الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والْمُبِينُ: الموضح الْمُصَرّح.
[90، 91]
[سُورَة الْحجر (15) : الْآيَات 90 إِلَى 91]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
التَّشْبِيهُ الَّذِي أَفَادَهُ الْكَافُ تَشْبِيهٌ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ الْمُشَبَّهُ بِهِ.
وَأَمَّا الْمُشَبَّهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيتَاءَ الْمَأْخُوذَ مِنْ فِعْلِ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [سُورَة الْحجر: 87] ، أَيْ إِيتَاءً كَالَّذِي أَنْزَلْنَا أَوْ كَإِنْزَالِنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. شَبَّهَ إِيتَاءَ بعض الْقُرْآن للنبيء صلى الله عليه وسلم بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الْمُقْتَسِمِينَ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ عَلَى رُسُلِ الْمُقْتَسِمِينَ بِحَسْبِ التَّفْسِيرَيْنِ الْآتِيَيْنِ فِي مَعْنَى الْمُقْتَسِمِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ الْإِنْذَارَ الْمَأْخُوذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [سُورَة الْحجر: 89]، أَيِ الْإِنْذَارُ بِالْعِقَابِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة الْحجر: 92- 93] .
وَأُسْلُوبُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أُسْلُوبُ تَخَلُّصٍ مِنْ تَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم إِلَى وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ سَيُحَاسَبُونَ عَلَى مَطَاعِنِهِمْ.
وَهُوَ إِمَّا وَعِيدٌ صَرِيحٌ إِنْ أُرِيدَ بِالْمُقْتَسِمِينَ نَفْسُ الْمُرَادِ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [سُورَة الْحجر: 88] .
وَحَرْفُ عَلَى هُنَا بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ [سُورَة الْبَقَرَة: 185] وَقَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: 4]، وَقَوْلِ عَلْقَمَةَ بْنِ شَيْبَانَ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
وَنُطَاعِنُ الْأَعْدَاءَ عَنْ أَبْنَائِنَا
…
وَعَلَى بَصَائِرِنَا وَإِنْ لَمْ نُبْصِرِ
وَلَفْظُ الْمُقْتَسِمِينَ افْتِعَالٌ مِنْ قَسَّمَ إِذَا جَعَلَ شَيْئًا أَقْسَامًا. وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ هُنَا تَقْتَضِي تَكَلُّفَ الْفِعْلِ.
وَالْمُقْتَسِمُونَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَنَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ الْعَلَمِ، وَهُوَ كِتَابُ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ طَوَائِفُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَسَّمُوا كِتَابَهُمْ أَقْسَامًا، مِنْهَا مَا أَظْهَرُوهُ وَمِنْهَا مَا أَنْسَوْهُ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ مَصْدَرًا أُطْلِقَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، أَيِ الْمَقْرُوءِ مِنْ كُتُبِهِمْ أَوْ قَسَّمُوا كِتَابَ الْإِسْلَامِ، مِنْهُ مَا صَدَّقُوا بِهِ وَهُوَ مَا وَافَقَ دِينَهُمْ، وَمِنْهُ مَا كَذَّبُوا بِهِ وَهُوَ مَا خَالَفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أُجْمِلَ الْمُرَادُ بِالْمُقْتَسِمِينَ إِجْمَالًا بَيَّنَهُ وَصْفُهُمْ بِالصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَسِمُونَ غَيْرَ الْفَرِيقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا.
وَمَعْنَى التَّقْسِيمِ وَالتَّجْزِئَةِ هُنَا تَفْرِقَةُ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ لَا تَجْزِئَةُ الذَّاتِ.
والْقُرْآنَ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِاسْمَ الْمَجْعُولَ عَلَمًا لِكِتَابِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْكِتَابَ الْمَقْرُوءَ فَيُصَدَّقُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
وعِضِينَ جَمْعُ عِضَةٍ، وَالْعِضَةُ: الْجُزْءُ وَالْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَأَصْلُهَا عُضْوٌ فَحُذِفَتِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْهَاءُ مِثْلُ الْهَاءِ فِي سَنَةٍ وَشَفَةٍ. وَحَذْفُ اللَّامِ قُصِدَ مِنْهُ تَخْفِيفُ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ تَثْقُلُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَيْهَا، فَعَوَّضُوا عَنْهَا حَرْفًا لِئَلَّا تَبْقَى الْكَلِمَةُ عَلَى حَرْفَيْنِ، وَجَعَلُوا الْعِوَضَ هَاءً لِأَنَّهَا أَسْعَدُ الْحُرُوفِ بِحَالَةِ الْوَقْفِ.
وَجَمْعُ (عِضَةٍ) عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ عَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَالْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَهُمْ جَحَدُوا بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، أُطْلِقَ عَلَى كِتَابِهِمُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ كِتَابٌ مَقْرُوءٌ، فَأَظْهَرُوا بَعْضًا وَكَتَمُوا بَعْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [سُورَة الْأَنْعَام: 91] فَكَانُوا فِيمَا كَتَمُوهُ شَبِيهَيْنِ بِالْمُشْرِكِينَ فِيمَا رَفَضُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أَيْضًا جَعَلُوا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِضِينَ فَصَدَّقُوا بَعْضَهُ وَهُوَ مَا وَافَقَ أَحْوَالَهُمْ، وَكَذَّبُوا بَعْضَهُ الْمُخَالِفَ لِأَهْوَائِهِمْ مِثْلَ نَسْخِ شَرِيعَتِهِمْ وَإِبْطَالِ بُنُوَّةِ عِيسَى لِلَّهِ تَعَالَى، فَكَانُوا إِذَا سَأَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: هَلِ الْقُرْآنُ صِدْقٌ؟ قَالُوا: بَعْضُهُ صِدْقٌ وَبَعْضُهُ كَذِبٌ، فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُهُمُ اخْتِلَافَ
الْمُشْرِكِينَ فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [سُورَة الْأَنْعَام: 25] ، و «قَول كَاهِن» ، و «قَول شَاعِرٍ» .
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُقْتَسِمِينَ نَفَرٌ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ جَمَعَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا جَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا فَتَقَاسَمُوا مَدَاخِلَ مَكَّةَ وَطُرُقَهَا لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الْقُرْآنِ فَهُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ شِعْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَلَامُ مَجْنُونٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قَوْلُ كَاهِنٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا، فَقَدْ قَسَّمُوا الْقُرْآنَ أَنْوَاعًا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَوْصَافِهِ.
وَهَؤُلَاءِ النّفر هم: حنظة بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأَخُوهُ الْعَاصُ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ، وَزُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ صَيْفِيٍّ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَوْسُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.