الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُشَاكَلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُوقِبْتُمْ حَقِيقَةً لِأَنَّ مَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْأَذَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَصَدُوا بِهِ عِقَابَهُمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِ قَوْمِهِمْ وَعَلَى شَتْمِ أَصْنَامِهِمْ وَتَسْفِيهِ آبَائِهِمْ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَعاقِبُوا لِلْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ فَإِنَّ عَدَمَ التَّجَاوُزِ فِي الْعُقُوبَةِ وَاجِبٌ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُظْهِرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَجْعَلُهُمْ فِي قَبْضَتِهِمْ، فَلَعَلَّ بَعْضَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَبْعَثُهُ الْحَنَقُ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِي الْعِقَابِ. فَهِيَ نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [سُورَة النَّحْل: 110] .
وَرَغَّبَهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى، أَيْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَبِالْعَفْوِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ أَجْلَبُ لِقُلُوبِ الْأَعْدَاءِ، فَوُصِفَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، أَيْ خَيْرٌ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعُقُوبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سُورَة فصّلت:
34] ، وَقَوْلُهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سُورَة الشورى:
40] .
وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى الصَّبْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ صَبَرْتُمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سُورَة الْمَائِدَة: 8] .
وَأَكَّدَ كَوْنَ الصَّبْرِ خَيْرًا- بِلَامِ الْقَسَمِ- زِيَادَةً فِي الْحَثِّ عَلَيْهِ.
وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالصَّابِرِينَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِصِفَةِ الصَّابِرِينَ، أَيِ الصَّبْرُ خَبَرٌ لجنس الصابرين.
[127]
[سُورَة النَّحْل (16) : آيَة 127]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
خُصَّ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَقَامَهُ أَعْلَى، فَهُوَ بِالْتِزَامِ الصَّبْرِ أَوْلَى، أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْمُعَاقَبَةِ.
وَجُمْلَةُ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، أَيْ وَمَا يَحْصُلُ صَبْرُكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِيَّاكَ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَبْرَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم عَظِيمٌ لَقِيَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ أَشَدَّ
مِمَّا لَقِيَهُ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ. فَصَبْرُهُ لَيْسَ كَالْمُعْتَادِ، لِذَلِكَ كَانَ حُصُولُهُ بِإِعَانَةٍ مِنَ اللَّهِ.
وَحَذَّرَهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: 3] .
ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَنْ لَا يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، وَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَحْصُلُ فِي النَّفْسِ بِاخْتِلَافِ الْحَوَادِثِ الْمُسَبِّبَةِ لَهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَ النَّبِيءَ مَرَّةً بِالْأَذَى عَلَنًا، وَمَرَّةً بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارِ أَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُ بِعَدَمِ مُتَابَعَتِهِ، وَآوِنَةً بِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ لَهُ وَهُوَ تَدْبِيرُ الْأَذَى فِي خَفَاءٍ.
وَالضَّيْقُ- بِفَتْحِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْيَاءِ- مَصْدَرُ ضَاقَ، مِثْلُ السَّيْرِ وَالْقَوْلِ. وَبِهَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ.
وَيُقَالُ: الضِّيقُ- بِكَسْرِ الضَّادِ- مِثْلُ: الْقِيلِ. وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سُورَة هود: 12] . وَالْمُرَادُ ضِيقُ النَّفَسِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْجَزَعِ وَالْكَدَرِ، كَمَا اسْتُعِيرَ ضِدُّهُ وَهُوَ السَّعَةُ وَالِاتِّسَاعُ لِلِاحْتِمَالِ وَالصَّبْرِ.
يُقَالُ: فُلَانٌ ضَيِّقُ الصَّدْرِ، قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْحِجْرِ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [سُورَة الْحجر: 97] . وَيُقَالُ سَعَةُ الصَّدْرِ.
وَالظَّرْفِيَّةُ فِي ضَيْقٍ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ لَا يُلَابِسُكَ ضِيقُ مُلَابَسَةِ الظَّرْفِ لِلْحَالِّ فِيهِ.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مِنْ مَكْرِهِمْ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُنْسَبِكُ إِلَى مَصْدَرٍ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مِنَ التجدّد والتكرّر.