالسيف. قَوْله: (وَإِلَيْك حاكمت) أَي: كل من جحد الْحق حاكمته إِلَيْك وجعلتك الْحَاكِم بيني وَبَينه، لَا غَيْرك مِمَّا كَانَت تحاكم إِلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من صنم وكاهن ونار وَنَحْو ذَلِك، والمحاكمة: رفع الْقَضِيَّة إِلَى الْحَاكِم. وَقيل: ظَاهره أَن لَا يحاكمهم إلاّ الله وَلَا يرضى إِلَّا بِحكمِهِ. قَالَ الله تَعَالَى: {رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين} (الْأَعْرَاف: 98) . وَقَالَ: {أفغير الله ابْتغى حكما} (الأنعما: 411) . ثمَّ من قَوْله: (لَك أسلمت) إِلَى قَوْله: (وَإِلَيْك حاكمت) قدم صَلَاة الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة فِيهِ للإشعار بالتخصيص وإفادة الْحصْر، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله:(وَلَك الْحَمد) فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع فَافْهَم. قَوْله: (فَاغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك، صلى الله عليه وسلم، مَعَ أَنه مغْفُور لَهُ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: للتواضع وهضم النَّفس والإجلال لله تَعَالَى والتعظيم لَهُ عز وجل. الثَّانِي: للتعليم لأمته ليقتدوا بِهِ فِي أصل الدُّعَاء والخضوع وَحسن التضرع وَالرَّغْبَة والرهبة، وَالْمَغْفِرَة: تَغْطِيَة الذَّنب وكل مَا غطى فقد غفر وَمِنْه: المغفر. قَوْله: (وَمَا قدمت) أَي: قبل هَذَا الْوَقْت (وَمَا أخرت) ، عَنهُ أَمر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالإشفاق وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ أَن يغْفر مَا يكون من غَفلَة تعتري الْبشر، وَمَا قدم: مَا مضى، وَمَا أخر: مَا يسْتَقْبل، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى:{ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} (الْفَتْح: 2) . وَقَالَ أهل التَّفْسِير: الغفران فِي حَقه يتَنَاوَل من أَفعاله الْمَاضِي والمستقبل. قَوْله: (وَمَا أسررت) أَي: وَمَا أخفيت. (وَمَا أعلنت) أَي: وَمَا أظهرت أَو الْمَعْنى: مَا حدثت بِهِ نَفسِي وَمَا تحرّك بِهِ لساني، وَفِي (التَّوْحِيد) زَاد من طَرِيق ابْن جريج عَن سلمَان:(وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني)، وَهُوَ من عطف الْعَام بعد الْخَاص. قَوْله:(أَنْت الْمُقدم وَأَنت الْمُؤخر) قَالَ ابْن التِّين: أَنْت الأول وَأَنت الآخر. وَقَالَ ابْن بطال يَعْنِي: أَنه قدم فِي البعص إِلَى النَّاس على غَيره صلى الله عليه وسلم بقوله: (نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ) ، ثمَّ قدمه عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة بالشفاعة بِمَا فَضله بِهِ على سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَسبق بذلك الرُّسُل.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الحَدِيث من جَوَامِع الْكَلم، إِذْ لفظ: الْقيم إِشَارَة إِلَى أَن وجود الْجَوْهَر وقوامه مِنْهُ والنور إِلَى أَن الْإِعْرَاض مِنْهُ، وَالْملك لما أَنه