الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِتَحْقِيقِ سَبْقِ الْإِرْسَالِ مِنَ اللَّهِ، مِثْلَ الْإِرْسَالِ الَّذِي جَحَدُوهُ وَاسْتَعْجَبُوهُ كَقَوْلِهِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [سُورَة يُونُس:
2] . وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَوْقِعِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ.
وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي أَمْرُهَا وَاحِدٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [65] . وَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [69] ، أَيْ فِي أُمَمِ الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ. فَهَذَا وَجْهُ إِضَافَةِ شِيَعِ إِلَى الْأَوَّلِينَ.
وكانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ سُنَّتُهُمْ، فَ (كَانَ) دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُمْ، وَالْمُضَارِعُ دَلَّ عَلَى تَكَرُّرِهِ مِنْهُمْ.
وَمَفْعُولُ أَرْسَلْنا مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفِعْلِ، أَيْ رُسُلًا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
مِنْ رَسُولٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُكْثِرُونَ الِاسْتِهْزَاءَ بِرَسُولِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ سَجِيَّةً لَهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا الِاسْتِهْزَاء بالرسول.
[12، 13]
[سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 12 إِلَى 13]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ سُؤَالٍ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ لِقَوْلِهِ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سُورَة الْحجر: 11] فَيَتَسَاءَلُ كَيْفَ تَوَارَدَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ مِنَ الضَّلَالِ فَلَمْ تُفِدْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ- عليهم السلام كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [سُورَة الذاريات: 53] .
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [سُورَة الْحجر:
9] إِذْ قَدْ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ حِفْظَ الذِّكْرِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكْفُرَ بِهِ مَنْ كَفَرَ. فَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لِإِجْرَامِهِمْ وَتَلَقِّيهِمُ الْحَقَّ بِالسُّخْرِيَةِ وَعَدَمِ التَّدَبُّرِ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتِيرَ لَهُمْ وَصْفُ الْمُجْرِمِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ صَارَ لَهُمْ كَاللَّقَبِ لَا يُشْعِرُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [سُورَة التَّوْبَة: 125] .
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي نَسْلُكُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْلَاكٌ فِي زَمَنِ الْحَالِ، أَيْ زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ تَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لِلْقُرْآنِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ شِيَعُ الْأَوَّلِينَ مَعَ مَا يُفِيدُهُ الْمُضَارِعُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ الْمُنَاسِبِ لِقَوْلِهِ: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ تَجَدَّدَ لِهَؤُلَاءِ إِبْلَاغُ الْقُرْآنِ عَلَى سُنَّةِ إِبْلَاغِ الرِّسَالَاتِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إِعْذَارٌ لَهُمْ لِيَحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ كَمَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُمْ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ هُوَ السَّلْكُ الْمَأْخُوذُ مِنْ نَسْلُكُهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهَا الْمُقَرَّرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [143] .
وَالسَّلْكُ: الْإِدْخَالُ. قَالَ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيُّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ أَيْ مِثْلُ السَّلْكِ الَّذِي سَنَصِفُهُ نَسْلُكُ الذِّكْرَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ هَكَذَا نُولِجُ الْقُرْآنَ فِي عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَهُ وَيَفْهَمُونَهُ إِذْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ وَيُدْرِكُونَ خَصَائِصَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِي عُقُولِهِمُ اسْتِقْرَارَ تَصْدِيقٍ بِهِ بَلْ هُمْ مُكَذِّبُونَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [سُورَة التَّوْبَة: 124- 125] .