الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْقَصْرُ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، وَهُوَ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْغَافِلِينَ غَيْرِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِي الْغَفْلَةِ حَتَّى عُدَّ كُلُّ غَافِلٍ غَيْرِهِمْ كَمَنْ لَيْسَ بِغَافِلٍ. وَمِنْ هُنَا جَاءَ مَعْنَى الْكَمَالِ فِي الْغَفْلَةِ لَا مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ.
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا صَارَ كَالدَّلِيلِ عَلَى مَضْمُونِهَا، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِكَلِمَةِ نَفْيِ الشَّكِّ.
فَإِنَّ لَا جَرَمَ بِمَعْنَى (لَا مَحَالَةَ) أَوْ (لَا بُدَّ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وَتَقَدَّمُ بَسْطُ تَفْسِيرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [22] .
وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَسَارَتَهُمْ هِيَ الْخَسَارَةُ، لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا النَّعِيمَ إِضَاعَةً أَبَدِيَّةً.
وَيَجْرِي هَذَا الْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ المتقدّمين فِي مَا صدق (مَنْ) مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ [سُورَة النَّحْل: 106] الْآيَةَ.
وَوَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ [22] هُمُ الْأَخْسَرُونَ، وَوَقَعَ هُنَا هُمُ الْخاسِرُونَ لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ هُودٍ [21] تَقَدَّمَهَا أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ
، فَكَانَ الْمَقْصُودُ بَيَان أَن خَسَارَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ مِنْ خَسَارَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
[110]
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 110]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَى قَوْلِهِ: هُمُ الْخاسِرُونَ [سُورَة النَّحْل: 106- 109] .
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ. وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُون هَذِه الجلة الْمَعْطُوفَةِ أَعْظَمُ رُتْبَةً مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، إِذْ لَا أَعْظَمَ مِنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [سُورَة آل عمرَان: 15] .
وَالْمُرَادُ بِ «الَّذِينَ هَاجَرُوا» الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْحَبَشَةِ الَّذِينَ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِالْهِجْرَةِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَا يَسْتَقِيمُ معنى الْهِجْرَة هُنَا إِلَّا لِهَذِهِ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ.
اه.
فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ الَّذِينَ آمَنُوا وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى وَعَذَرَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَذَابَ الْفِتْنَةِ بِأَنْ قَالُوا كَلَامَ الْكُفْرِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ مُطَمْئِنَّةٌ بِالْإِيمَانِ ذَكَرَ فَرِيقًا آخَرَ فَازُوا بِفِرَارٍ مِنَ الْفِتْنَةِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الشدّة يوهن جَامِعَة الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَوْفَى ذِكْرَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا. وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى حَظِّهِمْ مِنَ الْفَضْلِ بِقَوْلِهِ: هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، فَسَمَّى عَمَلَهُمْ هِجْرَةً.
وَهَذَا الِاسْمُ فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [سُورَة العنكبوت:
26] . وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِ «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ» ، أَيِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ فَارَقُوا مَكَّةَ.
وَسَمَّى مَا لَقَوْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِتْنَةً. وَالْفِتْنَةُ: الْعَذَابُ وَالْأَذَى الشَّدِيدُ الْمُتَكَرِّرُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ لِمَنْ يَقَعُ بِهِ صَبْرًا وَلَا رَأْيًا، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [سُورَة الذاريات: 14]، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [سُورَة البروج:
10] . وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [191] . أَيْ فَقَدْ نَالَهُمُ الْأَذَى فِي اللَّهِ.
وَالْمُجَاهَدَةُ: الْمُقَاوَمَةُ بِالْجُهْدِ، أَيِ الطَّاقَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُجَاهَدَةِ هُنَا دِفَاعُهُمُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ.
وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ مَكِّيَّتَانِ نَازِلَتَانِ قَبْلَ شَرْعِ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى قِتَالِ الْكُفَّارِ لِنَصْرِ الدِّينِ.
وَالصَّبْرُ: الثَّبَاتُ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَشَاقِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [45] .
وَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِحرف التوكيد وبالتوكيد اللَّفْظِيِّ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، وَالِاهْتِمَامُ يَدْفَعُ النَّقِيصَةَ عَنْهُمْ فِي الْفَضْلِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا
فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، دَخَلَتْ عَلَى حَفْصَةَ فَدخل عمر عَلَيْهِمَا فَقَالَ لَهَا: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْكُمْ، فَغَضِبَتْ أَسْمَاءُ وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ مَعَ النَّبِيءِ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي أَرْضِ الْبَعْدَاءِ الْبَغْضَاءِ بِالْحَبَشَةِ وَنَحْنُ كُنَّا نَؤْذَى وَنَخَافُ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ حَفْصَةَ قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَمَا قُلْتِ لَهُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:«لَيست بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ»
. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ هاجَرُوا مُتَعَلِّقٌ بِ «غَفُورٌ» مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَأُعِيدَ إِنَّ رَبَّكَ ثَانِيًا لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ مَعَ إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.